ثقافة وفنونمستجدات

من أفلام مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته ال 74 “غلوريا” ، صوت المرأة الممنوع

* محمد نبيل*

السينما كتابة بالصور، هذا ما تعلمنا أدبيات السينما وتاريخها. فيلم ” غلوريا ” لمخرجته الإيطالية مارغريتا فكاريو هو محاولة سينمائية في رسم حكاية درامية تنسجها مجموعة لقطات و مشاهد توقعها عدسة مصور فوتوغرافي. الفيلم هو في نظري مجموعة من الصور الساحرة التي تربطها أحداث توثق لمرحلة بدايات القرن 19 . وبين الصور التابثة و أخرى متحركة تكمن عمليات السرد السينمائي. فيلم غلوريا الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته ال 74 (إنتاج إيطالي سويسري) مغمور بإبداع سينمائي جميل . حكاية هذا الفيلم تدور حول علاقة الموسيقى بالكنيسة و النساء في قرية قريبة من مدينة فينيسيا الإيطالية بداية القرن 19. الفيلم هو احتفاء بالنساء الموهوبات اللواتي همشهن التاريخ الذكوري . مخرجة الفيلم تنتصر لدور المرأة وقدرتها على التمرد ضد السلطة الدينية الكنسية وانتزاع حق التعبير والابداع الموسيقي بعيدا عن وصاية سلطة الرجل . مخرجة الشريط لها نظرة فيها الكثير من التفاؤل حين تقول للصحافيين: “حتى القصص المأساوية تحتاج إلى أن يكون فيها على الأقل القليل من الأمل.. أحتاج إلى واحد في المئة من الضوء، لأن هذه هي الطريقة التي أرى بها العالم المليء بالألم. لكن هناك الموسيقى والشعر و السينما.” تبدأ الأواني وألواح الغسيل في مدرسة سان انسانيو الموسيقية في الاهتزاز على نفس الإيقاع في لوحة منسجمة. ومع تقدم سرد الحكاية يستمر الاهتزاز. هي قصة تهز أركان العلاقة التي تربط الكنيسة بالموسيقى والمرأة. اختراع أغنية البوب الإيطالية حوالي عام 1800 في مدرسة موسيقية للبنات هي فرضية تقدمها الممثلة ومغنية البوب مارغريتا فيكاريو لأول مرة كمخرجة سينمائية. ولأن البابا قرر زيارة المدرسة الموسيقية كان من المفترض أن تؤدي أوركسترا المدرسة قداسًا من تأليف موسيقي خاص. مدير المدرسة و”المايسترو” فشل في إبداع نص موسيقي بعدما نفدت منه كل الأفكار الموسيقية في وقت استطعن بنات المدرسة أن يحققن الهدف بطريقة أزعجت المدير و رجال الدين. الفيلم هو قصة خيالية افتراضية مطعمة بوقائع تاريخية حقيقية وهذا أمر جيد للغاية. مع بداية النصف الثاني من الفيلم، تبدو الحبكة وكأنها تتراجع شيئا فشيئا ، ولا تظهر الشخصيات بالوضوح الذي كان يمكن أن تتمناه المخرجة. الشكل السينمائي المختار للفيلم يتبع طريقة الالقاء المعروفة “بالكورال”، لذلك لم يكن الهدف هو وضع بطل واحد في مركز الحدث باستثناء الكاهن (باولو روسي)، وهو شخصية واضحة المعالم ومقنعة في سردها للأحداث. لست مع الرأي القائل بأن كل فيلم له علاقة بالموسيقى يجب أن يكون أبطاله موسيقيين ومغنين ومؤلفي الاغاني فقط. لكن الفيلم هنا له هدف مشابه للفيلم الموسيقي، وهو نوع من الأفلام التي لا يقتصر أبطاله على تشخيص الأدوار فقط، بل يرقصون ويغنون ويعزفون الموسيقى، وهذا الاختيار يضر كثيرًا ببنية الفيلم. فيلم “غلوريا” حسب رأي بعض الصحافيين والنقاد هو ” أول فيلم للمخرجة، وحتى لو كانت النتيجة غير مقنعة على المستوى الشكلي فلا يزال أمام المخرجة متسع من الوقت حتى تنضج إلهاماتها السردية.” وبالمقابل تقول المخرجة عن موسيقى الفيلم: “في غلوريا يقول أحدهم: أنا أغني أفكاري. الأمر بسيط، لكنه منطقي للغاية بالنسبة لكاتب الأغاني، هذا هو السر كله. بالطبع، في موسيقى البوب غالباً ما يكون لديك فريق متكامل يشتغل معاً على الأغنية المطلوبة.” جماليات الفيلم تكمن في شاعريته، الإضاءة الموحية و التصوير البديع. مركز الجاذبية العاطفية للفيلم هي تيريزا (جالاتيا بيلوجي) وهي خادمة خرساء. تتسلط تيريزا على الخادمات الموسيقيات من نفس عمرها اللواتي يشكلن الفرقة الموسيقية، وتتعرض للتسلط بشكل خاص من قبل لوسيا (كارلوتا غامبا) الموهوبة موسيقياً والتي تعتبر أول عازفة كمان في الفرقة، كما تتعرض تيريزا لسوء المعاملة من قبل أستاذ الموسيقى (الإيطالي باولو روسي) الذي يتضح أن تنمره مرتبط بسر مظلم في ماضي الفتاة. عندما يتم التبرع بآلة موسيقية جديدة لفائدة مؤسسة دينية (الدير) من قبل حرفي ألماني شهير في العزف على آلة البيانو، يقوم بيرلينا الجبان بإيداع هذا “البيانو” في القبو لأنه يعتبره من عمل الشيطان (لم يتم تفسير سبب استثناء الآلات الموسيقة المتبقية من هذه الوصمة). يستمر فيلم غلوريا في جذبنا مرة أخرى، وعلى الأخص في شغف موسيقي قوي تمارسه الفتاة. هناك تعبير عن أصالة الفترة التاريخية ونقصد هنا الأزياء والملابس العريقة المعبرة لمكان الدير، والجمال في لوحة الألوان التي تزين فساتين العازفين والمغنيات. وتوفر المناظر المائية الهادئة لبحيرة فينيسيا والمناطق النائية وبعض المشاهد الهادئة التي تعمل على إبراز عزلة هذا الملاذ الهش. تقول مجلة فرايتي السينمائية: ” إن بيلوجي تقدم أداءً جذابًا بما فيه الكفاية للتغطية على البلادة الأساسية لشخصيتها، حيث تتحول تيريزا من ضحية نبيلة إلى قائدة ملهمة. أما بيرلينا فهو خصم أحادي الملاحظة، وهي شخصية عامة تلعب دور النظام الأبوي ككل.” النقد المبطن الذي يضمه الفيلم تعبر عنه النزعة الذكورية الكنسية في علاقتها بالإبداع النسائي. وعن هذه النظرة في الشريط تقول المجلة النقدية الألمانية بأنها رمز “لنظام قمعي تخضع له النساء الخمس، ويحافظ عليه الكاهن وقائد الأوركسترا العاجز (باولو روسي) بسلطة سخيفة، وهو نفسه آثم أمام الرب. في الوقت نفسه، تظل الموسيقى هي السبيل الوحيد للخروج من الأسر الأبوي.” فيلم غلوريا يمكن شخصياته كنساء ضقن ذرعًا من عدم جدوى بعض الرجال في السلطة بما يكفي ليأخذن زمام الأمور بأيديهن، وهو طموح مبهج وممتع للغاية وشكل من أشكال البهجة الخالصة لمشاركته مع أكبر الجماهير على أكبر شاشة. وعن سر انتقال مارغريتا فيكاريو الى الإخراج، تقول المخرجة : “لطالما أردت القيام بذلك. لقد كان حلماً كبيراً. بدأت بالتمثيل، ثم انتقلت إلى كتابة الأغاني. لكنني كنت أعمل دائمًا على أفكار محتملة لأفلام، وهذا الفيلم جاءني حتى قبل أن أقرر إخراجه بنفسي. كنت مشغولة بالموسيقى، ولم يكن هناك وقت كافٍ أبدًا، ثم قابلت هذا المنتج. سمعت: “هل لديك قصة؟” كنت بالفعل أبحث عن هذا المكان.

” *كاتب و مخرج مقيم في برلين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube