ديانات وعقائدفضاء الخبراء

حديث وحوار – الحلقة الرابعة: فك بعض ألغاز المعجزات

بداية تحياتي الخالصة لمتتبعي هذه الحلقات من سلسلة حديث وحوار. تلبية لاقتراح بعض المحاورين تتناول حصة هذا اليوم، الحديث عن العلاقة بين الأساطير والمعجزات كما جاءت بها التوراة. والتي تمّت الاشارة اليها في الحلقة السابقة. أأكد مرة أخرى، أن أهمية هذا الحوار المفتوح، حول قضايا أساسية في وجودنا الروحي والاجتماعي. هو بالضبط الاجابة عن التساؤلات التي تخالج الفكر بحرية وأريحية. ما يعني وكما أشار اليه شيخ الأزهر علي عبد الرازق في كتابه القيم “الإسلام وأصول الحكم”. والذي لم يتهاون، رغم الاضطهاد والاقصاء الذي لحقه طوال حياته من لذن عقيمي الرأي، المستبدين بمشاعر الناس. لقد استند الشيخ عبد الرازق لإحكام العقل عند معالجته مسألة الخلافة في الحضارة الإسلامية. وذلك عندما طرحت كقضية مقدسة بالنسبة لمصير المسلمين، لما اطيح بالخلافة العثمانية عام 1924. كان منطقه هو تحكيم العقل. مؤكدا أنه لا يضر ايمان المومن في شيء، عند معالجة القضايا الدينة بما فيها مسألة الخلافة، التي تعني الامامة الدينية والسلطنة الدهرية. حيث أقرّ أن الخلافة ليست ركن من أركان الإسلام. وكان المتزمتون لفهم العقيدة الإسلامية يطرحونها كركن بدونه لا تقوم قيامة للمسلمين. محتجين أنه بالخلافة قام الإسلام ولن تقوم له قائمة بدونها. كان ردّ الشيخ علي عبد الرزاق على مثل هذا الطرح ردّا عقليا بالحجة والبرهان. لذا خلال حوارنا لا نناقش الايمان الروحي الذي هو باطني للفرد.

لقد فرق سغموند فرود واضع علم التفسير النفساني أو النفسي، بين الايمان من جهة وما عداه من جهة أخرى، نفس ما قام به الشيخ على عبد الرازق. علما أن العالم فرود كان ماديّا لا يؤمن بأية عقيدة وضعية أو سماوية. لذا ما يهمّنا ونشدد عليه، هو حرية الفكر والاعتقاد وجمالية الكون وسلامة التعايش أي يجعل حياة الانسان متزنة وهادفة.

كان موضوع حلقة اليوم مدخلا للحديث عن تراثنا الحضاري. لا للمزيد من ركامه المتزايد على الدوام. لحد أمكن القول معه، ليس هناك حضارة كتبت عن تاريخها مثل الحضارة العربية الاسلامية. فحضارة الاغريق والرمان التي سادت كإمبراطوريه عظيمة لزمان طويل. منها انطلق الفكر العقلي والنظام القانوني السائد اليوم. كتب عنها الغير مرات مما كتبوا هم، اي الاغريق والرمان عن أنفسهم. علما أنه في اليونان ترجم من السريانية الكتاب المقدس الذي يحوي التوراة والانجيل وعمم نشره. ومن روما شاع أمر الكنيسة الكاثوليكية واستتب سلطانها ليعم المعمورة. لقد تحرر الاغريق والطليان من عقدة تاريخهم، وذلك لما تفتحت عقولهم خلال عصر الأنوار. الذي عم معظم بلدان الغرب في القرن الثامن عشر ليجعل حدا لسيطرة الفهم اللاهوتي للإيمان والعقيدة الذي روجت له الكنيسة. التحرر من اللاهوت الكنيسي سمح عبر مخاض فكري واجتماعي وسياسي عسير، بناء الدولة الاجتماعية، دوله المؤسسات الديمقراطية.

نجاح المجتمعات الغربية في تحقيق نوع متقدم من الحرية الفردية والجماعية، حصل لما ازاحوا الزائف الوهمي في حضارتهم القديمة وركزوا على الثابت فيها لتطويره بشكل عقلي. وبما أن مركز حضارتهم وثقافتهم كانت هي شرائع وأعراف الكتاب المقدس الذي روجت له الكنيسة لتتحكم في رقاب الناس، ابتعدوا عن دغمها وراجعوا الطقوس والمعتقدات. زيادة على البحث العلمي والفكري فقد قاموا ابتداء من القرن التاسع عشر بالحفريات والاكتشافات والاستنباطات لآثار الحضارات الإنسانية التي عمرت لآلاف السنين خلت واختفى ذكرها. وهي حضارات استوطنت ما سمي تاريخيا بالهلال الأخضر، أي المنطقة الممتدة من مصر الى بلاد الرافضين بالعراق، مرورا بسوريا وأرض كنعان التي عمرت فلسطين ولبنان والأردن. بعد فك الرسوم الهيروغليفية المصرية والكتابة الأكادية والسميرّية وغيرها من الرسوم والكتابات القديمة اكتشفوا، كما أشرنا اليه في حلقة سابقة، تبيّن أن تلك الحضارات، التي عمرت لآلاف السنين، بلغت مستوى رفيع من التطور الثقافي، سواء ما خص الشعر والأدب وعلوم الطب والجراحة والصيدلة والتنجيم والفنون المعمارية والفلاحة. التي وصلت حدا من التقنية يمكنه مضاهاة ما وصلته الزراعة الحديثة اليوم. وهذا في ما يخص الاحتفاظ بالحبوب وتلاقحها. كما تفننوا في عملية السقي والحفاض على الماء ببناء السدود وتوزيعه المحكم بواسطة السواقي. فعبر الفنيقيون تعرف الإغريق والأمازيغ وغيرهم من الأقوام فنّ الزراعة.

تحدثت التوراة على أن مسقط رأس إبراهيم، أول الأنبياء والرسل، كان بمدينة أور. والتي بقيت عبارة عن اسم لا يعرف مكانه لآلاف السنين، حتى أبانت دراسات الحفريات وجوده بجنوب العراق. عن بعد حوالي مائة وستون كلومتر شمال البصرة باتجاه الكوفة. لقد أثبتت الاكتشافات الحفرية أن مدينة أور كانت مدينة عامرة وغنية شكلت عاصمة الدولة الكلدانية، قبل أن تضمها الإمبراطورية البابلية التي نشأ فيها إبراهيم. مما يفهم منه أن إبراهيم نشأ في مدينة أور العامرة المتحضرة، حيث كان بها الحرفيّين من مختلف الصناعات والتجار والمثقفين الذين يحسنون القراءة والكتابة، شعراء ونحويّين وحكماء ورجال دين. أسطر هذا، لأنه في التصور الذي روجته القصص التوراتية أن إبراهيم وعشيرته عاشوا عيشة بدوية اعتمادها الرعي. ونحن نعلم ما لحياة البدو من خشونة الحياة ومحدودية الثقافة، الأمر الذي يناقد ومستوى التفكير الذي تصفه به التوراة إبراهيم في سفر التكوين.

الى حدود الاكتشافات الأثرية كانت التوراة والانجيل وما روجت له الكنيسة المسيحية واليهودية، هو المرجع المعتمد لفهم تاريخ شعوب منطقة الهلال الأخضر. نفس المرجع الذي أخده عنهم مؤرخي حضارتنا للحديث عن العصور لما قبل الإسلام، بدءا بابن إسحاق وتلميذه ابن هشام. فالأعلام أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير والبغدادي وابن خلدون وغيرهم. ألا يحق لنا اليوم وقد تطورت المعرفة مراجعة ما جاء به تاريخنا ووضعه على محك مجهر الاكتشافات العلمية؟ هذه الاكتشافات التي تسمح فك ألغاز بعض المعجزات التي جاءت بها التوراة، كما سنحاول تلخيص بعضها.

1- قصة الطوفان

إذا سألت الناس في ربوع الأرض عن الطوفان، كانت الإجابة، بما لا يدع الشك، هي قصة سفينة نوح التوراتية. لكن تبيّن بعد الاكتشافات العلمية أن قصة الطوفان موجودة في مختلف الثقافات وفي مختلف القارات. ترجع الاكتشافات أن حدوث الطوفان المهول يرجع الى المراحل الجليدية. حيث كان الثلج يغطي الأرض مآت الأمتار. والتي عند ذوبانها تغمر مياهها المناطق المنخفضة القريبة من البحر بعشرات الأمتار. وهذا ما تداركه البشر نهاية المرحلة الجليدية الأخيرة التي انتهت زهاء احدى حشر ألف سنة خلت بعد أن دامت قرابة مائة ألف عام. حسب الآبار التي حفرها الأثريون بمنطقة مدينة أور والتي وصل عمقها خمسة أمتار، بها طبقتين من التراب. في الطبقة العليا تمّ العتور على بقايا أوان من الفخار مصنوعة بالآلات. وفي الطبقة السفلى بقايا أوان من الفخار مصنوعة باليد. وبين الطبقتين، طبقة ثالثة من الرواسب التي تركها الماء حين جف. مما يدل أن الماء غطى الطبقة السفلى لمدة طويلة. وحتى يتمّ التأكد من هذا، تمّ حفر عدة أبار قرب المدن القديمة بمنطقة ما بين النهرين، مثل بابل والريش وأكّاد قرب بغداد الحالية، ولقد أعطت الحفريات نفس النتيجة الأولى. وهكذا تم تحديد المنطقة التي كان قد غمرها الماء خلال المرحلة الجليدية بحوالي 630 كلومتر طولا و160 كلومتر عرضا. مساحة تظهر قليلة بالنسبة لقصة الطوفان التي تدعي الأساطير اكتساحها كل سطح الأرض. الا أنه ينبغي أن نعلم أن ذلك حدث حوالي تسعة آلاف عام قبل الميلاد، أي ما يقارب سبعة ألف قبل نشأة إبراهيم الخليل، كام العالم محصور في تلك المنطقة بالنسبة لمن عايشوا المرحلة.

لقد تم فك الكتابة المسمارية لحوالي اثني عشر لوحة من الفخار تحكى شعرا ملحمة جلجامش التي كتبت قبل التوراة بقرون. والتي تتحدث عن شخصية أسطورية عاشت قبل وبعد الطوفان. وهي نفس القصة التي جاءت بها التوراة بشأن النبي نوح. في كتابه “نزع التوراة من الرمال” يعطي الباحث الألماني المسيحي ولنير كيلر، ملخصا للبحوث ومقارنة بين القصة التوراتية وقصة رجل بابل التي أتت في ملحمة جلجامش.

2 – قصة يوسف امرأة الصدر الأعظم

من بين أساطير المصريين القدامى قصة زوجة الأخ الأكبر لفلاح راوضت أخاه الأصغر لكنه كان صادقا فرفض. نفس الأمر حكته القصة التوراتية بالنسبة ليوسف بن يعقوب الذي راوضته امرأة الصدر الأعظم ورفض.

ويزيد دارسو أساطير الأولين ومقارنتها بما جاءت به التوراة، فيثبتون مجمل تاريخ مصر سواء المرسوم أو المكتوب. دققوا فيه أسماء وتواريخ ملوك الفراعنة للثلاثة وثلاثين عائلة التي حكمت مصر خلال ثلاثة آلاف عام. ذكروا عددا كبيرا من قادة الجيش والوزراء والكهنة والأطباء والحكماء والشعراء ولم يجدوا ذكرا لبني إسرائيل خلال أربعة قرون، أي منذ أن استقر بها يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهم ووالديه واخوته الى حين ظهور النبي موسى. أي حوالي أربعة قرون. لم يتم لبني إسرائيل فيها ذكر، لا عبر الرسوم أو المخطوطات. خاصة يوسف الذي كان يحتل منصبا قريبا من الصدر الأعظم. وهذا خلافا لما حدث بالنسبة لغيرهم من الأقوام الغير المصريّين مثلهم، والذين تمّت الإشارة الى أثار وجودهم. أمثال البابليين والحيتين والآشرين والكنعانيّين والأمازيغ والفرس والرمان والنوبة ولأفارقه. ترجع بعض البحوث عدم ذكر يوسف الى كونه كان حاكما في عهد الهكسوس الذين احتلوا مصر من 1730 الى 1580 قبل الميلاد. هذا لا يعني أنه لم تتواجد بمصر ذرية إسحاق بن إبراهيم، الملقب بإسرائيل، الذين ذكرتهم التوراة والذين ولا شك كانوا من بين الأقوام الذين استقروا شمال مصر واستخدمهم المصريّين سواء كصنّاع أو كعبيد. لكن رغم هذا تظل قصة يوسف وزليخة امرأة العزيز أي الصدر الأعظم أو رئيس الوزراء بلغة العصر، نسخة طبق الأصل لقصة سبقتها ورددتها أساطير المصريّين القدامى والتي هي قصة زوجة الفلاح التي راوضت الأخ الأصغر، والذي كان روعة في الجمال والكمال والصدق فرفض الى ما تدعوه اليه زوجة أخيه وفاء للحرمة. وهكذا خوفا أن يصل الخبر الى زوجها اتهمت الزوجة الأخ الصغير زورا وبهتانا.

في الحلقة اللاحقة نتابع فك ألغاز بعض القصص التي جاءت بها التوراة أو على الأقل مناقشتها على ضوء ما توصل اليه علم الأنثروبولوجيا وعلم مقارنة الاديان والمعتقدات. كل هذا من أجل إزالة الغشاوة على كثير من المعتقدات التي يضفي عليها طابع القدسية وما هي بذلك. وحيث البحث فيها وانتقادها وتجاوزها لا يضر ايمان الفرد في شيء. فمثلا فكرة الشعب المختار التي نعت بها اليهود أنفسهم. لقد أخدوها عن المصريّين القدامى الذين كانوا لا يختلطون بغيرهم من الشعوب لاعتبار تلك الشعوب أقل منهم حضارة. كما كان المصريون القدامى يميزون أنفسهم بختانة أبنائهم كطهارة لأجسامهم من الوباء. وهذا قبل ان تقرّها الديانة المساوية، نسبة للنبيّ موسى، والتي أخدت الطهارة عن المصريّين.

مع أطيب التحيات

محمد المباركي

في الفاتح من فبراير 2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube