فضاء الخبراءمستجدات

الشعار الأمني وإشكالات الشرعية الرمزية: محاولة في التفكيك السردي والتأويل النقدي

ذ. مصطفى المنوزي

شهدت بعض المنابر الإعلامية حملة قوية لتثمين أداء المؤسسة الأمنية، وصلت حد تخصيص الصفحات الأولى كاملة لصورة مدير الأمن والمخابرات الداخلية، مع ترك حيز صغير غير مناسب لأجل تغطية أنشطة ملكية وازنة.وقد حاولت هذه الحملة- سيميولوجيًا- إبراز التحول الإيجابي الذي عرفته ممارسات الإدارة الأمنية، خاصة على مستوى التحديث والترشيد، وهو توجه لا يمكن إلا تثمينه، إذا كان هدفه تعزيز الثقة ورفع منسوب الاطمئنان العام و المجتمعي ؛ رغم أن طموح المغاربة المتصالحين مع ماضيهم ووطنهم ودولتهم كان يتوخى معاينة وقع كفاحهم ، لأنهم يأملون معايشة إنتقال ملموس على مستوى العقيدة الأمنية ، بمثابة ممر آمن نحو الديموقراطية ؛ غير أن هذه التعبئة الإعلامية “من أسفل”، لم تجد صداها في المستوى الرمزي “من أعلى”، حيث تم اعتماد شعار رسمي من طرف هيئة استشارية مرتبطة بالمديرية العامة للأمن الوطني، هو: “فخورون بخدمة أمة عريقة وعرش مجيد”، وهو شعار يثير عدة تساؤلات من حيث انسجامه مع التحولات المفترضة، لا سيما أنه يميل إلى تأكيد الثوابت دون فتح أفق نحو تعاقدات مؤسساتية جديدة.و في هذا السياق، نسعى إلى محاولة تفكيك هذا الشعار الأمني، ليس فقط كصيغة لغوية، بل كسردية محمّلة بدلالات رمزية، تُعيد إنتاج تصور تقليدي للأمن، وتؤثر، ضمنيًا، في طريقة تلقّي مشاريع سياسية أخرى، من قبيل مغرب ما بعد مبادرة الحكم الذاتي المُدوللة ( سنخصص لها مقالة خاصة) وسنوظف في هذا التحليل أدوات سيميولوجية وتأويلية، مستلهمين مقاربات فوكو وريكور، وهابرماس، بالإضافة إلى فلسفة العناية كما يؤطرها المفكر المغربي محمد بهضوض.أولًا: الشعار كسردية تقليديةيبدو أن الشعار يحيل إلى:* تماهٍ غير مشروط بين الأمن والولاء للعرش، دون وساطة مؤسساتية ، في سياق تكريس سردية المجال الأمني المحفوظ .* تقديم الأمن كامتياز أخلاقي لا كحق خاضع للحكامة والمساءلة.* استحضار الهوية التاريخية كإطار مرجعي ثابت، على حساب الهوية السياسية المتحولة والتي عبر عنها دستور 2011 . إنه شعار لا يُفسح المجال لفاعلية الشعب كمصدر للشرعية، ويُكرّس تمركزًا سلطويًا في تصور الأمن، بما يُقصي أي إمكانية لحوار داخلي حول مفاهيم السيادة والمشاركة والاندماج.ثانيًا: تحليل لغوي سيميائيعبارة “فخورون” تحيل إلى انفعال عاطفي، لا إلى التزام وظيفي.* فعبارة “أمة عريقة” تُجمّد التاريخ وتستدعيه كشهادة جاهزة بدل أن تستشرف الحاضر والمستقبل لوطن تشكل منذ زمان ، وتناهضه سرديات وتأكل منه سرديات بديلة أخرى . * “عرش مجيد” حق قد يراد به باطل ، والعبارة تضع السلطة السياسية – الأمنية في موقع متعالٍ، غير خاضع للنقاش العمومي ، ويذكر بسردية إلغاء خطاب ثورة الملك والشعب ( 20 غشت ) ، إقصاءً لصوت ( أو أرشيف ) المقاومة وجيش التحرير الوطني مصدر الفخر والإعتزاز كمؤسيين في ماي 1956 . ولأن الشعار صيغ كجملة خبرية نهائية، لا تطرح سؤالًا ولا تدعو إلى مساءلة: لماذا الفخر؟ كيف تُقاس “الخدمة”؟ ولمن؟ثالثًا: منطق الهيمنة الناعمةإن الشعار يُقدّم الأمن كـ”خدمة” لا كـ”حق”، مما يجعله منحة تمنح من الأعلى، لا مطلبًا يُنتزع عبر المشاركة. وهو يخلو من أي ذكر للمواطن أو المجتمع المدني، بل يُحيل مباشرة على رموز سيادية، بما يُقصي إمكانات التشاركية ويُضعف آليات المحاسبة، وكمحاولة للتخفي وراءها أو الإستنجاد بها .رابعًا: مقارنات مرجعية ( حالات صديقة أو شقيقة ) * داخليًا: الشعار يتناقض مع سابقه “الأمن المواطن”، ويُمثّل تراجعًا عن روح دستور 2011.* خارجيًا: في فرنسا مثلًا الشعار هو “الشرطة في خدمة الشعب”، وفي الإمارات “أمنك هويتنا”، حيث يُستبعد التقديس لصالح الانخراط.خامسًا: أسئلة مقلقة فكريا وسياسيا : هل يخدم هذا الشعار المواطن أم يُكرّس تموقع المؤسسة الأمنية في هرم السلط؟ماذا يُخفي؟ هل يعني ضمنًا أن من يعترض عليه يخرق “الثوابت”؟وهل لاستحضار تاريخ 16 ماي (1930 الظهير البربري أو 2003 أحداث فندق فرح والمقبرة العبرية ) دور في صياغة هذه الرسالة الضمنية؟كيف نعيد صياغته ليُعبر عن أمن قائم على الحقوق والكرامة؟ مثلًا: “نحمي حقوقكم ونصون كرامتكم”.سادسًا: التفكيك كأفق تحرري يبني التعاقدات من جديد.لذلك فالشعار ليس مجرد صياغة بلاغية، بل أداة هندسة رمزية، تعيد إنتاج علاقة غير متوازنة بين المواطن والدولة. وهو يغلق المجال العمومي باسم الإجماع، ويمارس النسيان المؤسسي بدل الاعتراف بأفق الإنصاف ، كما يُنتج “ذاتًا مطيعة” كما يقول فوكو، ويفتقر إلى الاعتراف بالألم التاريخي كما يؤكد ريكور، ويقصي التفاعل العمومي كما يبين هابرماس.سابعًا: سؤال استحضار فلسفة العناية وأخلاقياتها حسب محمد بهضوض، خطاب الدولة ينبغي أن يرتكز على:1. أخلاق العناية: وهذا ما لا يظهر في خطاب تبجيلي يُخفي التفاوتات.2. التشارك: الشعار لا يتضمن أي إشارة للمجتمع ، اللهم الأمة دون الوطن ! 3. الإبداع: الشعار يعيد إنتاج سرديات ماضوية، دون اجتهاد في بناء تعاقد رمزي جديد.4. الحقوق: الأمن لا يُقدم كحق، بل كامتياز.وختاما نؤكد على أنه في سياق التحول الذي تعرفه المؤسسة الأمنية، لا يمكن إنكار أهمية الاعتزاز بالنجاحات المهنية، شرط أن يُوجَّه هذا الاعتزاز نحو تعزيز الثقة العامة، وتكريس ثقافة الخدمة العمومية القائمة على المسؤولية والمساءلة. لكن ما يثير الانتباه هو أن سرديات الاحتفاء، كما عكستها بعض المنابر، انزلقت من التفاخر المؤسسي المقبول إلى التمجيد الشخصي لمدراء بعينهم، بما يحوّل الفعل المؤسساتي إلى سردية فردانية، تُربك مبدأ استمرارية المرفق العام، ولا تقوي البناء التراكمي للثقة بما يكفي ، مع واجب الإحترام والوقار للأشخاص والألقاب . لذا فإن حوكمة سرديات الاحتفاء تقتضي ضبط خطاب الإنجاز، ليكون موجّهًا للرأي العام باعتباره شريكًا في تقييم الأداء، لا كمُتلقٍّ لخطاب تبجيلي مغلق. وهذا يفترض التمييز بين الرمزية المؤسسية التي تُستحق بالتقارير والمؤشرات، وبين الشخصنة الرمزية التي قد تكرّس نوعًا من الولاء العمودي، وتُعيد إنتاج منطق التقديس، بدل ترسيخ منطق الخدمة والواجب المهني . وإن التفكير النقدي التوقعي ( كمقاربة دأبنا على تبنيها منذ سنين) يحفزنا لطرح السؤال الجوهري: هل يمكن إعادة بناء الشعارات الأمنية لتصبح أدوات تواصل مدني، تعزّز الثقة عوض الخوف، وتُرسّخ ثقافة المشاركة عوض التبعية الرمزية؟وما السبيل نحو خطاب أمني يربط المسؤولية بالمحاسبة، يُشجّع على استباق المخاطر لا الاكتفاء بتقديس الرموز ، في زمن إشتد فيه عود لغة الخشب والشر التافه كحقيقة إعلامية مدرة للدخل والمنافع غير العمومية ؟ثم، هل يمكن أن نفخر فعلًا، ونحن لم نضمن بعد شروط وضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؟ وهل يمكن إبداع أدوات تحليلية جديدة تتجاوز التفسير الظاهري نحو تحليل جدلي يُفكّك البنى المعرفية والسلطوية المُضمَنة في الخطاب الأمني؟ ليبقى السؤال الواجب ملامسته تشاركيا هو مدى توافر منسوب مطلب الحكامة الأمنية ومطلب ضمير الذاكرة ومطلب حوكمة السرديات الأمنية كمجالات تطوقنا الأمانة المعرفية والواجب الحقوقي وكذا المسؤولية الإجتماعية من أجل نعتني بها ؟ وفي هذا السياق، يُعاد طرح السؤال حول ضرورة تفعيل وتنصيب المجلس الأعلى للأمن المنصوص عليه في الفصل 54 من الدستور المغربي، باعتباره الإطار الدستوري الأمثل لضمان التنسيق بين مختلف الفاعلين الأمنيين، وتأطير السياسات العمومية الأمنية، وتفعيل الرقابتين التشريعية والقضائية كإشارة رمزية قوية للديموقراطية التشاركية ؛ ولتطبيق الحكامة الموعودة كأسباب نزول،ثم للحيلولة دون تغوّل أي مرفق أو تحول رمزي لامؤسستي في سرديات الأمن الوطني ، بشكل يذكرنا بأم الوزارات وصدرها الأعظم الذي جثم ، عقودا، على صدر الدولة والمؤسسات والحق والحريات ، ومات مهاجرا قسريا ، في عاصمة الإستعمار عميلا لفلوله ولطغمة الجوار . ولكي نستفيد من التاريخ الوطني المغربي والإنساني العالمي ، وجب الحذر من تأثير الحقيقة الإعلامية وصنع الأوهام والأوثان ؛ ففي كثير من السياقات المماثلة يتحول النفخ الإعلامي من أداة إخبارية إلى تقنية رمزية تُعلي من شأن الأشخاص على حساب نجاعة المؤسسات، حيث تُصنع “هيبة القائد” كفزاعة أو منقذ، فيُختزل الأمن في صرامته، والعدالة في اسمه، والسياسة في دهائه، بينما تُهمّش المؤسسية وتتوارى آليات المساءلة والنجاعة خلف التمجيد الشخصي دون إرادة ووعي المعني بالأمر ؛ وهكذا يُستبدل التباهي العمومي بالإصلاح والحوكمة، بالتبجح الفردي الذي يعيد إنتاج الخوف بدل بناء الثقة وتحفيز المصداقية كسلوك عمومي مؤسستي ، ويُعمّق الرداءة المؤسساتية بدل تجاوزها، مما يحول الإعلام من فضاء تنوير إلى أداة تدجين رمزي ؛ وتكريس بقاء الحال على ما كان دون حتى قطائع صغرى أو ترشيد التواصل التاريخي ، في إنتظار إنضاج شروط القطيعة الكبرى .* ملحوظة : تعمدت نشره بعد الإحتفال وليس قبله أو خلاله . مصطفى المنوزي رئيس المركز المغربي للديموقراطية والأمن .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID