فيلم العدالة للجميع.. القضاء حين يصير القانون عملة في بورصة العدالة
يقال أن القانون الذي يشرعه المشرعون يؤدي إلى الظلم إذا طبق حرفيا وهذا قول لا يخلو من وجهة نظر صحيحة. – الفيلسوف العراقي علي الوردي
بقلم: عبدالحي كريط
فيلم “And Justice For All” العدالة للجميع عام 1979، من الافلام الكلاسيكية في السينما العالمية، والذي رشح لجائزة الأوسكار،التي تعتبر دراما قانونية مثيرة، في قالب أقرب إلى الكوميديا الساخرة، للغوص في تفاصيل الفساد والقمع بالجسم القضائي الأمريكي، من خلال نصوص قانونية معقدة شرعت من طرف مشرعون، قد تؤدي إلى إختلال النظام الإجتماعي والذي يخدم الفئوية على حساب جوهر الحقوق والعدالة والذي يمكن قياسيه كذلك على الأنظمة القضائية الأخرى بمختلف دول العالم وإن إختلفت أحيانا في الشكل الإجرائي.
فالفساد القضائي له عواقب مباشرة ومدمرة بشكل عام على عمل مؤسسات الدولة، وخاصة إقامة العدل حيث يقلل من ثقة الجمهور في العدالة، ويضعف قدرة النظم القضائية على ضمان حماية حقوق الإنسان، ويؤثر كذلك على مهام وواجبات القضاة والمدعين العامين والمحامين وغيرهم من المهنيين القانونيين.
يلعب الممثل المخضرم آل باتشينو دور آرثر كيركلاند، محامي دفاع جنائي في الثلاثنيات من عمره في بالتيمور بولاية ماريلاند هناك العديد من الموضوعات ذات الصلة بالعمل الاجتماعي والتي يتم نسجها بمهارة في نسيج شخوص هذا العمل السينمائي الفريد.
يوضح تعاطف آرثر كيركلاند وتفهمه للعميل الذي يمثله، بطرق عديدة، مبادئ ممارسة العمل الاجتماعي مع الأشخاص المضطهدين والمستضعفين طوال الفيلم ، أظهر آرثر كيركلاند باستمرار الحساسية في التعامل مع العملاء المضطهدين والضعفاء. على سبيل المثال، يوضح الاحترام والتعاطف والتفهم في تعاملاته مع رجل أسود متحول جنسيًا، يرتدي باروكة شقراء، الذي أدين كشريك في قضية سرقة تافهة وحول الى المحكمة باجراءات تشوبها الكثير العيوب الإجراءائية، فأدى به في نهاية المطاف منتحرا في السجن بعد نصف ساعة من حكم القاضي الذي قضى عليه السجن 5 سنوات.
هو ببساطة شخص حساس ولطيف ويستحق الاحترام كإنسان، وقد ساعد أيضًا في إلقاء الضوء على كيف يمكن للقوالب النمطية أن تجعل العديد من الأشخاص يصدرون أحكامًا خاطئة عن الناس.
يساعد هذا الفيلم أيضًا في توضيح المعضلات الأخلاقية ذات الصلة بكل من المهن المساعدة في القانون والعمل الاجتماعي ، بما في ذلك سرية العميل. يمكن أن تنشأ حالة صعبة بشكل خاص ولكنها ليست غير شائعة في الحالات التي يكون فيها الحفاظ على سرية العميل يتعارض مع القيم الأخلاقية للفرد هذا هو الحال في فيلم “And Justice For All”.
القصة الرئيسية تدور حول موكل آرثر، قاضٍ بارز وبغيض اتُهم بضرب واغتصاب امرأة شابة. وقد أدرك آرثر ذنب موكله من خلال الصور واعتراف القاضي المتعجرف، يصور الفيلم القاضي أنه يشعر بأنه فوق القانون، وكأنه إله قانوني لاينطبق عليه نصوص القانون، قاضي متحجر يطبق القانون، بناء على قراءة حرفية أشبه الى الحشوية، دون إعمال بقاعدة الأخلاق والظروف التي تجعل المذنب او المتهم يرتكب جريمته.
هذا القاضي، كان قد تسبب في سجن بطل الفيلم آرثر سابقا بعدما فقد المحامي أعصابه ولكم القاضي، بسبب قضية سابقة لاترقى الى الجنايات وهي مخالفة لاتستدعي السجن، بل زج بالظنين (جيف) الى المحاكمة للاشتباه بأنه إرتكب جريمة في ولاية اخرى، وليس هنالك أي دليل قوي يؤكد بأنه المشتبه به هو المقصود، فكانت نهايته القتل من طرف فرقة التدخل السريع الذي أرداه قتيلا بعدما أقدم على إحتجاز رهائن بالسجن ،في محاولة بائسة من جيف لاثبات برائته رغم تدخل محاميه آرثر وتوسله لكي يضع السلاح جانبا، ومن واجب آرثر الحفاظ على سرية العميل لكنه مشوش.
آرثر المتأثر بموت جيف، ملزم بالدفاع عن موكله القاضي المتعجرف الذي كان سببا في سجن المتهم البريئ بأفضل ما في وسعه والحفاظ على السرية، لكنه يشعر في نفس الوقت أن تصرف القضاة والضغط عليه للدفاع عن القاضي مستنكراً أخلاقياً لأنها ستكون محاكمة أقرب إلى الصورية واختلطت فيها السياسية التي إستعملت القانون والقضاء كحصان أسود لحماية الفاسدين في الجسم القضائي.
على الرغم من إدراك آرثر لعواقب هذا القرار، قرر في النهاية الكشف عن اعتراف القاضي بالذنب في مشهد درامي في قاعة المحكمة أمام المحلفين يختتم به الفيلم. حيث صاح آل باتشينو “أنت تخالف النظام! أنت تخالف النظام! المحكمة برمتها تخالف النظام! هم يخالفون النظام..”
راسما بذلك مصائر مأساوية كانت ضحايا لقرارات للنظام القضائي الخاضع للصفقات والمفاوضات الخفية والتداول بها كما هو الحال في سوق الأوراق المالية.
ماشدني في الفيلم موسيقى الجاز المتفائلة، وقد وظفها المخرج نورمان جويسون بشكل متناسق ومذهل، و التي استمرت بمرح طوال معظم الفيلم إلى المشهد الساخر الأخير على درجات قاعة المحكمة ، .. الفيلم يبني شخصيات يمكن تصديقها، ولا يمكن نسيانها في ذاكرة المشاهد.
ولاننسى كذلك طريقة تمثيل آل باتشينو لدور المحامي آرثر بطل القصة الرئيسية، فأدائه في هذا الفيلم أداء خرافي بكل ماتحمله من كلمة، تقمصه للشخصية يجعلك تنغمس في قصة الفيلم وتعرج في تفاصيل حوارات آرثر التي تحمل الكثير من الدلالات السيكولوجية والصراعات داخل أروقة المحاكم التي أضحت مستنقعا لسماسرة البيع والشراء في مصائر الناس، وفق فكرة آرثر الذي ثار على وجه النظام القضائي.
أحد الأشياء كذلك التي يقوم بها الفيلم بشكل أفضل من غيره، هو إشراك الجمهور في حوار مرح وحاد والكثير من التفاعلات العاطفية العميقة والأحداث الحية التي تنبثق من الحبكة الأساسية للقصة في حين أن القصة الرئيسية ليست معقدة تمامًا ، إلا أن العديد من الحبكات الفرعية التي تتداخل وتخرج تدعم الفكرة الرئيسية من خلال منح الفيلم شعورًا بالامتلاء ، لا تضيع لحظة على الرغم من وجود المشاهد التي قد تبدو مملة وبطيئة ومع إيقاع دقيق عند اقترابها من نهايتها المذهلة، من الصعب ألا تنغمس تمامًا في هذه الحكاية المأساوية، للبحث عن الحقيقة والعدالة في عالم يسيطر عليه الفساد والأكاذيب.
الفيلم كذلك أعطى فكرة للجمهور، وهو مبدأ جوهري في النظام القضائي العالمي، حول مبدأ هيبة القضاء من هيبة الدولة وكيف ان هذا المبدأ يستغل من طرف المشتغلين بالجسم القضائي بشكل عام تجاه المرتفقين، والفيلم صور ذلك بطريقة كوميدية ساخرة، من خلال التساؤل عن جدوى هيبة القضاء اذا كان لايحقق الهدف الأسمى والمنشود له، فهيبة القضاء في النزاهة والعدل وسرعة البحث في الشكايات بدل البيوقراطية والإجراءات الشكلية واحضار الشهود، المهم الاعتناء بالقيم و المبادئ و العدل و التقرب من المواطن بدل تخويفه بمبدأ يستغل بأبشع إستغلال لمن فكر بالنقد أو الشكوى، والتحلل بالضمير المهني مهما كانت الضغوطات وبالتالي إنصاف المظلومين بذل إرضاء الظالمين.