احمد رباص

استبد بي الفرح وكأني في حلم جميل

أحمد رباص حرة بريس

من حين لآخر، تعمدت تمرير ومضات نقدية أعبر من خلالها عن وجهة نظر القارئ الافتراضي. ومادمت بصدد كتابة مذكرات عن فترة افتتحت بها مشوار حياتي العملية ومادامت المذكرات كما في علمكم جنسا أدبيا قائم الذات، فلابأس من فتح أقواس يفسح فبها المجال لشذرات من الميتالغة عساها تكون لنا نبراسا هاديا ومعراجا ساميا. قياسا على هذا القبيل، أشير هنا إلى أمر أساسي وهو أني واع تمام الوعي بأني أطمح في مذكراتي هاته إلى أن أكون أكثر من كاتب..ومع ذلك، فليس لي من وسيلة أخرى لتحقيق طموحي ذاك غير اللغة؛ الأمر الذي لن أكون معه إلا كاتبا. لكن يبقى ذلك الطموح ممكنا إذا علمنا أن للغة وظيفتان: توصيلية وتصويرية. يفرق عبد القادر أبو شريفة في كنابه “الكتابة الوظيفية” الصادر سنة 1994 عن دار حنين بالعاصمة الأردنية بين الكتابة الوظيقية والكتابة الإبداعية الفنية. فعنده متى اشتملت الكتابة على جمال في أداء الفكرة وحسن صياغة الأسلوب كانت الكتابة فنية إيداعية، أما إذا أدت هذه الكتابة الفكرة بلغة سليمة مفهومة واضحة غير رمزية، دون اعتمادها على أسلوب بياني جميل فقد عدت عنده كتابة وظيفية.ويقول باحث آخر من الأردن في كتابه “الكتابة الصحافية” الذي نشرته دار الكندي بإربد سنة 2002: “اللغة في الأدب تشكيلية جمالية في المقام الأول، أي أن غايتها التصوير إلى جانب وظيفتها التوصيلية حيث إن للغة وظيفة في الحياة العامة وهي الكلام، أي أن في اللغة جانبا نفعيا أو صناعيا من جهة، وهناك من جهة أخرى جانب جمالي.”
ربما كانت تلك الاستطرادات خارج النص، مخيبة لآمال القارئ الذي يريد مذكرات حية لا ملاحظات نقدية سابقة لأوانها..وحتى أطمأنه أبادر إلى أنها (الاستطرادات) تعكس رغبتي في إمتاعه عن طريق التوفيق بين حدين متداخلين وغير متنافرين (التقرير والتصوير)، نظرا لطبيعة المادة الحكائية التي أشتغل عليها والتي لا تستدعي التصوير الموغل في الخيال بحكم التصاقها بالواقع الذي صار أثرا بعد عين..والآن، تعالوا معي جميعا إلى شذرات أو شظايا أخرى من ذاكرتي الحرون، الخجلى من ذاتها خصوصا بعد ما وصلت مكانة المدرس العمومي في أيامنا هاته إلى الحضيض عن سالف قصد وسابق ترصد. وفي انتظار زوال الغمة وتحسن الحال والمآل، أدعوك، ياذاكرتي، إلى أن تكوني وفية لزمنك الخاص الذي هو الماضي، أما الحاضر يخيباته وانكساراته فلا شأن لك به. وما دام مزاجك معكرا إلى هذه الدرجة فلي عندك طلب يسير وهو أن تطاوعيني، ولو على استحياء، لملء ثغرتين توقف عندهما السرد في سالف الحكي..في اللحظة الأولى، لم أتحدث عن ما جرى لي بعد نجاحي في عبور النهر الحامل وأنا أحمل على كتفي قفة وقنينة غاز..في اللحظة الثانية، سكت عن ما وقع في الليلة التي استضفت فيها المعلمة التدلاوية ذات الحسن والجمال.
لنبدأ باللحظة الثانية..كان اليوم الذي تواعدت معها على زيارتي في أكدز يوم جمعة كما مر بنا ذات حكي..في صباح هذا اليوم، التحقت بمدرسة آيت حمو أوسعيد لآداء الواجب المهني وعندما حل الزوال قفلت راجعا إلى القرية حيث تناولت وجبة غذائي على عجل وكلني شوق لملاقاة زميلتي التي قبلت دعوتي لقضاء ليلة معي في البيت الذي كنت أكتريه..لهذا الغرض، خرجت للشارع قاصدا مقهى صغيرة في ملكية أحد أبناء البلدة السود تشرف من عل على مقهى أكبر ومحطة لتوزيع البنزين. هنا اعتاد بعض السواق الذين اتخذوا من النقل السري مهنة لهم التوقف والتخلص من ركابهم..لهذا، اخترت من واجهة المقهى مكانا مناسبا أراقب انطلاقا منه كل سيارة آتية من الجنوب وأبحث مستطلعا بناطري عمن بداحلها وكأني جاسوس يحاول رصد العدو ولو كان مندسا بين حشد من الناس..وبينما أنا على هذا الحال إذا بسيارة بيضاء من نوع بوجو تتوقف يمحاذاة المحطة..ترجل منها السائق وتبعه الركاب..استخلص منهم أجرته دراهم محسوبة سلفا..بعد ذلك، بانت لي صديقتي في حلة بهية صاعفت من جمالها وهي تتجه نحوي..عندها، استويت قائما لملاقاتها وأنا أثمن عاليا وفاءها للقاء الذي تعاهدنا عليه..قبل أن أصافحها وأشكرها على المجيء، قال لي أحد الركاب وهو حارس الإعدادية المتحدر من بلدة أفرى: ها احنا جبناها حتى لعندك!! إثر ذلك، صدرت عني ابتسامة ماكرة وتعجبت من استعداد رجل لممارسة القوادة دون أن يطلب منه ذلك ودون مقابل.. عندما التقيت بضيفتي، استقبلتها بترحاب ولم أخبرها بما قاله لي حارس الإعدادية الذي كانت تجهل عنه كل شيء.
مشينا وسط القرية ونحن نتبادل أطراف حديث دافئ يستمد حرارته من تقارب جسدين منسجمين مقبلين على الالتحام في ليلة نادرا ما يجود الزمان بمثيلاتها.. سكان القرية أغلبهم محافطون وكلهم فضوليون..ريال ديال الجاوي من شأنه أن يبخر القرية بأكملها..لكي أتفادى نظرات “البركاكة” وتعليقاتهم المتطفلة، اقترحت على مرافقتي السير وسط المنازل في اتجاه الدار التي أسكن في أحد بيوتها..ومع ذلك، أيقنت أن هذا اللقاء لن يمر دون أن يعلم به Les faux guides، خصوصا وأن المعلمة تبدو جميلة مثل فتاة غجرية..عند وصولنا للدار، فتحت الباب ودعوت المعلمة للدخول وقد استبد بي الفرح وكأني في حلم جميل..صعدنا سويا عبر السلم الحجري إلى الطابق الأول حيث توجد غرفتي.. بسرعة، قتحت بابها مشيرا على زميلتي بالدخول.. ما أن رأت محتويات الغرفة حتى بادرتني بالسؤال: شحال من عام وأنت خدام؟ فطنت لحظتها إلى أن السؤال إياه كان نابعا من تقييم إجمالي وفوري لقطع الأثاث التي كانت متوافرة في غرفتي. كانت أرضية القاعة مغطاة عن آخرها بزربيتين ملكيتين مصدرهما تازناخت البعيدة شيئا ما عن قرية أكدز والمتميزة عنها بوكالة بنكية. في الزاوية المقابلة للباب، كان ثمة مرتبتان اسفنجيتان من النوع المتماسك..أمامهما وضعت منضدة عليها جهاز تلفاز كبير الحجم من نوع طومسون، إلى جانب راديو كاسيت من نوع فيليبس.. في الركن القصي من الغرفة، استقرت مجموعة من الكتب في رفوف مكتبة صغيرة من القصب..
رجوعا إلى اللحظة الأولى المؤجلة، استجمعت قواي كلها عندما صرت قريبا من الضفة الأخرى للنهر وأنا أرزح تحت حمل ثقيل..يصعوبة بالغة، تمكنت من بلوغ جانب المجرى المائي الجارف.. بمساعدة بعض الحاضرين من أهالي الدوار، تخلصت من حمولتي التي لولاها لكنت بطلا ولعبرت النهر سباحة حتى ولو ابتلت ثيابي..لما صعدت إلى اليابسة، دعاني دليلي أثناء العبور إلى أحد البيوت حيث أشعلوا نارا لتدفئتي وقدموا لي الشاي ودعوني لأشاركهم الأكل من إناء فيه بصل مسلوق في ماء مع قليل من الزيت..وفي انتظار أن تنشف ملابسي، تجاوبت بعفوية مع تعليقاتهم على هامش مغامرة عبور النهر المحفوفة بالمخاطر..في الأخير، تطوع أحدهم لنقلي وأمتعتي على ظهر أتان في اتجاه دوار آيت حمو أوسعيد..خلال المدة التي استغرقها قطع المسافة، تحدثنا عن أشياء كثيرة ما حفلت بها الذاكرة ربما لأنها كانت مبتذلة..لما أنهينا مشوارنا، شكرت الرجل ومنحته ورقة نقدية من فئة خمسين درهما قبل أن أودعه..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube