فيسبوكيات

مصطفى الزين يكتب مقالة تفاعلية حول حدود الإبتكار والإبداع الشعري ومحدودية النقد العربي القديم

أردت، أمس البارحة ، أن أكتب تعليقا على تدوينة الصديق الباحث الناقد الدكتور مصطفى بوخبزة :
حدود الابتكار في النقد العربي القديم.
لكني وجدتني أكتب مقالة تفاعلية طالت على حدود التعليق. ولهذا ، رأيت أن أنشرها على جداري،بعد نص الصديق مصطفى بوخبزة :
يُجْمِلُ المرزوقي الباب الأول من أبواب عمود الشعر في عبارة ” شرف المعنى وصحته “، ويقوم على ثلاثة شروط:

  • أولها : أن يكون مبتكرا فيحرز بذلك عل القَدح المُعَلَّى ضمن المقام الرفيع من الشرف. وكلما قَصَّرَ المبدع في الابتكار انحط درجة في سلَّم الشرف .
  • ثانيها : أن يطابق المعنى الغَرَض. فللمدح معانيه وللهجاء معانيه.
  • ثالثها : أن يسبك المعنى بشكل دقيق وعلى نحو مؤثر في السامع مُتَوَخِيَّاً بذلك النفاذ إلى وهمه. فيتلقَّفُه المتلقي تلقُّفَ المستفيد من الغرض المستغني به عن الشرح والتأويل.
    عل الحد الأقصى في الابتكار هو ما وسمه القدامى ” بالتشابيه العقم ” كتشبيه عنترة لحركة الذباب بحركة من يريد قدح النار ويداه مقطوعتان في قوله ( من الكامل ):
    هَزِجَاً يَحُكُّ ذِرَاعَهُ بِذِرَاعِهِ
    قَدْحَ المُكِبِّ عَلَى الزِّنَادِ الأَجْذَمِ
    بوركت ،صديقي الكريم دكتور مصطفى العزيز،
    استسمحك،صديقي، في أن أعنون تعليقي التفاعلي هذا مع تدوينتك الجميلة ب”حدود الإبتكار الشعري في النقد العربي المحدود”:
    و مقصودي من محدودية النقد العربي القديم إنما هي قصوره ،بحكم محدودية المنهج والرؤية، والسياق التاريخي المبكر، عن النظر إلى النصوص في كليتها.وبالتالي، عدم إدراك المعنى والدلالة والصورة الشعرية.. إلا في نطاق نظرة جزئية أفقية ؛أو قل : موضعية، كما لو كانت مجرد شاهد بلاغي..
    ولعل ما دفعني إلى استحضار هذه المحدودية والقصور هو البيت الشاهد التشبيهي من معلقة عنترة الذي اتخذه المرزوقي مثالا في باب “شرف المعنى وصحته “، وشرطه الأقصى ،وهو أن يسبك المعنى…،على نحو مؤثر في السامع…
    إن بيت عنترة هذا، في وصف حركة الذباب الهزج تشبيها بالمكب الأجذم على الزناد.. ،وإن كان حقا يثير الإعجاب، وينفذ إلى وهم السامع متلقفا..، إلا أن إعجاب المرزوقي ، وكل ناقد ، وكل متلقٍ منا، وإندهاشنا جميعا بعبقرية عنترة في التصوير، وإعجازه ،سيتعمق أكثر إن نحن نظر نا إلى البيت في سياق الصورة العمودية التي تستغرق مقطعا من سبعة أبيات، وعندما ندرك حقا المشبه والمشبه به الأصلي.وهذا هو المقطع العنتري المدهش:
    إذْ تَسْتَبِيْكَ بِذِي غُروبٍ وَاضِحٍ
    عَـذْبٍ مُقَبَّلُـهُ لَذيذُ المَطْعَـمِ
    وكَـأَنَّ فَارَةَ تَاجِرٍ بِقَسِيْمَـةٍ
    سَبَقَتْ عوَارِضَها إليكَ مِن الفَمِ
    أوْ روْضـةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نَبْتَهَـا
    غَيْثٌ قليلُ الدَّمنِ ليسَ بِمَعْلَـمِ
    جَـادَتْ علَيهِ كُلُّ بِكرٍ حُـرَّةٍ
    فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَـمِ
    سَحّـاً وتَسْكاباً فَكُلَّ عَشِيَّـةٍ
    يَجْـرِي عَلَيها المَاءُ لَم يَتَصَـرَّمِ
    وَخَلَى الذُّبَابُ بِهَا فَلَيسَ بِبَـارِحٍ
    غَرِداً كَفِعْل الشَّاربِ المُتَرَنّـمِ
    هَزِجـاً يَحُـكُّ ذِراعَهُ بذِراعِـهِ
    قَدْحَ المُكَبِّ على الزِّنَادِ الأَجْـذَمِ إن المشبه به الأصلي إنما هو ثغر حبيبة الشاعر عبلة[ ذو الغروب- الواضح- عذب المقبل-لذيذ المطعم)،والمشبه به إنما هو اثنان:
    الأول : هو فارة تاجر المسك،أو العطور؛ فعبلة عندما تقبِل ،فإنها تستبيك بريح ثغرها،بعوارضها، حتى لكأن تاجر العطور أقبل عليك بقسيمة ،سبق إليك من فمها.
    وهذا التشبيه،في أشذاء عطر الحبيبة أي في الرائحة، لا يستغرق إلا هذا البيت الأول
    أما الثاني؛ فيستغرق باقي المقطع؛ ستة أبيات كاملة، وهو التشبيه المدهش المعجز،الذي يستند إلى خيال شعري خلاق ؛ المشبه هو دائما ثغر عبلة ؛ شفتاها.لكن المشبه به هذه المرة إنما هو(الروضة) الأُنف؛الروضة البرية ؛ يشبهها ثغر عبلة في وجوه متعددة ؛كلاهما ريان نديان، ثغرها كما لو أنه هذه الروضة في أعقاب أن جاد عليها ماءالغيث، لكنه غيث قليل الدَّمن، لا يجرف ( ليس بمعلمِ) من حُرِّ السحاب البكر سحا وتسكابا ،على بعد العشيات من أيام ، فغادرها ندية ريانة، بها قرارات أو غدران أو تلاع صغيرة من أثر ذلك الغيث العميم اللطيف .. في شكل ولون الدراهم الفضية..
    إن عنترة ، في هذه الصورة، كأنه سنمائي يزَوِّمُ ثغر حبيبته، فيقربه( ولايقاربه)، فإذا به هذه الروضة الغناء الفاغمة . زوَّمَ حيوية ثغر عبلة حتى بدت لك فيه تلك القرارات الفضية كالمرايا الدائرية تشرق وتلتمع.
    لكنه لم يقتصر في تزويمه هذا على حيوية وجاذبية ثغر عبلة على النبت والماء والألوان، وإنما جعل تلك الحيوية حياة، أو كائنات حية حيوية نشوانة،أعطاها صورة الذباب،لكنه،طبعا ،ليس ذباب المزابل، ولا هو الذباب الإلكتروني الأزرق، وإنما هو ذباب الرياض والحدائق والبساتين الأنف؛ قد خلا بهذه الروضة مطمئنا في نشاطه وحيويته ، غردا نشوان كما لو كان شاربا (سكران) يترنم..
    ثم يصل عنترة إلى هذا البعد في صورة ذباب الروضة، فجعله يحك ذراعا بذراع، وأبدع في هذه الصورة، إذ جعل الذباب كأنه أجذم مقطوع أحد ذراعيه يريد أن يقدح نارا..
    فالصورة الكبرى الأصلية ليست هي صورة الذباب الذي يحك ذراعا بذراع ..ويترنم غردا هزجا كفعل الشارب، ولا هي حتى صورة الروضة؛ وإنما هي صورة ثغر عبلة.
    وقبل أن أبين لك، صديقي العزيز ، وللقارئ الكريم، لمَ يركز ،ويزوِّم، عنترة ثغر حبيبته؟ دعني أشر إلى عبقرية عنترة في إعطاء هذه الصورة الكلية أبعادا تذكرنا بالتجاوب ، أو “تراسل الحواس “الرمزي الذي أشار إليه الشاعر الفرنسي شارل بودلير ؛ تجاوب الألوان والعطور والأصوات..ألا نجد عند عنترة هنا قبله بقرون عديدة، ذلكم التجاوب متحققا بين ألوان نبت الروضة الأنف المختلفة وزهورها ، ولون أو ألوان تلك الغدران قررات الماء، وبين عطور وروائح هذه الروضة الفاغمة، التي سبقت اليك ..كأنها فارة تاجر العطور.. بين الأصوات: أصوات ذباب الروضة الغرد الهزج المترنم؟ إضافة الى حيوية الحركة التي كبرها بمجهره الشعري.
    هذا التصوير المدهش العنتري لثغر حبيبته/أنثاه، يأتي في سياق قصيدة ،بل شعرية، يحاول فيها عنترة إثبات جدارته بالحرية والتحرر من عبودية أهله وقومه . وقد توسل من أجل ذلك بسلاحين هما شاعريته وفروسيته الاستثنائيتين..واتخذ من الحب واقعا ورمزا للاندماج في قومه، ورمزا لاستعادة حالة الاكتمال الأصلية للإنسان؛ تكامل الذكورة والأنوثة ( حسب أسطورة الأندروجين /الخنثى)، التي فقدها نتيجة جرح الشطر ؛ شطر الشق الذكوري عن شقه الأنثوي؛ لهذا يعتبر الفم والثغر( بالإضافة إلى الفرج) جرحا ،يذكرنا بذلك الانشطار ، ويدعونا إلى الانصهار مجددا بالحب، من خلال التقبيل ، ولأْمِ الجرحين..ولهذا ، أيضا، يستحضر عنترة ثغر / روضة عبلته حتى وهو جريح في الحرب :
    ولقد ذكرتـك والرمــاح نواهـل
    منِّي وبِيض الهند تقطر من دمي
    فودَدت تقبيل السيوف لأنها
    لمعت كبارق ثغرك المتبسِّمِ
    بل إنه ، في معلقته، التي منها صورة الروضة بذبابها ، ليسقط حب عبلة حتى على قرنه المدجج الصريع، فيتغزل في حسن بنانه والمعصم، لأن أي جرح يذكره بجرح عبلة وجرحه:
    فتركْته جزَرَ السباع ينشنه
    يقضمن حسن بنانه والْمِعْصَمِ
    عود على بدء:
    هذه الصورة العمودية الكلية ، في مقطع من سبعة أبيات كاملة متواشجة، لا تصور الذباب إلا باعتبار صورته التشبيهية ، تؤثث ،ضمن ما يؤثث صورة الروضة، التي صور بها عنترة ثغر حبيبته الذي يحن إليه،باعتباره جرحا يلتئم بالحب والوصال ؛ هذه الصورة لم يكن نقدنا البلاغي القديم قادرا على إدراكها في كليتها،وفي أبعادها التعبيرية،نظرا لمحدوديته، إنشغالا ومنهجا ورؤية.
    فها هو المرزوقي الناقد البلاغي يحبر ( نظرية عمود الشعر) مستكملا صياغتها في أبوابها السبعة ،في سياق يبدو نقيض الإبداع، وربما الابتكار أيضا؛ يقدم تلك النظرية في إطار مقدمة شرحه مختارات أبي تمام “ديوان الحماسة ” منطلقا كما لو من مسلمة نجاح أبي تمام ناخبا شعريا، مقابل عدم التوفيق الذي لازمه شاعرا، مصادرا على ابداعه ، متناسيا كون أبي تمام إنما ينتخب من منجز الشعر في الجاهلية والإسلام، وليس من شعر عصره، أو بالأحرى، من الشعر الذي يجب أن يناسب عصره(العباسي) وحضارته وتطوراته المختلفة الحاسمة، وكونه شاعرا أدرك جيدا مضايق الشعر ،في عصره،فرفع سقف الإبداع ، ولم يستنم إلى تقليد القدماء الذين اختار وانتخب من أشعارهم ،بمعرفة ودراية لم يتوفرا لغيره، وهو شاب أنذاك،بل مات شابا،للأسف. كما كان عنترة أدرك قبله ،بأكثر من قرنين ونصف، مضايق الشعر لما افتتح معلقته بهذا التساؤل:هل غادر الشعراء من متردم؟
    ولعل أهم المتردمات/المضايق، التي اقتحمها عنترة ، متردم الصورة الشعرية، المعبرة عن أصالة ذاتية إبداعية، كما تمثلت في تصوير جرح ثغر حبيبته بالروضة الأنف، وما صورة الذباب إلا جزء من حيويتها، وعبقرية في التعبير عن الحب ، لا استعراضا أو تقليدا، وإنما جرحا واجتراحا، فكان رائد الحب العذري الذي سيزدهربعده في العصر الأموي.
    صفرو- الخميس 9 دجنبر2021.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube