مقالات الرأي

جواد كوفي يكتب:الجوكر “المهرج المنذر بأفول الحضارة”

حرة بريس -بقلم :جواد  كوفي 

لماذا الجدية ؟

يعرف العالم المعاصر ثورة مستمرة في كل المجالات  دون استثناء ، وأضحى الوعد الذي قدمه عصر الأنوار مفعولا ، كما أن الحداثة  قد بلغت منتهاها وحدودها ، حتى صار الإنسان- ذلك القزم المتعملق- إلها صغيرا على الأرض،  مع طموح مشروع لنقل مملكته إلى السماء ممسكا و محكما زمامه على ناصية العلم و التكنولوجيا ،الأمر الذي مكنه من تطويع ظواهر طبيعية جد  معقدة ، ثم تجاوزها لفهم قوانين كان يعتقد إلى زمن قريب أنها قدر يحكم البشرية و هذا ما جعل عقل الحداثة يعلن -على عجل- عن ميلاد إنسان نتشه المتفوق. 

الإنسان المعاصر وهو متوغل في  المتعة و نشوة الانتصار المفترض على عصر الظلمات  و الديكتاتوريات و المعتقدات البدائية، يجد نفسه اليوم  يئن تحت وطأة العبثية والزيغ عن الأخلاق و القيم الإنسانية الكونية  ، ليعيش التيه في زمن اللا معنى ، حيث كل شيء يسير إلى لا شيء . كل الأماني في  تجاوز الإنسان البدائي تصطدم بجدار ” العبثية ” و تكشف عن الوجه القبيح لشعارات  اعتقد (بضم التاء) أنها مشعل يضيء طريق التحرر والانعتاق من زمام العبودية و المعتقدات القر وسطية ، حيث الخوف المفرط  من المآل بعد الموت و طبيعة العقاب الغامضة .

 الخوف (المراقب السحري )الذي كان  له أثر على السلوك بشكل واضح –سهولة الانقياد والاتباع – في  تلك القرون جعل الإنسان يعيش لأجل الموت ،لأجل حياة بعدية سرمدية . و الآن في عصر الثورة و قلب المعتقد أو تصحيحه أضحت الحياة  مركز النقاش وغاية الفرد و الجماعة و صار قاموس الحق و المطالبة أكثر قوة من قاموس الواجب الذي سحب منه صفة المقدس ليتوسل بالإنساني الوضعي (المراقب المباشر)  وأضحت الممارسة التشريعية نسبية ومحل خلاف و نقد مما سيجعل تمرين السيطرة 

و المراقبة منفلت  .

إن هذا التحول في العالم الذهني للبشر يتمظهر كسلوك وكفعل،  يتجلى في طبيعة المعيش ومجالات الحياة ، إذ يحضر في كل مكان و ممارسة (الدين – السياسة- الاقتصاد – الفن…..) .

 تفكيك هذا التمظهر و التجليات التي تسكن بين ثنايا و جزئيات الحياة الآنية قد يمكننا من فهم الحاضر و استشراف المستقبل بل يمكننا من  أن نرسم الابتسامة بالدم و نتوغل في نوايا “الجوكر ” المهرج الذي تعب التفاهة و أنذر بالألم الذي يسير إليه العالم .

فيلم الجوكر للمخرج  تود فيليبس ،كما شارك كذلك  في كتابة السيناريو مع المبدع سكوت سيلفر و يلعب فيه دور البطولة  الممثل الرائع خواكين فينيكس. فيلم الجوكر أو ” التحفة الفنية “الذي يؤكد دور السينما  الفعلي في التنبيه إلى أمراض المجتمع والتعبير عن حال أفراده حين يخذلهم الفاعل السياسي ، ثم فحص واقع المجتمعات فحصا فنيا ناعما ونقده بموضوعية  ، حتى يتمكن الإنسان من استشراف المستقبل و تدارك الأخطاء … ليس دور السينما هو حل مشكلات العالم أكثر من إثارتها، كذلك كان دور الفن الراقي. 

الجوكر يبدأ الفيلم  مطأطأ الرأس يضع قناع السعادة  باللون الأبيض والأزرق، و يرسم الابتسامة  بالأحمر. ألوان حين تقترن ببعضها تدل على الوطنية و الفخر و الاعتزاز بالانتماء إلى الوطن (أمريكا)، كما  قد يدل الأحمر على الدم و الثورة ،حين يخدل الوطن مواطنيه ويرمي بهم في معركة غير متكافئة وجها لوجه أمام  الأقلية المهيمنة على الحياة الاقتصادية …إن طموح هذه الأقلية إلى السيطرة و التملك و نزوعهم إلى الاستحواذ و تسليع كل شيء ، ينذر بانهيار الأخلاق الفطرية و يدفع الإنسان إلى التحول من  كائن ماهيته الكرامة إلى كائن يسكنه الفراغ .

ينبهنا الفيلم إلى طبيعة العالم اليوم   و إلى هذه الهوة السحيقة التي قذف فيها الإنسان المتحضر، حيث تنهار القيم الأصيلة وتتكون أخرى  موازية ، منبعها المادة و مصبها المادة ،حيث التوغل المفرط في ما هو مادي نفعي متحول .( لا مقياس إلا الإنسان نفسه) وكأننا في زمن السفسطة  و الوهم الذي يلبس ثوب الحقيقة و ينزعه كل حين ، الوهم الذي يلبس ثوب الأخلاق و يشكلها وفق الظروف و الأشخاص و الوضعيات المعيشية… هناك لا شيء  ثابت، كل شيء متحول ومتغير، حتى صارت الفجوة أكثر تباعدا و الهوة أكثر عمقا بين “أخلاق العبيد وأخلاق السادة” . 

“-هل رأيت كيف يبدو الواقع  بالخارج..

 -لم يعد هناك متحضر بعد، لا أحد يشعر بالآخر …

-.و يعتقدون أننا سنجلس ونتقبل الأمر كالأولاد الصغار المطيعين ..

-إننا لن ننتفض ويجن جنوننا”…..

(حوار بين الجوكر و موراي فرانكلين في برنامجه الحواري  قبل أن يرديه الأول قتيلا على المباشر…)

 تغول النظام الليبرالي  الذي يحكم التوجه الاقتصادي العالمي ، والذي يضفي فيه السياسي  -المفترض فيه حماية المواطن-المشروعية على سحق فئة من الشعب و يشرع  دستوريا قوانين تمكن الأقلية من بسط السيطرة و مراكمة الثروة .

إن أزمة الليبرالية الاقتصادية هي أزمة اخلاق بامتياز، وهو ما ينبهنا إليه الجوكر في كل لقطة من الفيلم ، و هو يرقص رقصة الموت و هو في لحظة هستيريا الضحك المرضية  و هو في الحافلة أو الميترو حين يبدأ القتل….. في الشارع حيث الأزبال و فشل سلطة غوثام .

مدينة (غوثام ) حيث الفتيل الذي سيشعل الثورة – كباقي المدن في كل العالم – بعد فقدان التقه  في الفاعل السياسي الذي كرس خطاب الشعبوية ومنطق التفاهة و الوعد بالوهم. مدينة غوثام حيث سيولد الرجل الوطواط  ( لقطة متضمنة في آخر الفيلم بعد اشتعال الثورة كرمز إلى الحل المفترض للخروج من واقع فقدان الثقة بين فئات المجتمع  )ابن الثري و الفاعل السياسي ” توماس وين ” الابن الذي سيقف في وجه الظلم ويسعى إلى تحقيق العدل خارج قوانين النظام (الدولة).   

 تعتبر الشعبوية  مرض القرن ،إنها الابن الغير شرعي  لزواج المال بالسلطة ، والتي ستهيئ مناخا مناسبا لتغول الأقلية و تؤسس  لمنطق جديد لا يمكن أن يكون منصفا إلا بتدخل الدولة الديمقراطية بموضوعية  لفرملة المد الليبرالي الاقتصادي و تخليقه وكذا المساهمة في تنمية الوعي النقدي للمواطن و السهر على تحسين الذوق العام .

  ثم ينتهي الفيلم بالبياض و الابتسامة العريضة المقلقة لجوكر، التي تفتحنا على كل الاحتمالات التي  قد يحملها قرن الشعبوية كما يصفه عالم السياسة الفرنسي بيير روزانفالون”. 

إن القلق الذي يعيشه العالم و التوتر الذي أضحى علامة الواقع- الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي… – يجعل المفكر في الغد القريب يقف على الألم الذي ينتظر الإنسان  بسبب السقوط الحر في دوامة التفاهة حيث تصنع الحقيقة كما يريد المسيطر على الاقتصاد و السياسة . هناك يستحيل الإنسان سلعة و يفقد كرامته بل تقلب القيم و تستحيل الكرامة الإنسانية  ورقة نقدية …

فلما الجدية  إذن في عالم يؤمن بالديمقراطية ويرفع شعار الشعبوية التي هي اختيار الأغلبية…إنه الخوف من انهيار بناء القيم فينهار معها الإنسان بشكل رمزي تم يقع الخراب … 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube