فضاء الخبراء

بين القمع السائل وإدارة الثقة: قراءة في السياسة كسردية أمنية

بين القمع السائل وإدارة الثقة: قراءة في السياسة كسردية أمنية(إلى أرواح من علمونا التدرج في تدبير منسوب الثقة المتاح )في السياسة كما في الحياة اليومية، يظل الإنسان أمام مفارقة دقيقة: كيف نوازن بين الثقة التي نمنحها للمؤسسات والفاعلين السياسيين، وبين الحذر الذي يحمي حقوقنا وكرامتنا من الانتهاك؟ كثيرًا ما يغري السرد السياسي، المزين بالوعود الديمقراطية وحرية التعبير، المواطنين برفع سقف الثقة، غير أن تجربة الواقع غالبًا ما تكشف عن خيبات موجعة، حين يتضح أن السلطة تفوض القمع الناعم عبر وسطاء، وأن الإعلام والسياسات التمثيلية تتحول إلى أدوات لإضفاء الشرعية على الإجراءات القسرية، بدل أن تكون أدوات للمساءلة والمراقبة.هنا يظهر البعد الماكيافلي للقمع السائل: الحاكم يبقى في صورة الضامن، بينما تنتقل القرارات القاسية إلى منتخبين، صحافة موجهة، وشبكات من البلطجية والشبيحة عند الحاجة. هذه الوسائط تجعل العنف غير المباشر أكثر مرونة وتكيفًا، لكنها في الوقت نفسه تفرغ السياسة من مضمونها، وتحول الديمقراطية التمثيلية إلى سردية أمنية، تُدار لضبط المجتمع لا لتمثيله.مع ذلك، لا يعني هذا الانزلاق في التشاؤم المطلق. تمامًا كما في إدارة الثقة الفردية، حيث يُنصح بخفض سقف التوقعات لمواجهة خيبات الارتطام بالواقع، يصبح لزامًا على المواطن والمجتمع ممارسة إدارة متدرجة للثقة السياسية: تفويض مشروط، مراقبة مستمرة، واستعداد للمراجعة. فالثقة هنا ليست صكًا يمنح دفعة واحدة، بل مسار اختبار، يتعزز مع كل خطوة صادقة، ويترنح مع كل خيبة أو التباس، كما أن الأمل لا يتعارض مع الحذر، بل يكتمل به.في هذا الأفق، تتبلور ثلاثة مستويات للحذر-الأمل في السياسة:1. الواقعية الرصينة: إدراك أن الديمقراطية التمثيلية وحرية الصحافة يمكن أن تُستغل كأدوات للقمع الناعم، وأن الثقة المطلقة بدون مراجعة قد تُفضي إلى الانخداع.2. الروح التأملية: الحفاظ على شعلة الأمل في إمكانية الإصلاح والمساءلة، فلا تتحول الحيطة إلى يأس، ولا يُلغى العمل السياسي والحقوقي.3. القوة البلاغية: صياغة الموقف السياسي والمدني بوضوح، بحيث يكون قرارًا واعيًا، متدرجًا، قادرًا على الدفاع عن الحقوق والمبادئ دون الانغماس في أوهام المؤكدات الزائفة.وبالتالي، يصبح المواطن والسياسي على حد سواء مطالبين بخفض سقف الثقة ليس انسحابًا، بل كأداة للتعقل، لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، الأمل والخذلان، الحذر والمساءلة. فالحوار المستمر، والتقييم المتدرج، هما اللذان يمنحان القدرة على منح الثقة واستعادتها، دون أن يتحول الفعل السياسي إلى مجرد تنفيذ سردية أمنية مهيمنة.فما رأي أصدقائي الواقعيين والغيورين على المسير والمصير المشتركين ؟

مصطفى المنوزي

مدينة المضيق

يوم 20 غشت 2925

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID