ثقافة وفنونضد التيار

قراءة نقدية في رسالة: تسوية رومانسية بطعم الفلفل الحرِّيف في العين والحلق

مصطفى الزين

أخي المصطفى صباني، الشاعر القاص المترجم العزيز؛
تحيةً وسلاما .
ها أنذا، أخوك (مصطفى بن العربي بنسليمان الزِّيـن)، كما وعدتك، أعود إلى نصك “حليب أسود مر”، وما استطعت بَعْدُ أن أفك حبسة لساني التي لحقتني من أثره، ولا من طعم عدم الرضى، أو قل المرارة الحرِّيفة التي خلفها منه ذلكم التصالح بين البطلين “الأخوين من الرضاع”، و “توبة” الأخ المغربي – سابقا-الصهيوني أو”المصهين” المجرم العاتي، الوالغ في دماء الشعب الفلسطيني ومأساته..و الأنكى هو قَبولُها من أخيه المغربي الصفريوي..وما زاد طعم المرارة في حلقي، هو كون نصكم القصصي المتخيل مهدىا إلي أنا، بين آخرين من أصدقائك بصفرو – بعد المناضلة الفلسطينية نهاية برقاوي- تلقيته هديةً بطعم كأنه طعم تلقي أب والد من ابنته وليدها حفيده الذي جاءها من جريمة مغتصبها..
لو كان نصكم هذا نصا أوتوبيوغرافيا، يستند إلى معطيات سيرية شخصية، لهان الأمر؛ ولظل النص يسجل تجربة أوحالة خاصة، ربما لها بضعة أشباه ونظائر؛ ولكن نصكم إنما هو قصة تخييلية (وإن استندت حقا – كما كل تخييل- إلى متكإ من أرض البيوغرافيا)، حمِّلتْ “معنى” المصالحة الممكنة؛ “معنى “رومانسيا، مفارقا لطبيعة الأشياء – على أساس توبة المجرمين الصهاينة من أصل مغربي، على الأقل ، والعودة إلى حضن الوطن الحق السعيد، وحُمِّلتْ “معنى” إمكانية تعميم حالة البطل المتخيل النموذجي الصهيوني – أو المصهين قسرا – المغربي إسحاق بن أبرهام ومصالحته، مع أخيه إسماعيل بن إبراهيم..؛ على كل اليهود الذين تقاطروا وتكالبوا على فلسطين – وما يزالون – اغتصابا وفتكا، في جريمة متواصلة قل نظيرها في التاريخ؛ بذريعة كونهم ضحايا تغرير.. وشعور بالظلم والخذلان من أهليهم ومواطنيهم غير اليهود، في مختلف أوطانهم الأصلية؛ دفعهم كل ذلك إلى سيكلوجية المجرم الوحش الفتاك المتمادي المنتقم لذاك الخزي والظلم والخذلان.. في وعيه ولا وعيه، ثم في تحليله التبريري، عبر رسالته، للاوعيه الإجرامي في حق الأبرياء ..
للأسف، أخي مصطفى العزيز، أن هذا “المعنى”، أو المنحى الذي سار فيه نص قصتكم القصيرة – على طولها – يندرج، في نفسي وعقلي، في إطار “التطبيع” مع الصيهونية والصهاينة، الجاري القائم على قدم وساق، منذ اتفاقيات كامپ دايفد، ولكن تم تسريعه هرولةً في السنوات الأخيرة، ومنه توقيع اتفاقيات التطبيع والتعاون..بين المغرب و”إسرائيل” الدولة، أو الكيان الصهيوني الذي يقيمه الغزاة على أرض فلسطين وأراض أخرى..
للأسف، لم يسمًّ ساردُك، أو سارداك بطلاك، الأشياء بأسمائها؛ فإتفاقيات التطبيع والتعاون بين الدولتين، سميت (إقامة علاقة ديبلوماسية)، وكلمة التطبيع، المتداولة بغزارة في المعجم السياسي والإعلامي، لم ترد أبدا في النص؛ بمعنى أنك، يا صديقي، غيَّبتَ هذا السياق والإنسياق تماما، ماعدا في نص إهدائك – وهو على هامش القصة – لما سميت المناضلة الدكتورة نهاية برقاوي”التي ما زالت تحتفظ ببارود الثورة متقدا بعيدا عن سماسرة المساومات والتسويات الكاذبة”. أليست كاذبةً هذه التسوية التي أقمتها بين بطليك المتخيلين، يا صديقي المصطفى؟!، ولتسمح لي بهذه القسوة،كما سمحت بأعظم منها لبطلك وهو يحلل سيكولوجيته وسيكولوجية “أخيه”، ويجرعنا مرارة حليبه/سُمِّه الأسود..
أقول: إن المصالحة، بين بطلي قصتك، تسوية كاذبة ،لعدة اعتبارات :
أولها: أنها تحاول أن تعمم سبب هجرة البطل إسحاق.. وأمه سميحة (أو شميحة) وأسرته، على يهود صفرو، وبالتالي على كل، أو جل اليهود المغاربة، بدعوى ما تعرضوا له من ظلم وإذلال وخذلان من طرف إخوانهم غداة َهزيمة العرب في حرب الستة أيام حزيران/ يونيو 1967. والحال، أن جل يهود (صفرو) والمغرب هاجروا، سرا وجهرا، قبل ذلك، منذ 1948؛ أي قبل الاستقلال، ثم، بالخصوص، سنة 1962 .. ورفض منهم من رفض من الشرفاء الهجرة والفكر الصهيوني، ومنهم من ما زالوا يقيمون بين إخوانهم على وطنهم، ويجرمون إسرائيل ،ويرفضون، إحقاقا للحق وإنصافا ، التطبيع وعودة المجرمين، والترحيب بهم هنا، وأخذهم بالأحضان..
ثانيا: لم يكن دافعهم الأساس، في المغرب خصوصا، هو ما كانوا يتعرضون له من مضايقات وتخزية وإذلال من طرف إخوانهم المسلمين، وإنما كانت فرنسا الاستعمارية، وأوروپا، من خلال الدور الذي قامت به الحركة “المدارس الإسرائيلية ” الحديثة التي “فرنست” الأجيال الحديثة من اليهود المغاربة الشباب، وعبأتهم بالفكر الصهيوني وأطروحة أرض الميعاد، وفصلتهم عن آبائهم المتمسكين المتجذرين في المغرب وأرضه وتسامح أهله، وجعلتهم قاطرة للضغط عليهم وجرهم إلى الهجرة الصهيونية. ولا شك أن فرنسا ومدارسها الإسرائلية، قامت بنفس الأمر في الجزائر وتونس، وفي فرنسا ذاتها، كما فعلت انجلترا ودول أوروبية أخرى، كانت تحب أن تتخلص من اليهود ،ومما سماه بطلك “عرقهم الدساس”..
ولهذا، استغربت- ثالثا، أن يعود بطلك الجنرال المجرم الدموي “التائب” متنكرا في جنسية وجواز فرنسيين!! وهو في أصله مغربي فرنسي؛ فُرنس هو وأبواه من قبل، وصُهينا. ففرنسا متورطة في جريمة اغتصاب فلسطين بتهجير عشرات الآلاف من يهود المغرب، ومن غيرهم، إلى وهم أرض الميعاد..
رابعا: ما شأن وما مصير أبناء، وربما أحفاد، إسحاق التائب العائد؟ ما مصيرهم وما شأنهم هناك بأرض فلسطين المغتصبة، ودولة إسرائيل عليها؟ أليس أمثالهم من نراهم يواصلون الاغتصاب ،ومحاولة سحق وإبادة الفلسطينين، وقد تربوا، في مدارسهم وفي إعلامهم..، على كراهية مقيتة لكل “العرب” من حولهم، وعلى احتقارهم عنصرية واستعلاء وعتوا..؟! وقد جعلتَ هذا اليهودي المتصهين يتزوج، ويلد صهاينة، بينما جعلت أخاه “المسلم” هنا، إسماعيل، مضربا على الزواج والولادة، فردا مفردا، يحتضن أخاه العائد، الذي يمكن أن نتخيل أبناءه هناك يقتِّلون ويذبِّحون ويجرِّفون، ويحاصرون ما تبقى من أرض فلسطين..؛ ويرفضون عودة الفلسطيينين المهجرين إلى الشتات.. ،بينما يقاوم الشعب الفلسطيني الغزاة بكل سلاح، ومنه سلاح التناسل حتى تلقيحا عن بعد.
دعني أقول لك ،أخي مصطفى، إنني لم أجرب هذا الإحساس بأخوة الرضاع مع اليهود، بل إنني لم أر يهوديا، ولو واحدا، في طفولتي، حتى حدود السادسة عشر من يفاعتي، عندما اصطحبني أبي إلى تطوان، فرأيته يزور صديقه اليهودي في محله، ويمد له حذاءه يلمعه، وهما يتحدثان بمودة وحنين، ثم رأيت بعض من تبقوا من يهود تطوان، على ندرتهم، لا يعانون من أي تحقير أو مضايقة، لطفاء مستلطفين.. وعندما حللت، قبل ستة عشر عاما بصفرو مقيما، بعدما ظللت أتفادى حتى زيارتها طويلا، لم أر ولو يهوديا واحدا.. هنا مقيما ، ولكني رأيت أفواجا منهم يعودون سياحا زائرين، ربما من إسرائيل الاستعمارية، أو من أوروپا أو أمريكا..؛ وكم حز في نفسي وآلمني جدا أن أرى وأسمع صفريويين وفاسيين، وآخرين، يغتبطون ويهللون، بعد توقيع اتفاقية التطبيع والتعاون مع دولة الاحتلال والإجرام والأبارتايد والعنصرية المتواصلة، ويرحبون بعودة “إخوانهم في الوطن والرضاع” ويستبشرون بالخير والنماء الذي سيجلبونه معهم، متناسين، هكذا ببلاهة، كون جل إخوانهم هؤلاء مجرمين والِغين في دم إخوانهم الفلسطينيين هناك، مستعدين للتنكر لهؤلاء الإخوة الفلسطنيين، من أجل الحنين إلى أخوة من غدوا مجرمين، كبطل قصتك إسحاق هذا الذي طالما استمرأ سحق الأبرياء في فلسطين ولبنان..
ودعني أسألك، أخي الشاعر القاص الأديب، ومن خلفك، أسأل بطلك إسماعيل، كيف نجرم، نحن المغاربة، دواعشنا المتطرفين الذين تورطوا، فعلا، في الجريمة في العراق أو سوريا..وهنا بالمغرب، ونطالب بمحامكتهم ومعاقبتهم قبل أن يتوبوا ويعودوا؟ ولكن، بالمقابل ،نريد أن ننسى ونتناسى جرائم يهودنا المتصهينين الذين لن يعودوا إلى مغربهم إلا سياحا أو مستثمرين بجنسيتهم المزدوجة أو المتعددة، كما هو شأن بطلك إسحاق هذا؟ أليس هذا كيلا بمكيالين؟ وتسوية ظالمة،ليس، فحسب ،بالنسبة لإخواننا الفلسطينين، ولصديقتك المناضلة نهاية برقاوي التي عبرت لك عن هذا الظلم أو التظلم من قصتك؛ وإنما هي تسوية ظالمة لنا نحن المغاربة ولضمائرنا التي ستختزن هذا الجرح الجديد..
إنني شخصيا لا يمكن أن أسامح ولو أخي الشقيق، أو ابني من صلبي..؛ إذا ما تورط في الجريمة المنهجية النكراء الوالغة في الدم والروح، قبل محاكمته، وأخذه عقابه المستحق قبل توبته وأوبته..
وأحب أن أختم رسالتي هذه إليك، صديقي العزيز، رسالتي التي ربما طالت أكثر من رسالة إسحاق بطلِك إلى أخيه، بتأكيد كوني لن أقبل أبدا تطبيع ما ليس طبيعيا، ولن أقبل تهجين الروح والضمير، سواء كان هذا التطبيع والتهجين، سياسيين أو اقتصاديين..أو تربويين أو فكريين أدبيين وجدانيين، وهما الأنكى، كما قرأت ذلك من قصتك “حليب أسود مر”. ولهذا كتبت أكثر من نص في اللاتطبيع، شعرا وزجلا، وقصةً قصيرة، ومقالة، وتدويناتٍ شتى مختلفة ..
معذرةً، فربما أكون في هذا التلقي والقراءة ظالما، متعسفا، ذاتيا، مريضا بداء الفلسطيني الأخير، المغربي أولا وأخيرا.
تحيات ومحبات..
صفرو -الأربعاء 17 نونبر 2021.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube