ديانات وعقائدفضاء الأكادميين

حديث وحوار: الحلقة السادسة: الإسلام وأصول الحكم – رحلة فكرية مع الشيخ على عبد الرازق

الدكتور محمد المباركي

بداية تحياتي لمتتبعي هذه الحلقة، التي ستكون رحلة ممتعة مع أحد المصلحين الأفذاذ، الشيخ على عبد الرازق. وذلك عبر كتابه القيم ” الإسلام وأصول الحكم”. هذا الكتاب الذي أحدث أكبر معركة فكرية وسياسية في العصر الحديث، ليس فقط في مصر، قطر انطلاقتها، ولكن عبر المجتمعات العربية والإسلامية. ذلك أن المسألة التي عالجها الشيخ علي عبد الرازق تخص احدى القضايا الأساسية في التطور الحضاري للمجتمعات العربية الإسلامية. ألا وهي مسألة الخلافة والامامة. هل وجودها ضروريا أم لا، بالنسبة لصلاح المسلمين؟ طرحت هذه القضية وقامت حمية المؤيدين والمناوئين لها، إثر القضاء على الخلافة العثمانية المتهاوية ومعها باب سدّتها العالية بإستنبول. وذلك بعد قيام الجمهورية التركية الفتية التي قضت على حكم الخلافة في 3 مارس 1924.

بعد القضاء على نظام الخلافة، وسلطانها الذي كان ممتدا على العديد من الشعوب العربية والإسلامية السنّية، طمع فيها بشكل أكيد، ملك مصر الخديوي أحمد فؤاد. والذي جند لهذا الأمر كل قواه. الجانب الديني لإضفاء طابع شرعي على ضرورة قيام الخلافة والسياسي لدور مصر داخل الوطن العربي. لمواجهة غطرسة الملك وبطانيّته المكونة من القوى المحافظة ورجال الدين أصدر العالم المصلح علي عبد الرازق كاتبه ” الإسلام وأصول الحكم”. وهو كتاب صغير الحجم لكنه أحدث بمضمونه المقنع والجريء ضجة فكرية وسياسية ودينية تجاوزت المحيط العربي الإسلامي لحد تدخلت فيها الدول الاستعمارية، والإنجليزية خاصة. كونها حامية مصر وهذا لترويض ملكها وعبره باقي البلدان السنية. قبل الخوض في محتوى الكتاب والقوى المتصارعة حول مفاهيمه لا بد من القاء نظرة وجيزة على حياة هذا المصلح الكبير، أحد علماء الأزهر وقاضي من قضاة المحاكم الشرعية، الذي عانى في صمت وهمّة نفس عالية كل ما أصابه من ضرر واقصاء وعسف طوال حياته الى أن وافته المنيّة في عام 1956.

نبذة عن حياة المصلح علي عبد الرازق

ولد علي عبد الرازق سنة 1888، سنة قبل مولد طه حسين، الذي سيكون رفيق دربه في المعركة والذي هو الآخر سيخلق ضجة فكرية عرمة عاما بعد الضجة التي فجرها كتاب “الاسلام وأصول الحكم”. وهذا لما صدر كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي” عام 1926. والذي صنف ككتاب يطعن في الدين الإسلامي والتراث العربي. لقد طرد طه حسين هو الآخر من مهنته.

لقد حصل الشيخ علي عبد الرازق على إجازة العالمية من جامع الأزهر عام 1911. سافر إثرها الى إنجلترا عام 1912 ليلتحق بجامعة أكسفورد لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية. ومارس مهنة القضاء بالمحاكم الشرعية ابتداء من عام 1915 الى حين اقالته عام 1925. ولقد كان اهتمامه قبل نشر كتابه هو كما ذكر في مقدمته ” ولّيت القضاء…. فحفزني ذلك الى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي، والقضاء بجميع أنواعه فرع من فروع الحكومة وتاريخه يتصل بتاريخنا، اتصالا كبيرا، وكذلك القضاء الشرعي ركن من أركان الحكومة الإسلامية وشعبة من شعبها، فلا بد حينئذ لمن يدرس تاريخ ذلك القضاء أن يبدأ بدراسة ركنه الأول. أعني الحكومة في الإسلام، وأساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والامامة العظمى فكان لا بد من بحثها”.

الوضع السياسي بمصر لما طرحت مسألة الخلافة ونشر كتاب الاسلام وأصول الحكم“.

يعد سعد زغلول أكبر زعيم سياسي لمصر وقائد ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني والتي عمت جميع أنحاء مصر وذلك إثر عودته من المنفى. بعد الثورة تمّ وضع دستور 1923 وجاءت انتخابات 1924 وفازت فيها الحركة الوطنية وفي مقدمتها حزب الوفد. وترأس زعيمه سعد زغلول الحكومة. الا أن الملك أحمد فؤاد السلطوي ألغى الدستور وأصدر قرارا بحل البرلمان في 6 مارس 1925. والحق يقال، جاء هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم القيمة الفكرية سهما موفقا في وجه طغيان المستبد المصري الملك أحمد فؤاد. الذي جند كل قواه لمقاومة رجل أعزل لا سلاح له غير كلمة الحق والغيرة على تحرير العقول ليتم معها تحرير الأرواح والأجسام.

القوي المتصارعة حول كتاب الاسلام وأصول الحكم

في صف القوى الرجعية نجد رأس رمحها الملك أحمد فؤاد والسراي ما نسميه عندنا بالقصر أي العائلة المالكة ومن يحوم حولها من أتباع مقربين. الى جانب السراي نجد الدائرة التي يمثلها الاقطاع والقوى المحافظة في المدن من كبار التجار المرتبطين برأس المال الأجنبي. الى جانب هذه الشرائح الرجعية نجد رجال الدين المتواطئين مع الحكم وفي مقدمتهم هيئة كبار العلماء، الممثلة في شيوخ الأزهر. والذين مهمتهم أضفاء شرعية دينية عبر فتاويهم، على القرارات الاستبدادية للنظام. ولهذه الغاية سيقوم رجال الدين، بإيحاء من السراي بمهمتين:

المهمة لأولى، تتجلى في خلق هيئة تأديبية من 24 عالم من الأزهر لمحاكمة الشيخ على عبد الرازق بهدف تجريده من صفته العالمية واقالته من وظيفة القضاء. وهذا تطبيقا لمقولة “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”. وبالفعل تمت محاكمة الشيخ على عبر الرازق وتنحيته من وظيفة القضاء.

المهمة الثانية، تتجلى في الدعوة ل “المؤتمر الإسلامي العام للخلافة” وأقيمت له هيئة دعوية تحت اسم المؤتمر الدائم. لم يكن هذا المؤتمر مقتصرا على القطر المصري، بل يخص مجموع المجتمعات الإسلامية السّنية. ولقد ناصرته العديد من الهيئات باسم الإسلام في مشارق الارض ومغاربها. ما يلزم الإشارة اليه، أنه كان هناك أيضا العديد من الهيئات المسلمة طرحت اسم المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ليكون خليفة للمسلمين. وهذا نظرا لوقع وتأثير الثورة الريفية التي قامت تحت راية الجهاد، في قلوب المسلمين شرق الأرض ومغاربها.

أما القوى المؤيدة لكتاب “الإسلام وأصول الحكم”، والتي كانت ترى فيه اجتهادا فكريا وتعبيرا ناطقا لحرية الرأي، فهي القوى المستنيرة. سواء داخل المثقفين أو القوى السياسية والاجتماعية الحداثية. هكذا، ستعج الكتابات عبر الجرائد والصحف، الذين مع الشيخ على عبد الرازق والذين ضده، ليتعدى النقاش الطرح العلمي ويدخل حلبة الجدال الإيديولوجي والسياسي. من بين المؤيدين للشيخ على عبد الرازق نجد نخبة من مثقفي مصر أمثال سلامة موسى وتوفيق الحكيم وطه حسين. ومن خارجها الأمير شكيب أرسلان والعلامة أبو شعيب الدكالي وشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي عندنا بالمغرب.

القوى السياسية التي ناصرت مضمون كتاب “الإسلام وأصول الحكم” وعبره مؤلفه خلال تلك الحرب الدروس، حزب الأحرار الدستوريون بالخصوص المنشق عن حزب الوفد، والذي كان يمثل الشريحة المستنيرة من البرجوازية الوطنية والموظفين والمثقفين. يمكن تلخيص موقف هذا التيار كالتالي: في القرن العشرين أصبحت السيادة للشعب لا فرق بين أفراده في تحمل المسؤولية على كافة المستويات.

أما الإنجليز فان مصلحتهم كانت في مناصرة الملك فؤاد، الذي كان دمية بين أيديهم. لهذا الغرض كتبت صحفهم اللّندنية مقالات وأبحاث في هذا الباب.

مذكرة الشيخ علي عبد الرازق، ردا على الملاحظات السبع التي وجهتها اليه كتهم هيئة كبار علماء الأزهر

لن ندخل هنا في تفاصيل الكتاب الذي بوسع القارئ الكريم الاطلاع عليها باقتناء الكتاب المتداول عبر الانترنيت. لكن ارتأينا من الفائدة بمكان، الوقوف عند التهم السبع التي قدمتها اليه هيئة كبار علماء الأزهر وملخص رد الشيخ علي عبد الرازق عليها. في تقديم الإجابة الاتهامات الموجهة اليه، قال الشيخ عبد الرازق ” أتشرف برفع هذه الكلمات ردا على الملاحظات السبع التي لوحظت على كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، راجيا أن أصل بها الى التفاهم مع علماء المسلمين ومع المسلمين كافة على ما يجلو حقيقة مسألة بحثنا، ولم أكن في ذلك الا قائما ببعض ما يجب على كل عالم من البحث والتماس الحقائق…. وانّا لنعتقد أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن الاعتراض بها على أي بحث علمي انما هي المناقشة فيه والمجادلة بالحسنى، ولا تبيح سماحة الدين ولا عدالة القوانين أكثر من هذا الحق”.

التهمة 1: جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة، لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.

جواب الشيخ عبد الرازق: نحن لا نعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة، ولم نقل ذلك مطلقا، لا الكتاب ولا غير الكتاب، ولا قلنا شيئا يشبه ذلك الرأي أو يدانيه. وفصّل صاحب الكتاب رده بالشواهد الدامغة ليخلص الى “ان الله سبحانه وتعالى قد خلّى بين عقولنا وبين الأغراض الدنيوية وتركنا أحرارا في تدبيرها وهو نص الحديث الشريف “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

التهمة الثانية: أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي كان في سبيل الملك، لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة الى العالمين.

جواب الشيخ على عبد الرازق: “اننا استقصينا الكتاب، أي كتابه، أيضا فلم نجد ذلك القول فيه، وربما كان استنتاجا لم نهتد الى مقدماته”. ولقد فند قول هيئة التحكيم موضحا أن ما تدعيه هو فقط لإجهاض الاجتهاد في الأمور الدنيوية والدينية.

التهمة الثالثة: أن نظام الحكم في عهد النبي كان موضوع غموض أو ابهام أو اضطراب أو نقص، وموجبا للحيرة.

جواب الشيخ علي عبد الرازق: بعد مدخل طويل ينفي ما جاء في تهمة هيئة كبال علماء الأزهر، فذكر أن “الحكومة كانت تشمل في زمن النبي “ص” على كل ما يلزم للدولة من عمال وأعمال، وأنظمة مضبوطة، وقواعد محدودة…. وأنه لا شيء يمنعنا من أن نعتقد أن نظام الدولة زمن النبي “ص” كان متينا ومحكما، وكان مشتملا على جميع أوجه الكمال… يتبين من ذلك أننا لا نقول بأن نظام الحكم في عهد النبي “ص” كان موضع غموض أو ابهام أو اضطراب أو نقص، وموجبا للحيرة.

التهمة الرابعة: أن مهمة النبي كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ

جواب الشيخ علي عبد الرازق: ” نحن قررنا بصراحة لا مواربة فيها، أن سلطان النبي “ص”، بمقتضى رسالته، كان سلطانا عاما، وأمره في المسلمين مطاعا، وحكمه شاملا، فلا شيء مما تمتد اليه يد الحكم والا وقد شمله سلطان النبي “ص”، ولا نوع مما يتصور من الرياسة والسلطان الا وهو داخل تحت ولاية النبي “ص”. لقد فصل وحقق وشرح الشيخ بما فيه الكفاية للإجابة على التهمة كما فعل في سياق سابقاتها.

التهمة الخامسة: انكار اجماع الصحابة على وجوب نصب الامام، وأنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.

جواب الشيخ علي عبد الرازق: “نحن نرى ما قررناه في الكتاب، من أنه لم ينعقد بين المسلمين، اجماع على وجوب نصب الامام، بالمعنى الذي اصطلح الفقهاء تسميته بالخليفة، ونحن نعتقد أننا في ذلك نقف في صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة، ومن سلف هذه الأمة وعلمائها الصالحين، الذين لا يمكن الطعن في دينهم ولا في علمهم”. يذهب الشيخ عبد الرازق في تحليله عند الرد، كما في الكتاب، كون أية أمة كيفما كانت، من أجل التعايش بين أفرادها واثبات السلم والعدالة لا بد لها من حكومة، لكن ليس تلك الخلافة ذات النوع الخاص من الحكم الذي يدعو اليه الفقهاء. إذا أرادوا ذلك يقول الشيخ “فدليلهم أقصر من دعواهم وحجتهم غير ناهضة”.

التهمة السادسة: انكار أن القضاء وظيفة شرعية

جواب الشيخ عبد الرازق. “فأما جعل القضاء وظيفة معية من وظائف الحكم ومراكز الدولة، واتخاده مقاما ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة فذلك هو الذي نعتقد، كما قررنا في كتابنا. انه من الخطط السياسية الصرفة “لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وانما تركها لنا لنرجع فيها الى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسية”. ولقد دحض الشيخ عبد الرازق بالحجة والبرهان اتهام الهيئة المطبوخ.

التهم السابعة: أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية

جواب الشيخ عبد الرزاق: “ان زعامة النبي “ص” كانت كما قلنا زعامة دينية. وأردنا بكونها دينية أنها جاءته عن طريق الرسالة، لذلك قلنا عقب كلمة “دينية” ما نصه: “جاءت عن طريق الرسالة لا غير”، فذلك صريح في أن الزعامة الدينية، معناها الزعامة التي تستند الى الرسالة والوحي. وتقابل الزعامة الدينية، بهذا المعنى، الزعامة اللادينية، فهي التي لا تستند الى وحي ولا الى رسالة”. ثم بعد الرد على تهم كبار علماء الأزهر، فند القاضي عبد الرازق ما جاءت به مقالات الصحف وتحاليل الجرائد والكتب العديدة التي حاربته تحت يافطة العلم والولاء للسلطان. ولقد رد مجمع علماء الأزهر بشكل مفصل على توضيح الشيخ علي عبد الرازق مؤكدة اتهاماتها بشكل فج، غير آخذة بعين الاعتبار التفسير العقلي الذي قدمه المتهم. أن الكتاب هو عبارة عن بحث علمي لا أقل ولا أكثر.

لقد جاء حكم الهيئة التأديبية في 12 غشت 1925 على الصيغة التالية ” حكمنا نحن شيخ الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالما معنا في هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية، ومؤلف كتاب “الإسلام وأصول الحكم” من زمرة العلماء”. وطبعا هذا القرار يعني طرده من وظيفة القضاء.

وما يلفت النظر أن الحكم كان سياسيا وليس علميا أو شرعيا. ويؤكد ذلك رسالة شيخ جامع الأزهر التي رفعها الى الملك فؤاد. حيث جاء فيها ” الى السدة العلّية الملكية، عني، وعن هيئة كبار العلماء، وسائر العلماء، فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء … وأننا جميعا نبتهل الى الله ونضرع اليه أن يديم جلالته مولانا الملك مؤيدا للدين، ورافعا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فاروق، ولي عهد الدولة المصرية، انه سميع مجيب”. من خطاب شيخ الأزهر يتضح أن مجمع علماء الأزهر ومن حولهم، يعملون لصالح تولية الملك أحمد فؤاد لخلافة المسلمين ومنه موقفهم الصارم اتجاه كل مناوئ لهذا الاتجاه. وخاصة الشيخ على عبد الرازق الذي تجرأ بكل حزم وإرادة علمية الوقوف في وجه الملك المستبد. خلاصة القول، عدم استقلالية القضاء هي عنوان النظام الاستبدادي.

مع أطيب التحيات

محمد المباركي

في 16 فبراير 2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube