فيسبوكياتمستجدات

في الذكرى الأولى لرحيل أبي محمد سبيلا .. سجل التعديلات

إناس سبيلا

لن أتكلم عن الأستاذ محمد سبيلا المناضل الذي انخرط في مخاضات السياسة ومعاركها منذ أن كان طالبا، ولن أتكلم أيضا عن محمد سبيلا المفكر والفيلسوف الذي جعل من قلمه أداة للتنوير والتغيير، ومدخلا للدفاع عن قيم الحداثة، وما بعد الحداثة، ثم ما بعد الإنسانية le transhumanisme ، وهو الموضوع الذي أثار اهتمامه في الآونة الأخيرة. بل سأتحدث عن محمد سبيلا الأب والصديق، محمد سبيلا الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معان راقية وإنسانية. فما أجمل أن يكون لك أب اسمه محمد سبيلا الذي كان دائما حاضرا وقريبا من أسرته رغم انشغالاته. أتذكر طفولتي وأبي حاضر يلعب معي ويحملني فوق ظهره أو على كتفيه. لا يبخل علي بشرح كل ما يدور حولنا، من أبسط الأمور إلى أكبرها. لن أقول أعقدها لأن أبي لم يكن يحب التعقيد ولا مجال للتعقيد بالنسبة له. فلكل مسألة حلها، حسب تعبيره. وما الكلام إلا هواء يخرج من أفواهنا لا يتعين أن نحاسب الناس عليه. ولعل هذه البساطة، سواء شكلا أو في عمق تفكيره، هي من ضمن الصفات التي أبهرتني والتي عايشتها فيه. والحداثة التي كانت محور اهتمامه ومدار تفكيره، كانت لها أيضا تمظهرات في البيت وفي علاقته بنا.

كان رحمه الله معارضا للجمود والتقليد وللأحكام المسبقة. كان مدرسة للقيم والحريات، للتسامح والتعايش، وللطيبوبة المطلقة. وما يميز أيضا شخصية أبي الراحل رحمه الله هي إنسانيته المفرطة. لقد كان إنسانيا طافحا بالإنسانية، أو إنسانا مسرفا في إنسانيته على حد تعبير نيتشه، ورافضا للهيمنة الذكورية ولتقاليد الأبوية السلبية.
كان عاشقا للموسيقى بكل أنواعها وأدواتها حيث كان يعزف على آلة العود بطريقته على نغمات محمد عبد الوهاب، أو نصير شامة، وبعد فترة لم يتردد فيها أستاذ الموسيقى الذي كان يزورنا مرتين في الأسبوع، فسألت أبي عن سبب ذلك، وكان رده “فقد الأمل في تعليمي”. هذا هو محمد سبيلا الذي كان بارعا في فن المزحة ومداعبة الكلام وتأويل المعاني. وكانت ثقافته واسعة بفن الخطوط العربية وأنواعها وكان خطه جميلا، كما كان مولعا بالفن التشكيلي وباللوحات الفنية الجميلة وبالرسم بقلم الرصاص. ولا زال الوجه الذي كان دوما يرسمه لي منذ أن كنت طفلة، راسخا في ذهني وتساءلت كثيرا عن هذه الملامح نفسها التي لم تتغير رغم مر السنين. هي نفسها التي كان يرسمها لأحفاده. وارتبطت ملامح الابتسامة التي كان يحملها هذا الرسم بملامح أبي لأنه كان مصدرها. هذه الابتسامة التي لم تفارق أبي مدى حياته حتى في لحظاته الأخيرة التي اصطحبته فيها إلى المستشفى. ولم أدرك أنها كانت ستنتهي هنا. ظننت دوما أن أبي لن يفارقني وأن الوجه الآخر والمر للحياة كان بعيدا وأدركت أن تلك هي المآسي التي كان يشير إليها عندما كنا يحدثني عن الحياة. وما الموت البيولوجي إلا راحة للجسد عندما يتعب، حسب قوله.
أشكرك أبي على كل ما قدمته لعائلتك الصغيرة وخصوصا لأمي التي كنت رفيق دربها بامتياز، حيث تجاوزت بفضلك مراحل صعبة من حياتها ومن حياتنا أيضا. أشكرك على طيبوبتك على حبك وعطائك وسخائك اللامحدود ، أشكرك على حضورك الدائم وتوجيهاتك المتواصلة، ومواكبتك المادية والنفسية لنا في مختلف مراحل حياتنا. شكرا على روحك الخفيفة والجميلة والسخية بقدر عطاءاتك الفكرية التي هي عزاؤنا جميعا في فقدانك.

ستبقى خالدا يا أغلى الناس في قلوبنا وقلوب عائلتك الكبيرة ومحبيك. ممتنة لكونك أبي أحبك لا بالمفهوم الأوديبي لفرويد، بل بمفهوم البنت البسيطة التي لن تجد نموذجا أمثل منك ولا إنسانية أجمل من كيانك ولا حداثة أعمق من فكرك.
العهدة الآن على تلاميذك وزملائك في استكمال ما بدأته، وفي ترسيخ معالم حداثة متنورة، طافحة بالقيم الإنسانية، وفياضة بروح البناء الخلاقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube