احمد رباص

السلطة والجماعة تتحالفان ضد السكان

أحمد رباص – حرة بريس

من خصائص الحكي الذي أخوض مغامرته هنا والآن أنه يستمد واقعيته من أكدز التي تعني مكانا خاصا بالراحة (باحة استراحة بالمعنى الصحراوي) وتحيل على مدينة صغيرة واقعة على الطريق الرابطة بين مراكش وتمبوكتو. وبما أنها ظلت لمدة طويلة عاصمة منطقة مزكيطا بشمال وادي درعة، فقد لعبت دورا اقتصاديا هاما. لكن سنوات الجفاف العجاف وتوفر وسائل النقل العمومي جعلت عددا كبيرا من ساكنة أكدز مجبرة على مغادرة المدينة قصد البحث عن عمل مما جعلها تفقد أهميتها..
في بداية الموسم الدراسي 1992-1993، انتقلت إلى المدرسة الفرعية لآيت عبد الله البعيدة عن المدرسة المركزية بتحليقة طائر. تم تكليفي آنئذ بتدريس الرياضيات والفرنسية لتلاميذ مستويات الرابع والخامس والسادس. تقع هذه المدرسة على يمين الطريق غير المعبدة المؤدية إلى قنطرة تانسيخت. تتوفر على سكن طيني قديم يقيم فيه معلم من مدينة مكناس تربطه علاقة صداقة مع معلمة عينت قبل عامين بالمدرسة المركزية، وهي مطلقة تتحدر من مدينة واد زم. يحيط بهذه المدرسة سور قصير مبني بالطين والحجارة.
في الأيام الأولى المؤثثة بالاستعدادات للدخول المدرسي، اتصلت بأحد الرجال العقلاء الذين يحترمون التزاماتي النضالية وكتاباتي الصحافية التي كنت أتطوع بها لرصد بعض مظاهر التهميش في المنطقة وطلبت منه أن يبحث لي عن سكن قريب من المدرسة. فعلا، استجاب الرجل الطيب لطلبي ووضع رهن إشارتي بيتا معزولا عن دوار آيت يحيى ومجاورا لمسكن طيني تقيم فيه عائلة عطاوية أعياها الترحال بين الجبال الشاهقة والكثبان الرملية، فاختارت الاستقرار بين ظهراني سكان آفرا آيت سدرات.أمام البيت، ثمة بئر تتجمع حوله عادة بنات الدوار من أجل التصبين والتزود بالماء الطبيعي الزلال. بين البئر وباب البيت، هناك ممر خاص بالدواب والراجلين يؤدي مباشرة إلى دوار آيت خلفون.
بدأت الدراسة بداية فعلية وعادت مياهها إلى مجاريها..مع توالي الأيام، تأقلمت مع الأجواء والأوضاع، إلا أن تعدد المستويات حال دون تحقيق الأهداف المرجوة وحكم على رضاي الشخصي بالامتناع. خلال الدورة الأولى، زارني المفتش الذي لم تكن لي بهويته معرفة سابقة..الشيء الوحيد الذي أعرفه عنه هو أنه حريص على التحدث بلغة موليير أثناء لقاءاته التربوية..من خلال لونه الأسود، بدا لي أنه ولد ونشأ في ربوع جنوبنا الحبيب..يبدو من خلال ملامحه أنه صارم وجاد..استولى على مقعدي واحتل مكتبي وأخذ يتفرج علي وأنا موزع بين مستويين دراسيين غير متجانسين، ناهيكم عن اختلاف كل تلميذ عن الآخر من حيث الجنس والذكاء.
علمت علم اليقين أن المفتش، وهو يقوم بعمله، لم يستحضر إكراها نفسيا تحدث عنه عالم النفس بالدوين في وقت مبكر (1902) حيث قال: “إن الشعور بوجود آخرين يراقبوننا يحطم كل العمليات العقلية. فلن نفكر كما نريد أن نفكر، ولن نستطيع أن ننفذ ما نصنعه من خطط، ولن نستطيع أن نتحكم في عضلاتنا بذات الدرجة من الكفاءة، ولا أن نركز انتباهنا ونوجهه كما نريد، ولن نستطيع أن نفعل أي شيء نحبه، إذا كا ن شعورنا بأن كل ما نفعله هو موضع مراقبة الآخرين، هو المسيطر علينا”.
في خريف 1992، بعد انتهاء الانتخابات الجماعية، جاء من أكدز إلى منطقة أفرا وفد نقابي ينتمي أعضاؤه كلهم إلى مركزية نوبير الأموي الذي كان آنذاك بسجن القنيطرة على إثر تصريحه الناري ل”الباييس” ضد حكومة بلاده. بحكم انخراطي في هذه النقابة بمجرد ما وطأت قدماي أرض أكدز، تعرفت على أعضاء الوفد الذي حل بالمنطقة في مهمة تعبوية لها صلة ببرنامج نقابتهم الانتخابي. عندما التقيت بهم أخبروني بصوت واحد برغبة صاحب سيارة تعليم بأكدز في ان ألتحق به حالا لأجل غرض لم يفصحوا لي عن طبيعته. وبما أن حصص عملي كانت في هذا اليوم مبرمجة في الفترة الصباحية، فقد تسنى لي الذهاب إلى أكدز لملاقاة من طلب ملاقاتي عبر الوفد النقابي. في المساء، لدى وصولي لعاصمة “مزكيطا” التقيت بصاحبي الذي أرسل في طلبي فرحب بي واستضافني معززا مكرما في تلك الليلة في بيته الكائن في رباط أكدز بعيدا شيئا ما عن المركز. عندما سألته عن المطلوب مني أعرب لي عن رغبته في أن يبلغ للرأي العام معلومات حصل عليها بعد مشاركته في الانتخابات الجماعية السابقة تحت يافطة حزب الميزان.
في بيت صاحب سيارة التعليم الذي لم يحرز من الأصوات على ما يؤهله لشغل منصب مستشار جماعي، رتبت جلسة ليلية حضرها، فضلا عن صاحب البيت، عبد ربه وزميلان لي؛ يعمل أحدهما في السلك الثانوي الإعدادي والآخر مدرس في السلك الابتدائي يعود محتده إلى قلعة مكونة..أخذت قلما وكراسة وبدأت أسجل الأجوبة التي أتلقاها من جلسائي عن كل سؤال سؤال إلى أن استحال بياض صفحات الكراسة إلى سواد. في صباح الغد، خرجت من الدار المضيافة بعد تناول وجبة الفطور متأبطا أوراقي وفي نيتي تحرير مقال إخباري عن منطقة أكدز بعد الانتخابات الجماعية لعام 1992 استنادا إلى ما بحوزتي من معلومات جادت بها جلسة لم تكن في الحسبان. تحقق الحلم فعلا وصدر المقال بجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان “السلطة والجماعة تتحالفان ضد السكان” يوم 16 دجنبر من نفس العام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube