ثقافة وفنونعبد الحي كريطمستجداتمقالات الرأي

أنطونيو غالا.. عاشق الأندلس وملاكها الحارس

غالا.. التأريخ الإسباني مزيف في معظمه فلم يكن هناك حرب استرداد لأن هناك مدنًا إسبانية لم تكن موجودة قبل وصول المسلمين

بقلم: عبدالحي كريط

قبل أيام، رحل عنا الكاتب والشاعر والروائي الإسباني أنطونيو غالا، في معشوقته الأبدية بأرض قرطبة، عن عمر يناهز 92 عاماً، تاركا إرثا ثقافيا قويا  يتردد صداه في مختلف المكتبات الإسبانية والعالمية.

غالا يعد أبرز الوجوه الثقافية الإسبانية بشبه الجزيرة الأيبيرية وأحد أهم أعمدة الأدب الإسباني الحديث، والمفتونين بالحضارة العربية  الاسلامية في الأندلس وتجلى ذلك في مساره الأدبي والفكري، والذي أنشأ إتجاها أدبيا جديدا في الأدب الإسباني حول صورة العربي والمسلم ، ومتكئاً في كتابته على التوليف بين المتخيل والواقعي، ونبش ذاكرة الشعور بذكرى ماض مجيد وحاضر أليم.

عرفته لأول مرة أيام المدرسة الثانوية، حين قرأت له بعض أعماله خاصة روايته المخطوط القرمزي El “manuscrito carmesí التي نال عنها جائزة بلانيتا سنة 1990، وبيعت منه أكثر من مليون نسخة،  وكنت أتابع مقالاته بشغف كبير على صفحات جريدة El mundo وجريدة el pais والتي كانت تباع في محلات للكتب المستعملة وأعداد للجرائد الإسبانية، في المدينة العتيقة بتطوان، والتي كانت تدخل من سبتة( المحتلة) وكانت مقالات غالا تدور في معظمها حول الثقافة العربية الإسلامية.

أعماله الروائية أيضًا ‘ النَّسر ذو الرَّأسين Águila Bicéfala  ‘قانون الثلاتة La regla de tres’ و روايتان تم تحويلهما إلى فيلمين سينمائيّين هما ‘الوَلَهُ التركي La pasión turca’ التي استلهم منها المخرج الإسباني Vicente Aranda و رواية خلف الحديقة Más allá del Jardín بواسطة المخرج Pedro Olea·

أظهر أنطونيو غالا تنوعه الأدبي طوال حياته في شتى جميع الأجناس الأدبية، بما في ذلك المقالات والقصص والنصوص التلفزيونية، وإنعكس إتقانه في كل  أعماله الغنائية والسردية والدرامية وحقق التقدير في جميع هذه المجالات.

من خلال لغة غزيرة الإنتاج في الصور والموارد الغنائية ، تميزت أعماله بتفاصيلها الدقيقة ولغتها اللاذعة،  كان الحب، والشعور بالوحدة، والحياة، والموت، والنقد الاجتماعي والتاريخي، دائمًا ما تكون استعاريًة في أغلب مواضيعه.

كان فن القريض الذي أبدع فيه غالا متمكنا منه غزير الإنتاج، وكانت معشوقته قرطبة هي الملهم، في قصائده يمكن تمييز السجلات المتنوعة وتنوعات الحبكة والتطورات الأسلوبية، لكن أعماله لها صلة بالتقاليد وهو تأثير ميزه الكاتب خوسيه مانويل كاباليرو بونالد باعتباره “باروكًا جوهريًا”.

وهكذا فإن قاعدتها الجمالية يتغذى عليها الشعراء الباروك الإسبان، جيل 27 – مثل Cernuda أو Aleixandre – و Cántico وخاصة بابلو غارسيا باينا وريكاردو مولينا.

ومن أهم الخصائص الأساسية للأدب الباروكي الإسباني التعقيد المتزايد في المحسنات البديعية وتركيز المواضيع على القلق من مرور الوقت وفقدان الثقة في المباديء الأفلاطونية الجديدة وغالا ضمن هذه المدرسة الأدبية العريقة.

إسبانيا جزء من الحضارة الإسلامية

قال غالا، إن التأريخ الإسباني مزيف في معظمه، فلم يكن هناك حرب استرداد، لأن هناك مدنًا إسبانية لم تكن موجودة قبل وصول المسلمين، وإن الحروب التي سنها ملوك قشتالة كانت لأطماع شخصية، قال إن غرناطة كانت تمثل قمة التسامح، وإن غزو الملكين الكاثوليكيين لها كان خطأ فادحًا.

وأضاف في إحدى مقابلاته الصحافية “إن الذي حدث في إسبانيا ليس اكتشافا أو غزوا مثلما هو عليه الشأن في أمريكا، فالذي حدث هنا كان تجليا ثقافيا واضحا، إنه شيء يشبه الانبهار الذي يبعث على الإعجاب الذي يغشى المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب والأمازيغ إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي العبق الفوّاح، الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين الذين قدِموا من لبنان”.

ويضيف غالا أن “العرب والأمازيغ لم يدخلوا شبه الجزيرة الإيبيرية بواسطة الحصان وحسب، بل إنهم دخلوا مستنيرين، مكتشفين، ناشرين لأضواء المعرفة، وشعاع العلم، والحكمة، والأنغام، وبهذا المعنى كان دخولهم إليها اكتشافا ثقافيا خالصا”.

كما يرى غالا، بأن الأندلس هي جزء من الحضارة العربية، وأن محاولات الإسبان لإخراج العرب والمسلمين منها هي عبارة عن حرب بين الإنسان ونفسه، كما يرى أنه لا يمكن فهم إسبانيا بمعزل عن الإسلام، ودون النظر إليها بعيون الإسلام.

وحين كان يذكر إسبانيا فهو لم يعزلها أبدا عن تاريخها العربي أو الحكم الإسلامي فيها، كما يفعل بعض الأدباء الإسبان اليوم، بل إنه يرى بأن التاريخ العربي في الأندلس له أثر كبير في تشكيل صورة مشرقة للأندلس، تجعله يحبها ويبحث فيها وينتمي إليها، فيقول: “إن كل الأشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية، وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الاعتباط، فالعرب أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون”.

وهذا الشغف بالأندلس تجلى في أعماله الروائية التي ظلت تجول في اسبانيا، ساعية للكشف عن الارتباط الحضاري الدامغ بين الحضارة العربية الإسلامية وشبه الجزيرة الأيبيرية.

وهذا ما تعرّض له غالا في أحاديثه ومداخلاته، بل وفي كتبه ومؤلفاته شعرا ونثرا الى الوجود العربي والاسلامي في اسبانيا، والإشعاع الحضاري للمسلمين الذي عرفته الأندلس أيامهم.

إذ يقول: “إذا سئلت ما هي الأندلس..؟ لقلت إنها عصير غازي يساعد على هضم كل ما يُعطى لها حتى لو كان حجرا، فقد مرّت من هنا مختلف الثقافات بكل معارفها وعلومها، إلا أنّ الثقافة العربية والإسلامية في إسبانيا كانت من أغنى الثقافات الإنسانية ثراء وتنوّعا، وتألقا وإشعاعا التي عرفتها شبه الجزيرة الإيبيرية على امتداد الأندلس بالتالي، هي بحق منارة علم وحضارة وعرفان قلّ نظيرها في التاريخ ،تاريخها الطويل، وكانت الاسبانية لغتين، لاتينية وعربية.”

ويتابع غالا” بعد الملوك الكاثوليك جاءت محاكم التفتيش الفظيعة في أعقاب ما سمّي “بحروب الإسترداد” التي كانت في الواقع حروبا للاستعباد والاستبداد والتي تركت جروحا عميقة في الجسم الاسباني (وهذه الجروح لم تلتئم حتى اليوم)،  فإسبانيا ظلت هي ذَنَب أوروبا غير المسلوخ، هي أوروبا كذلك ولكن بطريقة أخرى، فهناك جبال البرانس التي توصد الأبواب بيننا وبين العالم الأوروبي، وهناك البحرالأبيض المتوسّط من الأسفل، فإسبانيا وكأنها تشكل قدرا جغرافيا، وهي ممرّ أوروبا نحو افريقيا.

ولإسبانيا اليوم سفاراتان كبيرتان ينبغي لها أن توليهما أهمية خاصّة، وهما العالم العربي الاسلامي، والعالم الأمريكي، فقد أورثها التاريخ هذه المهمّة الصعبة، وهي (أيّ إسبانيا) إذا لم تضطلع بهذا الدور فإنما تخون نفسها وتخون شعبها والتاريخ.

مدينة أصيلة المغربية نافذة غالا نحو العالم العربي 

كانت مدينة أصيلة القابعة على ضفاف الأطلسي من المدن المفضلة لانطونيو غالا، وكانت بمثابة نافذة له، على العالم العربي، وهو يقوم برحلته عبر مضيق جبل طارق، وميناء طنجة، إلى هذه المدينة، ذات الجدران البيضاء والأبواب الزرقاء، إذ كان يحرص على حضور افتتاح جامعة المعتمد بن عباد الصيفية.

واعتاد غالا أن يحمل عصاه المرصعة برأس أسد عاجي، ويتجول في أزقتها ودروبها الهادئة وأحياناً يدق الأرض بعصاه، ويتنبه كأعمى مغمض العينين إلى صوت داخلي حميم، هو كروان الأندلس وموسيقى غرناطة.

كان يجلس في قصر الريسوني في الطابق الأول حيث النوافذ مشرعة على البحر. وينظر بحسرة وألم إلى عام 1492 الذي يحمل وجهين أحدهما مشرق والآخر حالك، في تاريخ إسبانيا والعالم، وهما خروج العرب  والمسلمين من الأندلس واكتشاف إسبانيا الكاثوليكية للعالم الجديد (القارة الأمريكية)، في عهد إمبراطورية الدم، أي ما بين السقوط والصعود.

وستبقى أعمال الراحل أنطونيو غالا بمثابة الملاك الحارس لذاكرة إسبانيا العربية المسلمة، ومنارة أدبية خالدة، تضيئ زوايا التاريخ الذي يريد البعض إخفائه عن عوام الناس.

لروحه السلام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube