احمد رباص

عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر (الجزء الخامس)

أحمد رباص – حرة بريس

لتوضيح هذه الفكرة عن الوعي التاريخي الذي يهم عقلية المجتمع بأسره وليس فقط المؤرخين المحترفين، يستشهد العروي بأحداث الانقلاب العسكري بالصخيرات الذي أجهض عام 1971 قائلا: “هذه الأحداث تذكرني بما قاله الحجوي عن أحداث عام 1908. في ذلك الوقت، تعارضت مصالح فرنسا مع مصالح إنجلترا وفي عام 1971 وقعت تناقضات بين المصالح الأمريكية والمصالح الفرنسية”.
يميز العروي بين مستويات ضمن مبحث التاريخ. البعض يقارب هذا الأخير كما لو كان شهادة يدلي بها الإنسان عن نفسه. يمكن أيضا اعتباره مؤشرا، علامة تركها الماضي علينا وعلى بيئتنا الطبيعية. كما يصر العروي على أن الإطار النظري أساسي للمؤرخ، لأنه يسمح له بفهم خلفية الأحداث والمسكوت عنه في التاريخ. في هذا الصدد ، كتب يقول: “إنما بالفعل في إطار النظرية والتأويل يمكن للمرء أن يحكم بشكل أفضل على ما يجب أن يكون عليه عمل المؤرخ.»
هناك التاريخ العام الذي يروي الأحداث التي وقعت في العالم منذ خلقه وحتى أيامنا هاته، والتاريخ الذي يحفظه ويبنيه المؤرخ. الفرق بين الاثنين هو أن التاريخ العام كوني، فهو تحت تصرف الإنسان شريطة أن يتم اكتشافه، بينما المحفوظ هو الذي تم بوعي من قبل المؤرخ.
ومع ذلك، عن هذا التمييز يمكننا القول إن التاريخ العام يجب أن يُنظر إليه على أنه كوني في محتواه وأن يُنظر إليه على أنه إنساني بمجرد حفظه. إنما من هذا المنظور يصر العروي على مفهوم التاريخ كماض/حاضر. هذا الماضي هو حاضر بالآثار والبقايا الموروثة عن تلك الفترات المنصرمة، ولكن يمكن أن يكون الماضي حاضرا باعتباره نتيجة لعمل المؤرخ الذي يعيش في الوقت الحاضر.
يعني ذلك أن المعرفة التاريخية هي دائما نسبية. إنها شخصية وتلبي متطلبات السياقات التي يعيش فيها المؤرخون. ومهما فعلوا، لا يستطيع الأخيرون الانفصال عن ازمانهم. ووفقا للعروي، الماضي التاريخي عالم عقلي. التاريخ المحفوظ أو المبني عبارة عن حركة دائمة بين الماضي والحاضر.
استحضار الماضي هو موقف مستمر في حياة كل فرد. وطالما أن الإنسان نشط، لا يتوقف عن استحضار الماضي وتمثله باستمرار لأنه يعتقد أنه يضيء مساره في الحياة إن حاضرا أومستقبلا. ما يميز المؤرخ عن الآخرين وعيه بالتغييرات. التاريخ صراع دائم بين الأعراق والقبائل والأمم والطبقات والأحزاب، وما إلى ذلك، من أجل ضمان الحد الأقصى من الأرض والثروة والسلطة. يستخدم العروي هذه الفرضية ويطبقها على مساوئ السياسة الاستعمارية في المغرب.
يتساءل العروي عما يمكن قوله عن الاستعمار مما لا يمكن قوله عن الحرب و السياسة. يضاعف المؤلف من الأمثلة لتوضيح فكرة سيادة رؤية المسيطر. هيرودوت يروي فقط الرؤية المهيمنة للملك الفارسي العظيم الذي لم يكن يتصور دولة صغيرة مثل اليونان يمكن لها أن تقاومه. روى ثيوسيديد الصدام بين إسبارطة، كقوة برية، وأثينا، كقوة بحرية.
يواصل العروي استشهاداته ويتوقف عند حالة قبائل الجزيرة العربية التي كانت، كما يقول، مستثناة من الحضارة والتي تتقاتل في ما بينها قبل أن تتوحد بالقرآن في ما يشبه المعجزة.
أوروبا الفيودالية، التي استنزفتها هي الأخرى الحروب التي كانت لا تتوقف إلا لكي تستمر، استطاعت أن تتوحد استجابة لنداء البابا. هذه الوحدة هي ما جعلت ميلاد عالم جديد أمرا ممكنا.
بالنسبة للعروي فإن المؤرخ ملزم بقراءة الوثائق في التزام تام بمنطق إنتاجها حتى لا يسقط في التاريخ الأيديولوجي. وهكذا يصل المؤلف إلى الاستنتاج التالي: إذا تمكن الأيديولوجي من إسكات المؤرخ في مجتمع ما، يصبح الأخير أعمى. لهذا، يطلب العروي من قارئه أن يقيم تمييزا بين القراءة والتاويل. ويلاحظ أن التاريخ حقق الكثير من التقدم منذ أن ترك الخطابة وعانق النقد.

يلفت العروي انتباه أولئك الذين يكتفون بنشر وتقديم نصوص بدون الانخراط في التفسير. يتركون فراغا ليقوم الباحثون الأجانب بملئه. بهذه العملية، يصبح هؤلاء الأخيرون قيمين على تراثنا وينجزون البحوث الحقيقية. في هذا الشأن، أطلق العروي الصرخة التالية: الأجانب هم الذين يبحثون عن الوثائق ويحللونها ويستخرجون منها المعلومات التي يصنفونها كما يحلو لهم. وهكذا أصبحوا الحماة الحقيقيين لتراثنا؛ بذلك يحتكرون في الوقت نفسه البحث الحقيقي. هم أكثر حظا للابتكار في مجال التأويل.
من خلال هذا الموقف، عبر العروي عن شعوره ووعيه القوميين في حواراته مع الكتابة الاستعمارية. حاول الدخول في هذا النقاش لتمييز الأمور عن بعضها البعض. وعندما يتناول الوضع الداخلي في المغرب، يلاحظ بدايات انهيار البنيات الاجتماعية. كباحث، حاول فهم الوقائع وتحليلها وشرحها والكشف عن أسباب الأزمات ونتائجها. لكن العروي يغير نبرته عندما يتناول المواقف، الفرضيات والنظريات التي طورها التأريخ الاستعماري عن المجتمع المغربي وعن مؤسساته. لا يتردد في إرجاع المعطيات إلى مكانها كما هو الحال مع الفوضى التي مر بها المغرب في بداية القرن العشرين.

(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube