احمد رباص

الإبستمولوجيا والمباحث الأخرى المهتمة بالمعرفة العلمية

أحمد رباص

فلسفة العلوم، تاريخ العلوم، الإبستمولوجيا، الإبستمولوجيا التاريخية سوسيولوجيا المعرفة، كلها تشكل مجموعة من المعارف المتكاملة المتعلقة بالمعرفة العلمية. كل منها له توجهه الخاص ويفرض منهجا محددا للعمل، ولكن دراسة واحدة يمكن أن تجمع بين كل هذه التمشيات، بحيث لا يكون التمييز في ما بينها ممكنا دائما.

  • الإبستمولوجيا
    تم استخدام كلمة “إبستمولوجيا” لأول مرة سنة 1906 في ملحق لاروس المصور الجديد، واستخدمها إميل ميرسون في كتابه “الهوية والواقع” (1908). في الوقت الراهن، تعني الإبستمولوجا وصف العمليات (النظرية والعملية) التي يقوم عليها العلم وفحصها بشكل نقدي.
    تهتم الإبستمولوجيا بأنماط المعرفة (المبادئ الأساسية، مناهج البحث والتجريب) والمعرفة التي تنتجها التخصصات العلمية. إنها تدرس الشروط التي تسمح للمعرفة أو تمنعها من الحصول على الوضع العلمي وإنتاج المعرفة التي تعتبر صالحة. إنها تسلط الضوء على المعقولية المحددة للنظريات والممارسات العلمية.

تتمثل إحدى الطرق المتبعة بهذا الخصوص في التمييز، داخل إطار علم معين، بين المبادئ الأنطولوجية التي توجهها (ما هو موجود، الواقعي)، ومبادئ نظرية المعرفة التي يطبقها (طرق المعرفة) وأخيرا مناهجه بالمعنى العملي ( أشكال التجريب والتقنيات المستخدمة). تسعى الإبستيمولوجيا إلى تقعيد النماذج الإرشادية (paradigmes) العلمية (مجموعة من المبادئ المقبولة من قبل المجتمع والمتخذة كنموذج للعلم في مرحلة محددة من تطوره).
الإبستمولوجيا هي من عمل الفلاسفة المهتمين بالعلوم، وهي في نفس الوقت من عمل العلماء أنفسهم في نشاطهم عندما يفكرون في مباحثهم. يمكن لهذا التفكير الداخلي في مجال البحث، في أوقات معينة، أن يأخذ طابعا نقديا ويدعو إلى تجاوز النموذج الإرشادي الجاري به العمل.
أما الإبستمولوجيا التاريخية (مصطلح اقترحه دومينيك لوكور سنة 1969) فتهدف إلى إلقاء الضوء ليس فقط على ظهور المفاهيم العلمية، ولكن أيضا على “معقوليات” أوسع تجعله ممكنا. يدور نقاش حول ما إذا كان ينبغي دراسة هذه المعقوليات ضمن منطق علمي حصري أو كأنماط تفكير مدرجة بشكل أوسع في الثقافة العالمة في عصر ما. عادة ما تتهم تأريخية الإبستمولوجيا بأنها تؤدي إلى النسبية. لكن هذا الرأي خاطئ تماما، لأن نسبة المعرفة العلمية إلى ظروفها التاريخية لا تستبعد الحكم على صحتها. يمكننا على حد سواء وضع العلم في سياقه و “الحسم في السؤال الصعب حول صحة النظريات” (جان غايون).

  • فلسفة العلوم ونظرية المعرفة
    إنما بيراع أوغست كومت وأوغسطين كورنو تم نحت مصطلح فلسفة العلوم في القرن التاسع عشر. هذه المقاربة الواسعة سبقت زمنيا الإبستمولوجيا البحتة ولا زالت تمارس لحد الساعة. تسعى فلسفة العلوم إلى تقديم نظرة عامة عن العلم (قيمته، طرق اشتغاله، وكذلك تطوراته). إنها تهتم برؤية العالم التي تنتجها العلوم والحكاايات القابلة للمشاركة ثقافيا التي تنبثق عنها، ومكانة العلوم في المجتمع، وتأثيراتها عليه، وكذلك المشاكل الأخلاقية التي يولدها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
    كما تهتم فلسفة العلوم بمختلف أشكال المعرفة وتحدد اختلافاتها. من خلال التمييز بين أنواع المعارف أو اللامعارف (معارف مزيفة) ومصادرها، تسمح بالحكم النوعي على صلاحيتها، التي تكون نتائجها عملية. يمكن أن نربطها بتاريخ الأفكار. إنها تجعل من الممكن تحديد موقع المعرفة العلمية ضمن مجموع المعارف و تاريخها. وهكذا تبين أنها ليست منفصلة عنها، وتشاركها نفس “الإبستمي” (ميشال فوكو). فلسفة العلوم هي بالتالي امتداد نقدي وتفكيري للنشاط العلمي.
    أما نظرية المعرفة (بصفة عامة) فهي أقدم من الناحية التاريخية، إذ تعود إلى الثورة العلمية في القرن السابع عشر. منذ تلك اللحظة، كان على الكتاب وصف الفلسفة الطبيعية وتمييزها عن اللاهوت. تسعى نظرية المعرفة إلى تفكيك الآليات المنتجة للمعرفة، للتعرف على الفرضيات النظرية المسبقة والاقتضاءات الميتافيزيقية التي تحكم ممارستها. تسائل الأبعاد الأنطولوجية، الميتافيزيقية والأخلاقية التي يكشف عنها أي عمل من أعمال المعرفة. إن الدراسة النقدية للمعرفة غير العلمية (لمبادئ وعمليات هذا الفكر أو ذاك التي تقدم نفسها كمعرفة) ليس لها اسم دقيق، لكنها موجودة وتسمح لنا باقتراح الحدود بين الأسطورة، الأيديولوجيا، الميتافيزيقيا،الفلسفة، المعرفة التجريبية، إلخ.
  • تاريخ وسوسيولوجيا العلوم والمعارف
    يبدأ تاريخ العلم بفونتينيل ومراجعاته في “مذكرات أكاديمية العلوم” التي تتضمن جزءًا بعنوان “تاريخ” انطلاقا من 1702. فكر فونتينيل (في الجانب المعرفي) ووضع في السياق ما تم تقديمه في مذكرات نشرتها الأكاديمية.
    يتم التمييز بين المقاربة”الداخلية”، التي تهتم بالمنطق الخاص وبالتطورات العلمية، والمقاربة”الخارجية”، التي تأخذ في الاعتبار البيئة السوسيوقتصادية والسياسية والمؤسسات التي يعتمد عليها تطور العلوم. يمكن أن تلتقي المقاربتان معا عند وصف تطور العلم بمرور الوقت في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية.
    قدم توماس كون أسلوبا جديدا في فلسفة العلوم يجعلها أقرب إلى تاريخ العلوم مع أخذ الاعتبارات الاجتماعية بعين الاعتبار. وزاده شهرة مصطلح النموذج الإرشادي العلمي الذي أعطاه معنى جديداً.
    تصبح التطورات بمرور الوقت معقدة والمؤرخ هو الذي يحاول إعادة إنتاجها بأمانة من خلال التحقق من مصادره. يختلف تاريخ العلوم عن التركيبات المعرفية التي “تعمل على تهدئة” الصعود والهبوط ، وتجاهل النكسات والطرق المسدودة وتجاهل جوانب السيرة الذاتية. هذه الأخيرة تهم المؤرخ الذي يمكنه محاولة إعادة موضعة الاكتشافات في التاريخ الفردي للعالم.
    تهتم السوسيولوجيا بالظروف الاجتماعية (العامة أو المؤسسية) للعلوم. مقاربتها خارجية، فهي تبحث في الظروف السياسية والاقتصادية والفنية التي سمحت بالممارسة العلمية. هنا، لا يُنظر إلى العلم على أنه بناء مستقل، ولكن كنشاط اجتماعي في سياقه التاريخي ويمارس تأثيرا على المجتمع.
    يشمل هذا المجال أيضا حقلا جديدا يتعلق ببناء وتداول ونقل المعارف الأكثر تنوعا بين المجتمعات البشرية. يجري البحث عن كيفية استثمار هذه المعارف بالقيم والسلطة وما سمح بتداولها وفعاليتها الاجتماعية. هذا يندرج بالأحرى في سياق التاريخ وأنثروبولوجيا المعارف.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube