احمد رباص

نظرية تقسيم العمل في المجتمع بين آدم سميث وإميل دوركايم

احمد رباص

تروم هذه الدراسة المتواضعة تتبع المسار الذي قطعته نظرية تقسيم العمل بين رائدين من رواد العلوم الاجتماعية. وتصريحا ببعض ما يتضمنه الميثاق الضمني بين كاتب هذه السطور والقارئ الكريم، أبادر إلى الإفصاح عن اعتمادي أساسا في إنجاز هذه الدراسةعلى شذرات من نصوص هذين العالمين ، مع الاستئناس ببعض الدراسات التي تطرقت لهذا الموضوع عند كل واحد منهما على حدة. فإذا كانت نظرية الأول عن تقسيم العمل مبثوثة في ثنايا كتابه “أبحاث حول طبيعة ثروة الأمم وأسبابها” الصادر سنة 1776م، نجد الثاني تناولها كموضوع لرسالته لنيل الدكتوراة التي طبعت سنة 1893.

1- تقسيم العمل من منظور آدم سميث

يكتسي مؤلف آدم سميث (1723-1790) ، المعروف اختصارا ب”ثروة الأمم”، أهمية بالغة في مجال الاقتصاد تجلت في زجه بالكتابات السابقة عليه في عتمة النسيان بمجرد ظهوره، على غرارغ كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الذي جعل طلاب الأدب في عصره يكتفون ب “عقده ” ويستغنون عما سواه. وبالرغم من التغييرات التي طالت اليوم المبادئ الأساسية لعلم الاقتصاد السياسي فلا أحد من المنتسبين إلى هذا العلم يجرؤ على إهمال هذا الكاتب الاسكتلندي القديم دون السقوط في مغبة تقليص أفقه العلمي. هذا، ويرجع الدارسون أهمية هذا الكتاب إلى قيمته الأدبية والعلمية، وبالأخص تأثره بأفكار أستاذه هوتشسن وصديقه دافيد هيوم والطبيب الفيلسوف برنار ماندفيل.

انطلاقا من الجملة الأولى من كتابه، يتخذ سميث موقفا معارضا لكسناي، زعيم الاقتصاديين الطبيعيين، الذي كتب قائلا: “الزراعة هي مصدر كل ثروات الدولة وثروات سائر المواطنين”.

على خلاف هذا الرأي، يقول آدم سميث: “العمل السنوي الذي يقوم به كل شعب هو الرصيد الذي يمده بكافة ضروريات الحياة وكمالياتها مما يستهلكه كل سنة، وتكون دائما إما من النتاج المباشرلذلك العمل، ومما يشتريه ذلك الناتج من الخارج.” كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الفكر الاقتصادي الأوربي التي أكد فيها آدم سميث على أن العمل الإنساني هو مصدر الثروة الحقيقية للأمة، وهي العبارة التي أحدثت انقلابا جذريا في دراسات الاقتصد السياسي في العصرغ الحديث. ومنها استمد كارل ماركس حججه الحاسمة التي دعم بها نقده للنظام الرأسمالي.

يؤكد آدم سميث على أن الثروة التي تنتج بكل اختلافاتها ترجع إلى العمل بالأساس، وليس إلى قوى الطبيعة كما كان سائدا في الفكر الاقتصادي السابق عليه. وبدون عمل الإنسان تظل هذه القوى كالأرض وما بباطنها من كنوز وما فوقها من خيرات غير ذات نفع، فهي عبارة عن موارد أولية لاتستطيع أن تشبع رغبات البشر إلا إذا بذل فيها عمل إنساني، على سبيل الاستغلال واستخراج المنافع. والعمل في نظر سميث هو العمل الكلي للمجتمع.إن الدخل الذي يقصده آدم سميث هو نتيجة تعاون كافة الشعب بطبقاته الزراعية والصناعية… والثروة تتعاظم طبقا لنوعية العمل الذي يقدمه أفراد الأمة وهو يكمن في العلاقة بين العمل الكلي وحجم السكان.

دأب الدارسون لهاته الثيمة عند آدم سميث على الاستشهاد بنص حول صناعة الدبابيس التي عدت عندهم مرتكزا لنظريته في تقسيم العمل. يقول هذا النص:”إن العامل الذي يعد الإعداد اللازم لهذا العمل الذي جعله تقسيم العمل صناعة قائمة بذاتها ولم يألف استخدام اللآلات التي تستخدم في هذه الصناعة، قد لا يمكنه ان ينتج أكثر من دبوس واحد في اليوم، ولكنه بعد فترة من المران والتدريب يستطبع أن ينتج أكثر من عشرين دبوسا في أحسن الظروف، ولكن هذه الصناعة لم تعد صناعة واحدة، وإنما تفرعت إلى صناعات عديدة، يكاد بعضها أن يكون صناعة قائمة بذاتها، فهناك عمال يختصون بعملية سبك الأسلاك وآخرون يمددونها مستقيمة،وغيرهم يقومون بتقطيعها، وفريق رابع يسن أطرافها، وخامس يشحذ رؤوسها ، وهذه العملية وحدها تنقسم إلى عمليات متفرقة، وفريق سادس يقوم بلفها في الورق ووضعها في الصناديق, وهكذا حتى صارت صناعة الدبابيس موزعة على ثماني عشرة عملية مختلفة يقوم بكل واحدة منها فريق متخصص من العمال. بينما يقوم الفريق الواحد من العمال بأداء اثنتين أو أكثر من العمليات.”

مما لاشك فيه أن زيارة آدم سميث لمصنع الدبابيس وملاحظته لإنجاز العمليات الإنتاجية في هذا المصنع هما اللتان اوحتا له بالفكرة عن زيادة الإنتاجية عن طريق تقسيم العمل. ويظهر من خلال النص المستدعى، يظهر أثر تقسيم العمل بشكل إيجابي على مردودية الإنتاج التي تتضاعف عن طريق التدريب وتكرار التدريب خلال العمليات الإنتاجية.هذه المضاعفة الكبيرة في الإنتاج التي لاحظها آدم سميث في هذا المصنع يرجعها إلى أسباب من أهمها:

أولا: زيادة مهارة العامل عند اقتصاره على القيام بمهمة إنتاجية واحدة ؛

ثانيا: تركيز وقت العامل بكامله على مهمة إنتاجية واحدة ؛
ثالثا: الإبداع الذي يوحي به تخصيص العمل نتيجة إعادة التجربة وتكرارها.

بقي أن نشير في نهاية القسم الأول من هذه المقالة إلى فكرة مغلوطة مفادها أن آدم سميث يمثل رائدا أو مبشرا بالثورة الصناعية في مقابل الاقتصاديين الطبيعيين المدافعين عن الزراعة. يكمن وجه غلط هذه الفكرة في كون الثورة الصناعية التي تتمثل في حلول الصناعة الميكانيكية كبيرة الحجم محل الصناعة المنزلية الصغيرة لم تتجاوز بعد شكلها الجنيني حين رأى كتاب “ثروة الأمم” النور. إن اختراع الآلات الميكانيكية التي سوف تغير النظام الصناعي لم يكن عهذئذ سوى في بداياته الأولى.

في هذا المقام، يتوجب علينا دحض الانتقاد الموجه لآدم سميث والذي مفاده أنه نوه بإيجابيات تقسيم العمل دون أن يشير إلى سلبياته. ما يستلفت انتباهنا بهذا الصدد أنه لم يتجاهل هذه الأخيرة وأن لا أحد غيره سلط عليها الضوء بشكل أفضل.

ففي القسم الخامس من كتابه، يشير إلى أنه نتيجة تطور تقسيم العمل الشغل الشاغل لمن يعيشون بعملهم؛ أي للغالبية الساحقة من الشعب, ينحصر في عدد قليل من العمليات البسيطة.

لكن الإنسان الذي يقضي حياته كلها وهو يقوم بنفس هذه العمليات البسيطة المتكررة سوف لن تتاح له أي فرصة لممارسة ذكائه أو كفايته الإبداعية لأجل حل المعضلات التي لا تسمح بها طبيعة عمله. لهذا السبب, لايكتسب عادة القيام بتلك الممارسة ويصبح بالتالي جاهلا وأبله بالقدر الذي ينحط عن درجة الكائن البشري. إذن، الدواء الذي اقترحه آدم سميث لهذا الداء يتمثل في نهج سياسة تربوية وتثقيفية عامة تستهدف انتشال العمال من قبضة البلاهة والجهالة؛ من هنا جاءت فكرة الجامعات الشعبية التي وردت في ثنايا تحليل إميل دوركايم لإشكالية تقسيم العمل كما سوف نرى لاحقا.

2- تقسيم العمل من وجهة نظر إميل دوركايم
لقد ظهر لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1864-1920) أن التصنيع يغير المجتمع من البساطة والاتساق إلى الت خصص والاختلاف. وعلى خلاف كارل ماركس الذي اهتم كثيرا بالمؤثرات السلبية للتغريب والعقلانية التي لازمت النظام الرأسمالي، لم ير دوركايم في الانتقال من التقليد إلى الحداثة باعثا على القلق أو مؤشرا على الانحطاط الأخلاقي. لكنه، عوضا عن ذلك، ركز على ذلك الانتقال ليكشف عن المهام الجديدة للآليات المستحدثة. لأجل تلك الغاية، استقى دوركايم ملاحظاته وتحليلاته من الأجواء العامة التي أفرزتها الثورة الصناعية التي وقعت في بريطانيا وعمت ، انطلاقا منها، سائر أرجاء أوربا. لقد ارتبطت هذه الثورة بتحول كبير تمثل في إنتاج البضائع بوفرة هائلة نتيجة اندثار المهن التقليدية أمام زحف الآلات التي صممت للقيام بمهمات غاية في التخصص وفرضت على العمال تناسق وتضافر مجهوداتهم.

أقام دوركايم دراسته لظاهرة تقسيم العمل في المجتمع على تصوره لنوعين مختلفين من المجتمعات. فإذا كان المجتمع الأول يتصف بالبساطة ويتميز بالتضامن الآلي والمعمار الاجتماعي المتجانس إلى حد ما وينعدم فيه تقسيم العمل أو يوجد في شكل إرهاصات باهتة، يكون المجتمع الثاني الحداثي حائزا على التضامن العضوي ومستندا على تقسيم واسع للعمل. في هذا الإطار، يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي تقسيم العمل حقيقة اجتماعية مادية تؤشر على المحددات المرتبطة بالتخصصات والمسؤوليات. ففي المجتمعات البسيطة، يؤدي الناس الكثير من المهام المختلفة ويتحملون عددا كبيرا من المسؤوليات. أما في المجتمعات الحديثة نلاحظ أن الناس يحتلون مواقع أكثر تخصصا ويتحركون في نطاق ضيق من المهام والمسؤوليات.

يقول دوركايم في مقدمة كتابه:” على الرغم من أن تقسيم العمل ليس حديث المنشأ، فإن المجتمعات بدأت منذ نهاية القرن الماضي الثامن عشر) فقط تدرك هذا القانون الذي خضعت له حتى ذلك الحين من دون إدراك. لقد أدرك بعض المفكرين، بلا ريب، أهميته حتى منذ العصور القديمة. ومع ذلك كان آدم سميث أول من حاول أن يقدم نظرية مفصلة ومحكمة حول هذا القانون. والأكثر من ذلك أنه كان أول من سك هذا المصطلح الذي أعاره علم الاجتماع لعلم الأحياء فيما بعد.”

انطلاقا من هذا النص القصير، يتضح أن دوركايم يعترف لآدم سميث بقصب الريادة – إن صح التعبير- في بناء نظرية حول المفهوم موضوع حديثنا وفي اجتراحه لهذا المفهوم. كما يستفاد من نفس النص أن علم الاجتماع استعار تبنى النظرية والمفهوم معا من علم الاقتصاد السياسي قبل ان يعيرالثاني للبيولوجيا.

حسب المبدإ الذي ينطلق منه دوركايم ويعيد التذكير به في مواضع كثيرة من مؤلفه، يشكل تقسيم العمل مصدرا أساسيا للتضامن العضوي. إن تقسيم العمل – يقول دوركايم – يفترض من العامل، عوض أن يبقى منكبا على مهمته، التوجه ببصره نحو متعاونيه والتفاعل معهم.وهكذا تكون جميع أشكال تقسيم العمل التي لا ينتج عنها التضامن أشكالا باثولوجية ( مرضية (.

في هذا الإطار، نجد أن دوركايم في أحد فصول القسم الثالث من أطروحته يسهب في التعليق على ألأشكال غير العادية لتفسيم العمل الصناعي ومشاكله. بما أن عرض هذه الأخيرة بشكل مستفيض يخرج عن نطاق موضوعنا، سوف أكتفي ، على سبيل المثال، بالطرح الدوركايمي لنفس المشكل الذي أثاره آدم سميث.

يقول دوركايم:” بالفعل، إذا كان (الفرد) لايعرف إلى أين تتجه العمليات المطلوبة منه، إذ الم يقرنها بأي هدف، فلن يستطيع القيام بها إلا برتابة. في كل يوم، يكرر نفس الحركات بانتظام رتيب, لكن دون الاهتمام بها أو فهمها (…) .

لانستطيع أن نبقى لامبالين حيال هذا الإذلال للطبيعة الإنسانية.” بالطبع، يستبعد دوركايم، على خلاف مؤسس علم الاقتصاد السياسي، ذلك الترياق المزعوم المتمثل في التثقيف أو التعليم العمومي الذي يبقى في نظره غير قادر على التصدي لمساوئ تقسيم العمل غير العادي. هنا تحديدا يكشف دوركايم عن أوهام تجربة الجامعات الشعبية. في فقرة موالية، يعترف بأن مثل هذه الوقائع أكيدة وباعثة على الأسى. لكنها، في نظره، ليست بالضرورة ناتجة عن تقسيم العمل. فهذا الأخير لا يفرزها إلا في “ظروف استثنائية وغير عادية”. وحتى ينمو ويتطور دون أن يكون له مثل هذه المؤثرات المفجعة على عقل العامل، لن نحتاج لتعديله بضده؛ ألا وهو” الثقافة العامة”. يجب أن يظل تقسيم العمل محافظا على هويته وألا يفقد طبيعته بإقحام شيء غريب عنه.

3- خاتمة
من البديهي أن الحديث عن نظرية تقسيم العمل عند هذين العالمين البارزين يتطلب حيزا أكثر سعة وشساعة من الحيز المخصص له في هذه المحاولة التي لاتدعي الإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، ذلك لأنه من الأهمية بحيث يصلح أن يكون موضوع ندوة علمية يشارك فيها باحثون ذوو تخصصات مختلفة. وارتباطا بالأهداف المتوخاة من هذه المقالة، أود أن أفرد هذه الفقرة الختامية لجملة من المقارنات بين تينك المقاربتين لظاهرة تقسيم العمل. لكن قبل ذلك، يجدر بي الإشارة إلى أن آدم سميث وإميل دوركايم ينطلقان معا، ولو ضمنيا، من فكرة أرسطية مؤداها أنه لكي تعيش خارج المجتمع ينبغي أن تكون إما حيوانا وإما إلها. وإذا كانت هذه الفكرة التي يمكن صياغتها والتعبير عنها من خلال مقولة “الإنسان حيوان اجتماعي” تشكل منطلقا مشتركا عند كل من آدم سميث وإميل دوركايم بالرغم من المسافة الزمنية الفاصلة بينهما، فما هي ياترى النقاط التي اختلفا بصددها؟

لعل أول ما ينبغي إثارته في هذا المقام هو أن دوركايم يتبنى، في تحليله لظاهرة تقسيم العمل، مقاربة شمولية تأخذ في الاعتبار أن هذه الظاهرة مرتبطة دائما بالمجتمع بغض النظر عن نوعية هذا المجتمع سواء كان مجتمعا بسيطا يتميز بالتضامن الآلي او مجتمعا صناعيا حداثيا يختص بالتضامن العضوي. أما آدم سميث فقد استقى أفكاره عن تقسيم العمل من زيارته لمصنع الدبابيس وملاحظته لما يجري بداخله من عمليات إنتاجية. كذلك، نلمس اختلافا بين الرجلين على مستوى موقف كل واحد منهما من المشاكل التي يطرحها تقسيم العمل على العمال. لقد رأينا كيف أن الأول والثاني كليهما يعترفان بأن تكليف العامل بأداء نفس العمليات بشكل روتيني يترتب عنه إغراقه في بحر الجهالة والبلاهة بالنسبة للأول وإذلاله وتحقيره بالنسبة للثاني. للخروج من هذا الوضعية اللاإنسانية، اقترح آدم سميث نهج سياسة فتح أبواب الثقافة العامة في وجه العمال بينما رفض دوركايم هذا الحل معتبرا إياه غريبا عن تقسيم العمل من حيث طبيعته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube