احمد رباص

الوجه الآخر لسقراط في مرآة فريدريك نيتشه (الجزء الأول)

ترجمة: أحمد رباص

طوال حياته، قاد نيتشه معركة فكرية ضد سقراط، الذي لم يبد له نفس الاحترام، ولا نفس الشغف اللذين أبداهما ل”معلميه” وعدويه الآخرين، شوبنهاور و فاغنر. لماذا؟ مما لا شك فيه أن نيتشه يشتبه في أن “دوغماتية” سقراط (وجهة نظر بحسبها يكون شكل واحد الحياة، الحياة على هدي العقل، صالحا للبشرية) لم تكن وجهة نظر سقراط نفسه ولكنه كان المصير الذي لا مفر منه لالتزام سقراط بهذا الشكل من الحياة بوصفه الأفضل لنفسه وربما أيضا لبعض الناس الآخرين الذين يشبهونه . هذا الموقف الأخير لا يختلف كثيرا عن “منظورية” نيتشه، واحتمال الاضطرار إلى الاعتراف في نهاية المطاف ليس بعدو، ولكن بمشارك في هذه الصورة التي عرفت بها الثقافة التي حاربها نيتشه طيلة حياته، جعل الأخير يبدو أقل أصالة مما يوحي به مظهره. والأهم من ذلك أن هذا أدى به إلى التشكيك في أن موقفه المنظوري، الذي وفقه يستطيع أفراد مختلفون أن يعيشوا شكلا مختلفا من أشكال الحياة، يمكن في الأخير أن يتم تبنيه على نحو دوغماتي وأن ينظر إليه على أنه استمرار للتقاليد العقائدية التي كان يتمنى كثيرا الابتعاد عنها.
يقول نيتشه في “Considérations inactuelles, III”: هناك كاتب واحد فقط أضعه في نفس رتبة شوبنهاور اعتبارا لنزاهته ، وأنا أضعه أعلى من ذلك، انه مونطني. فأن يكتب حقا رجل بهذه الصفة ، عن فرحة العيش على الأرض يؤهله لاعتلائها. من جهتي، على الأقل، منذ أن عرفت هذه الروح، الأكثر حرية وقوة على الاطلاق، يجب علي أن أقول ما قاله مونطني عن بلوتارخ: “ما كدت أن ألقي عليه نظرة حتى (شعرت) بأن فخذا أو جناحا دفعني”. انما معه سوف أرتبط، إذا كانت المهمة المفروضة علي هي التأقلم مع الأرض”.
نيتشه، الذي لم تفرض عليه أبدا مهمة “التأقلم مع الأرض”، كتب هذه الأسطر في Schopenhauer éducateur (شوبنهاور مربيا)، الاعتبار الثالث من الConsidérations inactuelles (اعتبارات غير صحيحة)، أحد أعماله الأولى، من بين الأكثر روعة. ففي هذا الكتاب – وليس من قبيل المصادفة – أن نجد تبنيه الأول لشذرة من شعر بيندار : “تعلم، ثم صر كما أنت” : “الانسان الذي لا يريد أن يكون جزءا من الحشد ما عليه الا أن يكف عن الرضا عن نفسه؛ فليطع ضميره الذي يقول له: “كن نفسك! كل ما تفعله الآن، كل ما تفكر فيه وكل ما ترغب فيه لست أنت من يقوم به، فكر وارغب فيه”. انتهى نيتشه الى تبسيط هذه الفكرة في صيغة رئيسية:” كيف نصير كما نحن؟ “(العنوان الفرعي لسيرته الذاتية الفكرية، Ecce Homo، هذا هو الانسان)، وهي صيغة واعية بالمهمة التي أناط فعلا بها نفسه: العمل على أن يصير تدريجيا الشخص الذي نعرفه اليوم بهذا الاسم.
رسميا، أريد لهذه المحاولة أن تكون تكريما لشوبنهاور الذي أظهر له، سواء من خلال نموذجه الشخصي أو من خلال نظرياته الفلسفية، كيف يباشر المصير الذي آل اليه حقا. ولكن هذا المؤلف هو، في الوقت نفسه، إعلان عن استقلال نيتشه عن قدوته ومعلمه. انتهى بالنظر إلى أن Considérations inactuelles لم تتناول مواضيعهما المختلفة، ولكنها تناولت موضوعا مختلفا تماما. كتب في Ecce Homo عن المحاولات الأربعة، قائلا انها “في العمق […] لا تتحدث الا عن ذاتي. كتاب Wagner à Bayreuth (فاغنر في بيروث)، هو رؤية لمستقبلي. بالمقابل، فيSchopenhauer éducateur تندرج قصة حياتي ومصيري في وقت واحد. […] في الحقيقة، ليس المراد هو”شوبنهاور مربيا”، ولكن نقيضه ، ” نيتشه مربيا”، الذي يتحدث هنا “. المحاولة الرابعة، Richard Wagner à Bayreuth، هي الأكثر نقدا واتهاما، على الرغم من أنه من المستغرب بما فيه الكفاية، كون فاغنر لم يدركها على هذا النحو. وعلى الرغم من ذلك، فإن أيا من المحاولتين لا تترك أحدا يدرك بوضوح القوة التي سينقلب بها نيتشه في نهاية المطاف ضد “مربييه” الأولين.
غني عن البيان أن قوة نيتشه، في هذه النقطة كما في كل ما يتعلق به، ليست بلا حدود ولا تخلو من تناقض. فمن ناحية، يؤكد في إحدى مذكراته المنشورة بعد وفاته أنه “فيما يتعلق بالفكرة القائلة بأن تاريخ ظواهر الأخلاق في مجملها سوف يخضع لتبسيط بقدر ما يتصور شوبنهاور – الذي بالنسبة له يمكن أن نجد الرحمة هي أصل جميع الاتجاهات الأخلاقية السابقة – فقد قدر بلوغ هذه الدرجة من الحماقة والسذاجة لمفكر مجرد من أي حس تاريخي وهارب بأغرب طريقة من هذا التعلم المتين من التاريخ الذي تابعه الألمان من هيردر إلى هيجل “. من جهة أخرى، كتب أن شوبنهاور وهيغل، اللذين لا يحبهما أبدا، هما “أخان عدوان للفلسفة، بتوجههما نحو قطبي الروح الألمانية، ظهرا أن كليهما غير عادل تجاه الأخر كما بمقدور الاخوة وحدهم أن يكونوا”. وحتى وان كان شوبنهاور “فيلسوفا حقيقيا” فقد اعتبر نيتشه رؤيته حول أولوية الإرادة مثل”الخرافة”، مثل التبني المبالغ فيه ل”حكم شعبي مسبق”، ناهيكم عن الاهانة في العبارات الأكثر قسوة ومرارة.
ومن بين عيوب فاغنر التي لا حصر لها، يذكر نيتشه أيضا أنه كان “كارثة كبيرة بالنسبة للموسيقى. في الموسيقى وجد وسيلة لإثارة أعصاب مرهقة – هكذا جعل الموسيقى مريضة”. ومع ذلك نجده يفتخر بعلاقة الصداقة التي تربط بينهما، حيث كتب يقول: “[…] يجب أن أقول كلمة للتعبير عن امتناني لمن أعاد دائما وفي كل حين إنشائي بأكبر قدر من العمق والود. دون أي شك، هكذا كانت علاقتي الحميمة مع ريتشارد فاغنر. عشت حالات نادرة (من هذا القبيل) في سائر علاقاتي الأخرى بالرجال. مثل هذا الخليط من العداوة والكرم هو أمر بالغ الأهمية وبعيد عن أن يكون غير طبيعي عند نيتشه. وهذا يستحق التشديد عليه، لأننا سنلتقي قريبا بحالة أخرى مماثلة.
لا يذكر نيتشه في كثير من الأحيان مونطني، لكن وحدها قراءة الأخير استطاعت أن تكون مصدر إلهام له في بعض المقاطع من كتابات مرحلة النضج . في واحد من هذه المقاطع، يقول نيتشه: “تقريبا جميع الاعاقات الجسدية والعقلية للأفراد” مستمدة من كونهم “جاهلين” بالأشاء الأصغر حجما والأكثر تداولا في كل يوم. العالم يعلمنا أن نبتعد عن “الأشياء التي تلمسنا”، عن احاجاتنا الخاصة وعاداتنا، عن أنفسنا:
” الكهنة والأساتذة والطموح السامي للمثاليين من جميع الأنواع، الخشنة والناعمة، يقنعون الطفل بالفعل أن ما يهم هو شيء آخر تماما: خلاص الروح، خدمة الدولة، تقدم العلم، وإما الجاه والممتلكات، كوسيلة لتقديم الخدمة للبشرية جمعاء، بدلا من اعتبار حاجات الفرد، ضروراته الكبيرة والصغيرة، خلال ساعات اليوم الأربعة وعشرين، شيئا حقيرا أو غير ذي بال”.
“ليس لدينا هنا إلا صدى من الصفحة الأخيرة من كتاب Essais، حيث يكتب مونطني، كما فعل عدة مرات، أننا “نسعى إلى ظروف أخرى، حتى لا نفهم كيف تمر ظروفنا ونذهب خارج أنفسنا، حتى لا نعرف ما يقع فيها”؟ كان نيتشه على بينة من هذا التواطؤ: مونطني يمثل بالنسبة له، كما يكتب، “قسطا من الراحة في حد ذاته، ملاذا هادئا في حد ذاته، واستراحة لتنفس الصعداء.” ثم قرب نيتشه مونطني من سقراط، الشيء الذي يعيدنا إلى موضوعنا:
سقراط دافع بالفعل عن نفسه بكل ما لديه من قوة ضد هذا الإهمال للانساني على حساب الإنسان، وكان يحب، من خلال اقتباس من هوميروس، أن يذكر بحدود وموضوع كل رعاية وتفكير: ذلك، كما قال ، هو فقط ما يحدث لي أنا من خير أوشر””.
أخذ نيتشه من ديوجين لايرسي هذه الحكاية عن الاقتباس الذي قام به سقراط عن هوميروس. لكن مثل هذه الصورة الإيجابية لسقراط الذي ابتعد عن “خدمة الدولة ، [عن] تقدم العلم ، أو [عن] الجاه و[عن] الملكية تستحضر عناصر مشتركة في صور عن مونطني و اكسينوفون. لكن الشيء المثير للاهتمام هو أنه في النهاية لم يعد نيتشه أكثر إخلاصا لمصادره من مونطني الذي تنكر هو الأخر لمصادره. سقراطه، مثلا، لم يفكر في “مصلحة الإنسان” ، كما فعل سقراط اكسينوفون. الأول لا يهتم إلا بنفسه ، ومن هذا المنظور، هو أقرب إلى التمثل الذي يرتسم عنه في نفس الوقت في المحاورات الأولى لأفلاطون ولدى مونطني نفسه. على الرغم من استساغته للتعميمات على مستوى العالم والتاريخ ، فإن نيتشه يتشبث كثيراً بفكرة أنه من المهم أن يقوم بالانطواء على نفسه ، وهو الانطواء الذي قام به هو نفسه في مجمل أعماله الأخيرة. في Le Crépuscule des idoles ، على سبيل المثال ، يؤكد، بأسلوب لا يخلو من إطناب، “أننا لا نعترف بالرجال العظماء إذا نظرنا إليهم من منظور بائس للمنفعة العامة. إذا تعذر استخلاص أي منفعة منهم، فهذا هو الجوهر نفسه للعظمة…”
لا نعرف لماذا بدأ نيتشه في تقدير سقراط، الذي نقده نقدا لاذعا في La Naissance de la tragédie، حينما كان مشغولا بكتابة Considérations inactuelles و Humain, trop humain، وبينما كان يتحرر تدريجيا من شوبنهاور وفاغنر. في La Naissance de la tragédie، مثلا، يتهم سقراط بالتسبب في ضياع التراجيديا. والاستعارة المعتمة التي تمثل بها تأثير سقراط هي استعارة “ظل يمتد باستمرار تحت شعاعات شمس المغيب “. بعد عامين، مع ذلك، كتب في Schopenhauer éducateur ، أن ” الظروف اللازمة لخلق عبقري لم تتحسن في الآونة الأخيرة. بالعكس، الاشمئزاز الذي يشعر به الرجال الأصلاء ازداد لدرجة أن سقراط لم يستطيع أن يعيش معنا، وأنه على كل حال لم يكن عمره قد بلغ السبعين عاما.”
وعلى الرغم من كونها مؤقتة، فقد كانت لفتة نيتشه لصالح سقراط أبعد من أن تكون دالة. ففي ملاحظة تعود لعام 1875 ، كتب أن ” سقراط أفلاطون هو بالمعنى الحقيقي ” كاريكاتير” عبء ثقيل “. نحو عام 1878 ، بدا له أنه من الممكن أن يتفق مع أفلاطون وسقراط على فكرة أن “أيًا كان ما يفعله الانسان ، فإنه دائمًا يفعل الخير ، أي: ما يبدو حسنا بالنسبة إليه (مفيد ) ، وفقا لدرجة ذكائه ، للمستوى الحالي لمنطقه “. هذه المجموعة من النظرات في مجال الأخلاق ، لم يكتب لها الدوام مع ذلك. إذ انتهي نيتشه الى التخلي عن الأطروحة التي بموجبها كل تصرف يهدف إلى الخير، وقد تم ذلك بأكثر الطرق حسما. وبينما عاد مرة أخرى لإدانة سقراط – بطريقة أكثر جذرية مما فعله في La Naissance de la tragédie – توصل نيتشه إلى فكرة أن أفلاطون دافع عن هذا الرأي رغم أنفه ، وبسبب التأثير الخبيث لسقراط: “هذا المنطق تشتم منه رائحة العوام، الذين لا يرون في عمل سيئ سوى عواقبه المؤسفة ويعتبرون فعلا أن” من الغباء التصرف بشكل سيء “، من خلال مماثلة” الخير ” مع “المفيد والممتع” بدون أي طريقة.”
يعيدنا هذا التلميح إلى “العوام” إلى ” مشكلة سقراط ” ، آخر نصوص نيتشه المنشورة حيث يقف طويلا عند قضية سقراط ويتخذها موضوعا رئيسيا لهذا الفصل بالتفصيل: ” ينتمي سقراط ، من حيث أصله ، إلى الفئة الدنيا من الشعب: كان سقراط من الدهماء. نحن نعلم ، بل أيضا نشاهد كيف كان قبيح الوجه.” الطابع الشخصي (قد نميل إلى أن نقول غير الفلسفي) لهذا النقد الدقيق ليس استثنائيا: إنه في مجمله محاولة يهيمن عليها ازدراء وعداء. تقريبا جميع الانتقادات التي صاغها نيتشه في حق سقراط ضمن كتاباته الأخيرة هي انتقادات شخصية. وسؤالي هو: لماذا؟
بصرف النظر عن شوبنهاور وفاغنر ، لم تؤد أي شخصية دورًا مهمًا مثل دور سقراط في ازدهار نيتشه الشخصي والفكري. في الواقع ، كانت تربطه بسقراط علاقة أكثر عمقا من العلاقة التي جمعته بالإثنين الآخرين ، وكان يعرف ذلك: “سقراط، أعترفا مني في هاذي المرة وإلى الأبد ، قريب جدًا مني بحيث أجدني دائما تقريبا في معركة أخوضها ضده” . لكن لماذا ، خارج الهدنة التي أبرمت معه في أعمال النضج (باستثناء واحد ، سنعود إليه) ، لم يبن نيتشه حيال سقراط عن سعة أفق ، عن احترام ، عن امتنان ، بل عن حب ، مثلما تصرف مع معلميه الآخرين؟ لماذا، في حالة سقراط وحده، هذه الملكة التي كانت لنيتشه للتفكير في الأمور من وجهات نظر متعددة، لأن يكون موضوعياً ، بالمعنى الذي فهمه ، ولأن “يستخدم من أجل المعرفة هذا التنوع الشديد في وجهات النظر والتأويلات الوجدانية “، لماذا تخلى عنها؟ هل كان نيتشه جزئياً بحيث أن كتاباته عن سقراط توحي بذلك بوجه عام؟ أم أن المظاهر خادعة؟ تشير مرارته الشديدة إلى أنها كذلك. يرفض نيتشه، بشكل عام، منح مصداقية لا تحاكى للمواقف الحاسمة. على سبيل المثال ، يستنكف عن الاعتقاد بأن رفض الملذات الدنيوية التي تدعو إلى الزهد المسيحي بكل هذا الحماس هو في الواقع رفض للحياة التي يبدو عليها.
ربما يجب علينا تطبيق التشخيص الذي قدمه عن الزهد على مقاربته الخاصة لسقراط. ربما يجب أن نقول إن إدانته القاطعة لسقراط ، مثل كراهية الزهد في الحياة ، “يجب أن تكون نوعًا من التعبير المؤقت ، تأويلا، صيغة ، حلا توفيقيا ، سوء فهم نفسيا لشيء لم يكن بوسعنا لفترة طويلة أن نفهم طبيعته الحقيقية ، أن نتعرف على جوهره الحقيقي.”
قبل إخضاع المؤول الحذر لتأويل لا يقل حذرا ، من المعقول أن نسأل ما إذا كان سقراط هو بالفعل أحد “معلمي” نيتشه. هل أدى “سقراط” في فكر نيتشه دوراً مشابهاً لدور “شوبنهاور” و “فاغنر” ، أم أنه ببساطة كان عدوه؟ إذا كان دوره غير قابل للمقارنة ، فإن الرفض القاطع الذي يميز موقف نيتشه قد لا يكون له في الواقع سوى فائدة نسبية. ومع ذلك ، حتى لو كان السؤال مطروحًا ، فإن صورة نيتشه المحارب ضد سقراط لا ينبغي أن تضللنا وتؤدي بنا إلى إنكار أن الفيلسوف اليوناني احتل مكانًا يشبه ذلك المكان الذي يحتله شوبنر وفاغنر في حياة وفكر نيتشه. لم يعتقد نيتشه أبداً أن المقاومة استبعدت أي تعلم فعال. مقطع جميل جدا من Gai Savoir يظهر ذلك بوضوح شديد:
“تلاميذ غير مرغوب فيهم، – “ماذا علي أن أفعل بهذين الشابين؟” صرخ بمزاج فيلسوف ” أفسد ” الشباب ، كما كان سقراط قد أفسدهم سابقاً، – هؤلاء هم التلاميذ الذين وصلوا إلي بشكل سيء. هذا لا يعرف كيف يقول “لا” ، وذاك الآخر يجيب على كل الأشياء بالتزام الحد الأوسط. وإذا سلمنا بأنهما فهما مذهبي ، فإن الأول سيعاني أكثر من اللازم ، لأن أفكاري تقتضي روحاً محاربة، رغبة في الأذية ، رغبة في النفي ، غلافا متينا، – سوف يستسلم لجراحه المفتوحة وجراحه الدخيلة”.
هذا الفيلسوف الممتلئ “مزاجا” ، الذي ربما لم يكن بعيداً عن نيتشه نفسه ، يريد تلاميذ قادرين على قول “لا”. إذا كان بإمكانهم قول ” لا ” بشكل عام ، فيجب أن يكونوا قادرين أيضًا على قول ” لا ” لسيدهم: “لدينا القليل من التقدير للمعلم ، عندما نبقى دائمًا تلاميذ”. من الواضح ، مع ذلك ، أنه لا يكفي أن يحارب نيتشه ضد سقراط ليصبح تلميذه. لقياس ما إذا كان كذلك ، إذا كان سقراط ، في نهاية الأمر ، أحد معلمي نيتشه ، فيجب أن نذهب أبعد من ذلك.
من بداية أعماله إلى آخرها ، من La Naissance de la tragédie إلى Ecce Homo ، يربط نيتشه سقراط بمجموعة من الأفكار والمواقف التي يمكن أن توصف ، على وجه التقريب ، كما يلي. أولاً ، نفى سقراط أهمية الغريزة وفضل التأكيد على العقل والجدل ، وهو ما احتفظ به للنشاط البشري الأساسي. ثانياً ، أدخل الأخلاق الى العالم. وهذا يعني، وفقاً لنيتشه، أن سقراط أدخل طريقة تفكير تستدعي الأسباب التي على أساسها يتصرف الناس من أجل تبرير عملهم. وهي مفهومة بهذه الطريقة، توضح الأهمية التي أعطاها سقراط للأخلاق فكرة أن العقل هو خاصيتنا الأساسية. وكما يعتقد نيتشه أن الأسباب ، بطبيعتها ، كونية – إذا كان هناك شيء ما في الواقع سبب، فهذا سبب كل المخلوقات العاقلة – يعتقد أيضًا أن الأخلاق يفترض تطبيقها على الجميع بنفس الطريقة. الأخلاق، كما يراها نيتشه، تقتضي أن الأشخاص المختلفين في وضع مماثل سوف يتصرفون بنفس الطريقة، لأنهم، من وجهة نظر أخلاقية، متطابقون (أي عقلاء). ومن ثم ، فإن الأخلاق هي في جوهرها، وفقاً لنيتشه، كونية أو، لاستخدام لغته ، دوغمائية. فهي تتصور مجموعة واحدة من الدوافع ومدونة سلوك واحدة يجب على الجميع الالتزام بها. ثالثًا ، من خلال مناشدة العقل والأخلاق ، دمر سقراط العالم اليوناني التراجيدي وفنه، وزرع بذور ما نحن عليه الآن: فهو ، بكل جد ، أول شخص حديث.
في La Naissance de la tragédie، كما رأينا ، اتهم نيتشه “سقراط” بالتسبب في ضياع التراجيديا. استنادا للتصور الساذج الذي كان لدى نيتشه عن اليونان القديمة والكلاسيكية، لا تعتقد الثقافة التي تم التعبير عنها من خلال المسرحيات التراجيدية لإسخيلوس وسوفوكليس أن العالم والحياة في هذا العالم يتطلبان تبريرا صريحا . قبل اليونانيين الأوائل العالم والحياة كما كانا ، و احتفلوا بالمظاهر الأكثر بشاعة. على وجه التحديد، فإن التراجيديا، فنهم الأكبر، مجد جهودا مصيرها حتما الفشل كان الفرد يبذلها كي يرويض ويستخدم لأغراض انسانية هذه العناصر المعينة من العالم التي يكون مصيرنا غير مبال بها تماما والتي بالنسبة اليها لا نكتسي أي أهمية تذكر. وفقا لنيتشه، مجدت التراجيديا، في شخص البطل، الرجل الذي يقف عبثا ضد عالم لا يصل اليه عمل الإنسان، في نفس الوقت الذي، تحت ستار من الجوقة، احتفلت فيه بهذا نفسه العالم الذي في النهاية يشكل الفرد المعني جزء منه. الأفراد ينتمون إلى الطبيعة وجهودهم لإخضاعها هي الأخرى طبيعية ، نتاج للطبيعة التي ينوون قهرها. الصراع الذي يواجه الفرد بالمجتمع ، الثقافة بالطبيعة، واضح ليس الا.
الأفراد الذين يقيسون أنفسهم بالعالم، مثل الثقافات كلها التي تسعى لتغيير مجرى التاريخ، بالنسبة، لنينشه، ليسوا شيء آخر غير ابداعات “فنية” من صنع العالم نفسه. يواصل نيتشه في مقطع مشهور قائلا ان الفن ذاته ، كما الحياة “لا يقدم لنا بأي حال من الأحوال ، من أجل تحسيننا وتعليمنا، فلا يعدو أخيرا كوننا المبدعين الحقيقيين لهذا العالم الفني. ولكن من المؤكد أن لدينا الحق في أن نفكر ، باعتبارنا مبدعيه الحقيقيين ، بأننا بالفعل صور وإسقاطات فنية ، وأنه عن طريق فهمنا للأعمال الفنية ، نصل إلى أعلى درجات الكرامة، – لأنه لا يمكن تبرير الوجود والعالم أبديا الا كظاهرة جمالية فقط؛ – في حين أننا في الواقع نكاد نكون أقل وعيا بالدلالة التي تؤول إلينا وهي أن المحاربين الذين رسموا على قماش يمكن أن يكونوا مدركين للمعركة التي تم تمثيلها هناك”.
تكشف التراجيديا، وفقا لنيتشه ، أن الأفراد وأفعالهم ، مثل الثقافات ومنتوجاتها ، ليس لها أدنى أهمية في نهاية الأمر. لا يمكن لهم أن يؤثروا على العالم ، الذي “رغم تغيرالأجيال وتقلبات تاريخ الشعوب ، يبقى كما هو إلى الأبد “. لكن التراجيديا تظهر أيضًا أننا كائنات ، وأننا جزء لا يتجزأ من الحياة التي “تظل، في حقيقة الأشياء، رغم تقلب الظواهر، قوية بشكل لا يمكن إزالته ومليئة بالمتعة” وتتيح لنا، باعتبارنا كذلك، الاستمتاع بالقوة التي نتقاسمها مع الكل الذي ننتمي إليه. يعتقد نيتشه، بنوع من الحنين ، أن السكان الأرستقراطيين في العالم الذي أنتج هذا الفن مرهونون باحترام التقليد والسلطة: كانوا “متأقلمين مع الأرض”، واعين ربما بقسوتها بحيث لا تكون لديهم ، في النهاية ، أي أهمية ، ولكنهم على استعداد لقبول كل هذا في الحال. كانوا على استعداد للعيش والعمل ، مع علمهم بأن أفعالهم لن تغير العالم بشكل ذي دلالة لأنهم كانوا يدركون حدود العقل. كانوا يعرفون أن المرء لا يستطيع الوصول إلى فهم منهجي ودقيق للعالم ، ولا الى تبرير عقلاني نهائي للفعل. كان ثقل التقليد هو السلطة الوحيدة التي أسندوها لأفعالهم: فقد عاشوا كما عاشوا لأن الناس مثلهم عاشوا هكذا دائمًا.
إذا تتبعنا تأويل نيتشه ، فإن سقراط كان مندهشا من التقاليد المستثمرة بمثل هذه القوة: لا الفنانون ولا الرجال العظام في العصر التراجيديي حازوا فهما عقلانيا لنمط حياتهم أو للعالم الذي يعيشون فيه. من المهم جدا ، أنهم لم يكونوا قادرين على إعطاء إجابة لسقراط عندما كان يسألهم ، كما نراه يفعل باستمرار في حوارات أفلاطون ، ” لماذا؟ “. نمط حياتهم ، بشكل عام ، لم يحتضن السؤال العقلاني ب”لماذا”. تصرفوا “غريزيًا فقط “: ” غريزيًا فقط “: هذه العبارة تجعلنا نضع الأصبع على قلب ونخاع التوجه السقراطي. بهذه الكلمات، أدانت فلسفة سقراط كلا من الفن والأخلاقيات السائدين في وقته: حيثما توجه بنظره المتفحص، يلاحظ غياب الحكم وسطوة الوهم، ويخلص من ذلك إلى عبثية متجذرة ، الى ادانة كل موجود. فلسفة سقراط الأخلاقية تماثل الفضيلة بالمعرفة. لازمتها الطبيعية هي ” فلسفته الجمالية ” ، التي تربط بين الجمال والذكاء. التراجيديا وجدت الجمال والخير في ما لا يمكن تفسيره بالعقل. فلسفة سقراط، أي فكرة أن ما هو خير وجميل لا يمكن أن يكون الا معقولا، دمرت التراجيديا كما دمرت عالما بأسره ” الذي سيكون من دواعي سعادتنا القصوى أن نتسلم منه بكل تقديس أصغر مشعل “، وفقا لنيتشه.
كيف استطاع “سقراط” تدمير عالم بأكمله؟ “عينه الواسعة العملاقة ” لم تر في هذا العالم وفنه سوى “شيء غير معقول تماما ، أسباب يبدو أنها ستبقى دون تأثير، وآثار لا يمكن تمييز أسبابها “. لقد رفض فكرة أن العالم لا يمكن فهمه بشكل نهائي ، وأنه لم يخلق من أجلنا ، وأن لا شيء مما نفعله ، كما أظهرت التراجيديا، يمكن أن يغير هذا العالم بفعالية وإلى الأفضل. لقد شعر بالرعب من الرؤية التراجيدية للأبطال المدمرين بينما هم لم يرتكبوا أي خطأ ولم يقترفوا أي فعل من أفعال الشر. ورفض النظرة التشاؤمية القائلة بأنه بعيداً عن ضمان النجاح والسعادة ، فإن المعرفة والفضيلة يمكن أن تؤدي إلى تدمير البطل. رفض اتباع مسار التقليد غير العقلاني. بدلا من ذلك ، نصب سقراط نفسه ك”نموذج أصيل للتفاؤل النظري ، الذي ينسب في وقت واحد، في ظل إمكانية التعمق في طبيعة الأشياء، للعلم ، للمعرفة ، فضيلة الدواء الشافي ، ويعتبر الخطأ شرا في حد ذاته “. هو من أسس الجدل ، الذي اقترح ( صيغة المبني للمجهول) للكشف عن سبب كل ما نفعله ، ودافع عنه ، وهو الأمر الذي لم يكن بمقدور لا المجتمع ولا للفن القيام به. كانت انتقاداته قاتلة ، لأن الثقافة التي هاجمها سقراط لم تكن قادرة ، كما طالب ، على تقديم سبب لما كانت عليه ، وكان قادرا على إقناع معاصريه بأن يروا في هذا الضعف اعاقة لا تغتفر.
لقد حان الوقت لوضع La Naissance de la tragédie جانباً: مسودة التعليق هاته لم يكن موضوعها سوى عرض الثيمات المتعلقة بسقراط التي فرضت على نيتشه الانشغال بها طوال حياته. لكن، بينما ظلت هذه الثيمات بدون تغيير ، لم يكن الأمر نفسه صحيحاً في ما يتعلق بموقف نيتشه. لقد رأينا، في كتابات النضج ، كيف أن نيتشه، عندما ابتعد عن شوبنهاور وفاغنر ( بطلا La Naissance de la tragédie) ، ظهر أنه قد أبرم نوعًا من الهدنة مع سقراط. الجدل ، الذي هوجم بعنف في …La Naissance، اكتسب الآن صورة إيجابية ؛ أصبحت حوارات أفلاطون كلها نابضة بالفرحة بابداعه. المحدثون الذين لم يتذوقوه كانوا عرضة لهجوم صارم:
“في ذلك الوقت ، في اليونان ، كان لا يزال لدى المرء على لسانه هذا المذاق الآخر ، الأكثر قدمًا والأكثر قوة في الماضي: وبجانبه ، ظهر الذوق الجديد بجاذبية كبيرة لدرجة أننا بدأنا نغني ونتأتئ بالجدل، ” الفن الإلهي” ، كما لو كنا فريسة لجنون الحب. الذوق القديم، كان هو الفكر العبودي والأخلاق التي لا وجود فيها الا لأحكام ثابتة ، لوقائع محددة ، وليس هناك من أسباب أخرى غير أسباب السلطة […]. لقد كان سقراط هو الذي اكتشف الجاذبية المعاكسة ، جاذبية العلة والأثر، السبب والنتيجة: نحن الرجال المعاصرون الآخرون، اعتدنا على ضرورة المنطق ونشأنا على فكرة هذه الضرورة ، التي تقدم نفسها لنا كمذاق طبيعي ، والتي، باعتبارها كذلك ، تبغض بالضرورة المستمتعين والمغرورين. “
تعرضت هذه الهدنة لاضطراب ، ولم يبتعد نيتشه أبداً عن احتياطه من سقراط. كان دائما على استعداد للسخرية منه: “ربما على هذا النحوأيضا يكون شيطان سقراط مرضا أصاب حاسة سمعه، بحيث أنه هو نفسه ، وفقا لتوجهه الأخلاقي المهيمن ، يمكن أن يشرح ذاته بطريقة أخرى لن يستطيع اليوم استعمالها “. بالنسبة للباقي، استغرقت هذه المهلة المضطربة نفسها مدة قصيرة. في الوقت الذي كتب فيه Le problème de Socrate الذي سوف أهتم به الآن، قرر نيتشه أن “التفاؤل النظري” عند سقراط، وهو ما عابه عليه في La Naissance، كان علامة على انحطاط مريع . يؤكد الآن أن سقراط كان مريضاً ، أنه أدرك – استوعب وعاش – الحياة كمرض . اليكم الكلمات الأخيرة لسقراط في محاورة Le Phédon لأفلاطون: ” في ذمتي ديك لأسقولابيوس،” تشير، في ما يبدو، الى العادة التي كانت تقتضي التضحية بديك على شرف اله الطب بعد الشفاء من المرض ؛ يؤكد نيتشه أن المرض الذي كان سقراط يشعر بالامتنان لاستشفائه منه هو الحياة نفسها. كان نيتشه قد عبر عن هذه الفكرة قبل بضع سنوات، عندما كتب أنه يود لو أن سقراط، الذي كان ثرثارة جدا، ” لزم المت في اللحظات الأخيرة من حياته.” وأضاف: “هل هذا ممكن! رجل كان سعيدا وعاش أمام الجميع كجندي – رجل كهذا متشائم! لكنه في الحقيقة لم يحاول حل مشكلة سقراط قبل Crépuscule des idoles.
تفتتح هذه المحاولة بالفكرة التي طورها سقراط و “الأكثر حكمة”، وهي أن الحياة “لا قيمة لها”. لكن نيتشه يرفض الاعتراف بوجهة نظرهم. يقول إنها ليست الحياة ، ولكن أولائك الحكماء أنفسهم هم الذين لا قيمة لهم: ” هل كانوا ربما، ما داموا موجودين، ثابتين على سيقانهم، هل كانوا ربما متخلفين، متعثرين، منحطين؟ […] كيف ؟ فكل هؤلاء الحكماء الكبار – لم يكونوا منحطين فقط، بل لم يكونوا حتى حكماء”. كان نيتشه ، مثل مونطني ، مفتونا بالقصة التي يحكيها شيشرون عن وجه سقراط: “[…] المجرم منحط. هل كان سقراط مجرمًا نموذجيًا؟ على الأقل هذا لن يتناقض مع هذا الحكم الفيزيولوجي الشهير الذي صدم جميع أصدقاء سقراط. أثناء مروره عبر أثينا ، قال شخص غريب ذو باع في علم الفراسة لسقراط في وجهه أنه كان وحشًا ، وأنه يخفى في نفسه جميع الرذائل والرغبات السيئة. أجاب سقراط ببساطة: “أنت تعرفني، يا سيدي! ” على الرغم من أنه كان قد أكد بانتظام على إيمان سقراط بالعقل وضبط النفس ، إلا أن نيتشه لم يسع لشرح ذلك من قبل. هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يفعل فيها ذلك. إن عقلانية سقراط هي في آن واحد عرض ونتاج للجهود التي بذلها للافلات من “المرض” الذي كان، اذا صدقنا نيتشه، يعاني منه.
هذا المرض ، الذي يشهد عليه وجه سقراط ، هو “الانحطاط”. ” إن الاضطرابات التي يعترف بها والفوضى في الغرائز ليست المؤشرات الوحيدة [على المرض]: ما يؤشر عليه أيضا تضخيم المنطق وشراسة الكسيح التي تميزه “. كان لا بد لاحترام سقراط للعقل من أن يحبط رفاقه من الطبقة الأرستقراطية الأثينية. نيتشه يتابع: ” حيثما ظلت السلطة مشاعة، الا وامتنع استعمال ” العقل”، الا وأعطيت الأوامر، الجدلي هو نوع من السر المكشوف: سخروا منه، ولم يحملوه على محمل الجد. – كان سقراط سرا مكشوفا معلنا عن نفسه بكل جدية: ما الذي حدث بالضبط هناك؟ كيف يفوز هذا الوجه المنفر بواحد من أعظم الانتصارات الفكرية في كل العصور؟ كيف تمكن سقراط من “سحر” عالمه حتى النهاية؟
يعزو نيتشه انتصار سقراط الى سببين. الأول هو أن الديالكتيك (الجدل) السقراطي مثل شكلاً جديدًا من أشكال المعركة التي كان الأثينيون يتعاطون لها: افتتن الناس بسقراط للمسه غريزة القتال عند الهيلينيين – جاء بمتغيرة في الصراع بين الرجال الشباب والأطفال اليافعين. سقراط جسد أيضا المأساة “. بعبارة أخرى ، استخدم “سقراط” البنية العامة لمؤسسة قائمة لإعطائها مضمونًا ومعنىً جديدًين: قام بتكييف المنافس الطبيعي مع أقداره الخاصة. يوجد هنا، بحسب نيتشه، تجل مثالي ل” إرادة القوة “، التي هي ملكة استخدام المواد الموجودة قبلا بطريقة جديدة تماما. إنها ، في نظره ، الآلية التي تقوم عليها جميع التغييرات العظيمة في التاريخ:
“[…] كل شيء موجود ، كل شيء تم إنتاجه بطريقة ما الا ويتم نقله ، من طرف قوة تفوقه، إلى مآلات جديدة ، معدا دائمًا للمساهمة، مسلحًا ومعدلًا لوظيفة جديدة؛ […] كل أمر واقع في العالم العضوي هو دائما استعباد واستيلاء على السلطة و […] كل استعباد ، كل استيلاء على السلطة يعادل تأويلا جديدا، توافقا، حيث سيصير بالضرورة ” المعنى ” و ” الهدف ” اللذين بقيا حتى ذلك الحين محجوبين أو حتى ممحوين بالكامل. […] إذا كان الشكل مائعا ، فإن “المعنى” يكون أكثر ميوعة. “
السبب الأول في انتصار سقراط هو إرادة قوته. والسبب الثاني هو أن حالته أمست بعيدة عن كونها فريدة من نوعها: “لقد اخترق مشاعر النبلاء الأثينيين؛ فهموا أن قضيته ، خصوصية قضيته ، لم تعد حالة استثنائية “. مجتمعه بدأ بالفعل في التفكك ، رغم أنه لم يكن على علم بذلك: ” حيثما عاشت الغرائز في الفوضى، الا ويكون المرء على بعد خطوتين من الافراط: كان الوحش بداخل النفس بمثابة خطر كوني. “الغرائز تريد أن تلعب دور الطاغية: لابد من اختراع حكاية طاغية لتتغلب عليه “…
سقراط مد لمعاصريه مرآة. فتن (الناس) لأنه كان حالة قصوى ل” ما بدأ يتشكل كمحنة كونية ” – فوضى الغريزة. “[…] قبحه البشع يفضحه أمام كل العيون “. وعلاوة على ذلك ، “[…] فتنهم، هذا بديهي، مرة أخرى مثل جواب، مثل حل ، مثل انكشاف الترياق اللازم لهذه الحالة “. في المرآة التي مدها لهم سقراط ، اعتقد الأثينيون أنهم رأوا مخرجا من الانحطاط الذي بدأوا هم أنفسهم في الخضوع له.
لهذا اجتذب سقراط جمهوراً من المستمعين الذين كان عليهم أن يرفضوه، بجعلهم يرون، من خلاله هو نفسه ، المشكلة الرئيسية التي عانوا منها وباعطائهم حلاً: “عندما كشف الخبير في الفراسة لسقراط النقاب عما كانه، وكرا لجميع الرغبات السيئة، غامر الساخر الكبير بكلمة أخرى أعطت المفتاح لطبيعته. ” هذا صحيح “، قال، ” لكنني جعلت من نفسي معلما للجميع. ” كيف أصبح سقراط سيد نفسه؟ أجاب نيتشه بأن سقراط أصبح سيد نفسه بأن جعل من ” العقل طاغية “. ” انكشاف […] الترياق” الذي أعطاه لمعاصريه كان هو المسار المؤدي الى ضبط النفس.
لكن لماذا يكون ضبط النفس مجرد ظهور لعلاج “فوضى الغريزة”؟ لأن نمط الحياة الذي، وفقا لنيتشه، يطالب بمحاربة الغريزة يسهم في ” مرض ” و ” انحطاط ” معادلين للمرض والانحطاط اللذين تساهم بهما حياة أطلق فيها للغريزة العنان. بين سقراط لمعاصريه المنحطين كيف يصبحون سادة على أنفسهم. لكن ضبط النفس الحقيقي يتطلب تعديل الدوافع، تعويدها على التسوية والاحترام المتبادل، واعطاء الصوت لكل ما فعلناه بها. بدلا من ذلك، عزز سقراط دافعا مخصوصا ، وأعطاه الوسائل ليصبح سيدا ذا سلطة ، وأخضع عمدا كل الدوافع الأخرى لطغيانه. بالنسبة لنيتشه ، فإن العقل لا يقل في النهاية ” غريزة ” – وهي سمة وتشكيل طبيعي – عن دوافعنا وملكاتنا الأخرى. من خلال منحه التفوق المطلق ، أقنعنا سقراط بأن نفكر في أنفسنا بشكل مخالف لتفكيرنا في الأشياء الكثيرة، التي تسهم أيضًا في ما نكونه. بدلا من ذلك، أقنعنا بالتماهي مع هذا الدافع الوحيد، باعتباره كموطن للأنا، كعلامة على الإنسانية وبالتعامل مع الباقي بحذر يتناسب والصفات الحقيرة والمنحطة لطبيعتنا الجسدية ككائنات ساقطة. وبدلاً من أخذ صفاتنا المختلفة بعين الاعتبار ، أقنعنا بالسعي لإخضاعها، أو حتى لتدميرها. لكن “تدمير الأهواء والرغبات، فقط بسبب غبائها، ولأجل توقع العواقب الوخيمة من غبائها، لا يبدولنا اليوم الا كشكل حاد من الغباء. لم نعد معجبين بأطباء الأسنان الذين ينزعون الأضراس حتى لا تكون مصدرا للألم بعد الآن “. العلاج ليس استئصالا.
يعتقد نيتشه ، بشكل عام ، أن السمات التي تميز كل واحد منا لا يمكن القضاء عليها: ” […] الإخصاء والاستئصال [هما] يستعملان غريزيًا في محاربة الرغبة من قبل هؤلاء ضعاف الإرادة ، المنحطين جدا ليكونوا قادرين على فرض تدبير على هذه الرغبة. ” التدبير يمكن أن ينبثق، مثلا، من روحنة، تجميل أو حتى تأليه الرغبة، واستخدام هذه الرغبة في إنجاز ما لم يتم القيام به أبدا. إنه يستند، بطريقة حاسمة للغاية ، الى ما أسماه فرويد لاحقا ب” التسامي “. إنه يتطلب الجهود الطويلة والمؤلمة التي يجب بذلها من أجل ” إضفاء أسلوب ” على شخصية الفرد، على حد تعبير نيتشه. والمثير للدهشة، ربما في نظر الكثيرين من المعجبين به المعاصرين ، أن النموذج الأخلاقي لنيتشه هو في نهاية المطاف تعبير عن جماليات كلاسيكية، وملكة ” التوفر على كل المزايا وعلى سائر المغريات، القوية ، المتناقضة في الظاهر ؛ بحيث تسير معا تحت نير واحد “. الأخلاق ، بما هي إخضاع للرغبة، هي ” في حد ذاتها تناقض بالنظر الى العنصر الكلاسيكي […]. هيمنة مماثلة لسمة من سمات الشخصية على الأخريات ( مثل الوحش الأخلاقوي) تتعارض فعلا بطريقة عدائية مع توازن القوة الكلاسيكية. “
عكس قبح وجه سقراط الفوضى الكلية التي تسكنه. العقل هو ببساطة طريقته في إبقاء هذه الفوضى بعيدة. يعكس وجهه فوضى الغرائز ، والحرب الأهلية (لاستخدام استعارة مونطيني) التي جاء منها الطغيان وليس السلام. بخلاف مونطيني، فإنه يقدم مثالا توضيحا لمبدأ الفراسة. هذا هو السبب في أن حله لم يكن الا سطحيا.
سقراط اذن بالنسبة لنيتشه كان أول من استوعب الإنسانية والعقلانية. وهكذا قدم ما قد يؤدي إلى فكرة أن كل إنسان هو، في الأصل وفي جوهره، وحدة لا تنفصم. لكن الكائن البشري لا يصل إلى هذه الوحدة إلا إذا أهمل ما تبقى من صفاته الشخصية ، وبقية ذاته. كان سقراط أيضاً ، لنفس السبب ، أول من أسس لفكرة أن الروح (التي كان يماثلها مع العقلانية) تختلف اختلافاً جوهرياً عن الباقي – عن كل ما يشكل في الحقيقة، وفقاً لنيتشه، الفرد البشري . لم يكن فقط أول محدث ، ولكن أيضا أول مسيحي.
إنه إذن إيمان سقراط الراسخ بالعقل هو ما ضمن له انتصاره البين: ” النور الأكثر سطوعا ، العقلانية مهما كان الثمن ، الحياة الواضحة ، الباردة ، الحكيمة ، الواعية ، الخالية من الغرائز ، الخائضة لحرب ضد الغرائز ، كل ذلك لم يكن في حد ذاته الا مرضا، مرضا جديدا – وليس عودة إلى “الفضيلة” ، “الصحة” ، السعادة … أن نكون مضطرين لمحاربة الغرائز – هذه هي الصيغة (الخاصة) بالانحطاط: طالما أن الحياة في تصاعد ، فان السعادة والغريزة متماثلتان. “
لقد تكلمنا بشكل مضبب عن الغريزة والعقل ، ويجب أن نكون أكثر حذرا. يجب ألا نقرأ أبدا لنيتشه عن هذا الموضوع كما لو كان (شبيها) بفرويد المبتذل . لا ينظر نيتشه إلى الغرائز ببساطة على أنها النزعات أو الدوافع التي ستكون أساس الأنا والتي يشجعنا على العودة إليها. هو لا يدافع عن اللاعقلانية ولا عن التأسل الرجعي. من خلال “الغريزة” و “الغريزي” ، يعني نيتشه بشكل عام أي أسلوب للسلوك يتم تبنيه بطريقة طبيعية إلى حد ما، دون إدراك واضح للمسار الذي ينطوي عليه. إذا فهمناه بهذه الطريقة ، يمكن أيضا أن يكون السلوك الغريزي ، الصادر فعلا في جزء منه عن الأولي والبدائي، نتيجة التثاقف والجهد والممارسة. قد يشمل، على وجه الخصوص، قواعد السلوك غير المتنازع عليها (إن وجدت) للطبقة الأرستقراطية اليونانية الأصول – وهي القواعد التي، في وقت سقراط، ربما كانت مهتزة بما يكفي ليعرف مستمعوه حياة فوضوية وغير متماسكة.
الطريقة التي تصور بها نيتشه الغريزة سمحت له بأن يعتقد أن المعرفة نفسها يمكن أن تصبح غريزية: ” مهمة لا تزال جديدة وبالكاد تلحظها العين البشرية، تم بالكاد التعرف عليها بوضوح، إنها مهمة إدماج المعرفة و جعلها غريزيًة “. كون الغريزة تمثل شيئًا مكتسبًا هو أحد الأفكار المركزية لعمله: ” الحس السليم الجليل في كل تربية أخلاقية كان دائمًا ذلك الذي نسعى للوصول فيه إلى أمان الغريزة: بحيث لا يظهر حسن النية ولا الوسائل الجيدة للوعي على أنهما كذلك. كان على الانسان أن يتعلم كيف يتصرف كما يقوم الجندي بتداريبه. وفي الواقع ، هذا اللاوعي هو جوهر كل كمال. ” ” نحن بحاجة الى أن نبحث في الواقع عن الحياة الكاملة هناك حيث تكون أقل وعيا ( أي حيث منطقها، أسبابها، قدراتها ونواياها، فائدتها لا يوضع في المقام الأول ). في معظم الحالات ، الغريزة بالنسبة لنيتشه، هي مثل الأنا والطبيعة بالنسبة لمونطيني ، ليست أصلًا بل نهاية ، شيئا غيرمعطى ولكنه مكتسب.
نيتشه اذن يعيب على سقراط كونه عاجزا عن التصرف “غريزيًا” كما أراده أن يفعل، أي في احترام للانسجام بين دوافعه المختلفة. ونتيجة لذلك ، أجبر نفسه على التصرف بشكل جيد من خلال مناشدة الأسباب. والأسباب، في نظر نيتشه، هي على وجه التحديد علامة على غياب الضبط الحقيقي للنفس، عندما ” تكون الضرورة [هي] الحرية نفسها “. إن ضبط النفس هو حالة تملي فيها جميع رغباتنا ومعتقداتنا وقيمنا المسار الواحد للتصرف الذي حصلت لنا الرغبة في التشبث به ، مع استبعاد كل المسارات الأخرى. ان فكرة الاختيار بين الإمكانات المختلفة تلاشت ، على ما يبدو. الأسباب ، بالمعنى المقصود منها بشكل عام ، لا مكان لها في الوجود: فهي ليست دوافع ، بل تأويلات. يعتقد نيتشه أنه توصل إلى هذا الانسجام بنفسه. ويستند نقده لسقراط، الذي كان لا يزال مجبراً على التصرف وفق الأسباب، على موقفه المعارض تماماً على هذا النطاق الوحيد. سوف يتعين علي، لسوء الحظ، في هذه المرحلة، أن أظهر قاسياً ودوغماتياً.
في أعماله المبكرة ، أعرب نيتشه عن فكرة أن الفلاسفة وجب عليهم أن يتدخلوا مباشرة في العالم الذي كان عالمهم. تم اعتبار La Naissance de la tragédie و les Considérations inactuelles كمشروعين لتجديد الثقافة الألمانية. ولكن بمجرد أن تخلى نيتشه عن تصوره الأول للفلسفة ، اتخذ منعطفا جذريا تميز بالانتقال إلى النزعة الفردية. لقد تصور الآن مهمته كما لو كانت تتمثل في أن يتشكل، أو، لاستخدام عبارته، في أن يصبح فردا، أن يصبح ما كانه. مهمة الفلسفة ليست تطوير الثقافة ككل ، بل تنمية الفرد. إن هذين المفهومين للفلسفة ليسا بالضرورة غير متوافقين: فقد وجد أفراد جدد أسسوا لأنماط جديدة في الحياة. يمكن لهذه (الأخيرة) ، كما يشير سقراط، أن يكون لها تأثير حاسم على العالم في كليته.
لتحقيق غاياته ، ليصبح ما كان عليه ، اضطر نيتشه لأداء مهمتين فرعيتين على الأقل. تمثلت الأولى في أن يشكل تماما كل ما كان يواجهه – جميع الأحداث التي كانت خاصة به: أحداث الولادة والمسار، الصحة والمرض، الخيارات المتخذة بوعي أو بغير وعي، الأصدقاء المكتسبين أو المفقودين، الأعمال المنجزة أو غير المكتملة ، السمات الشخصية المحبوبة أو المزدراة – في اطار كل واحد وموحد يمكنه المطالبة به ككل. بعض هذه العناصر، مأخوذة على حدة، قد تبدو غير مقبولة. لكن احدى أفكاره العظيمة هي بالتحديد أنه لا يمكن الحكم على أي من سمات الفرد (أو أي شيء آخر في العالم) انطلاقا من ذاتها: “هناك الكثير من الوحل في العالم: هذا صحيح ! ولكن ليس بسبب ذلك أن العالم هو وحش موحل! تتوقف قيمة كل شيء على مشاركته في الكل الذي يمكن اعتبارها جزءًا منه:
“شيء واحد فقط ضروري. – ” منح أسلوب” للشخصية – نحن هنا أمام فن معتبر نادرا ما تتم مصادفته! هذا الفن يمارسه من أدركً في ذاته كلها ، جميع ما تمنحه طبيعته من نقاط قوة وضعف لتكييفه فيما بعد مع خطة فنية، الى أن يظهر كل شيء في فنه وعقله، ويسر الضعف ذاته الناظرين. […] وأخيراً ، عندما يكون العمل جاهزا ، سنعرف الحال التي كان عليها اكراه الذوق الواحد الذي هيمن وشكل بقليل أو بكثير: نوعية الذوق ، إذا كان حسنا أو سيئا ، أقل أهمية مما يعتقد المرء – الشيء الأساسي هو أن يكون الذوق واحدا أحدا. “
ولكن ماذا تعني المطالبة بهذا الكل الذي تشكلت جميع سماته وأحداثه هاته في أجزاء؟ الجواب يكمن في التفكير في العود الأبدي. هذا الأخير ليس فكرة غير معقولة ( مفادها ) أن كل شيء في العالم قد حدث وسيحدث تماما بنفس الطريقة بعدد غير محدود من المرات. إنها بالأحرى فكرة أنه إذا كان على الانسان أن يبدأ حياته من جديد، فلن يريد بالضبط الا حياته نفسها، بتفاصيلها الصغيرة، ولا شيء آخر: “صيغتي ( الدالة ) على عظمة الإنسان” هي amor fati. لا ينبغي أن نطلب أي شيء آخر، في الماضي أو في المستقبل، خلال الأبدية كلها. لا يجب علينا فقط تحمل ما هو ضروري، ناهيك عن إخفائه … يجب علينا أيضًا أن نحبه … ” أو ، على لسان زرادشت: ” هل سبق لكم أن أحسستم بالفرح؟ يا أصدقائي ، لقد أحسستم اذن بكل الآلام أيضا. كل الأشياء مترابطة، متشابكة، متحابة، – / – هل سبق لكم أن أردتم أن تعود المرة الواحدة مرتين؟ هل سبق لكم أن قلتم ، ” أنا أحبك، أيتها السعادة! أيتها اللحظة! يا رمشة عين! ” هكذا تريدون أن يعود كل شيء! / – الكل من جديد، الكل إلى الأبد ، الكل مترابط، متشابك، متحاب ، أنتم هكذا أحببتم العالم. إن الرغبة في العود الأبدي للحياة هي أن يكون المرء سعيدًا تمامًا بالحياة التي عاشها.
إجهاد النفس من أجل أن يصير الانسان ما هو عليه يتطلب القيام بمهمة ثانية: بناء كل – تشكيل تفرد – يختلف اختلافا جوهريا عن الآخرين. إذا لم يكن الأمر كذلك ، فإنه ليس مختلفا عن بقية العالم: فهو لم يصر فردًا. ولكن لكي يكون مختلفًا بشكل جذري ، يجب عليه أن ينتج ، يجب عليه أن يصير شيئا جديدًا بشكل جذري. لكي يصير شيئًا جديدا بشكل جذري ، يجب أن يطور طريقة لفعل الأشياء، للتفكير، للاحساس والعيش بشكل جديد تماما. ولتحقيق ذلك ، سيتعين عليه التحرر من القواعد والمبادئ والممارسات المعمول بها منذ أمد بعيد. هذا هو الجانب الأول من ” النزعة اللاأخلاقية ” لنيتشه: ” لكي يمكن لنا بناء ملاذ ، لابد من تدمير ملاذ: إنه القانون […]. “
(يتبع)

رابط المقال الأصلي:
https://journals.openedition.org/rgi/705

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube