الكاتب: محمد الموسى
الواقع ام مصطلحات “التسامح الإبراهيمي” والدولة الإبراهيمية” ومسار إبراهيم” والمدينة الإبراهيمية” و”الدبلوماسية الروحية”، جميعها مصطلحات تزامن ترويجها مع محاولة تطبيع الكيان الصهيوني داخل الجسمين العربي والإسلامي.
في الأعوام الأخيرة، بتنا نسمع يومياً جملة من المصطلحات والمفاهيم المكرورة والمكررة، والتي تدور حول فكرة واحدة، وهي أن هناك رابطاً مشتركاً بين سكان “الشرق الأوسط” يتمثل بالديانة الإبراهيمية، وأن “تسامحاً إبراهيمياً” ينبغي له أن يسود بينهم. وعبّر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن ذلك في إبان التوقيع على ما يسمى “اتفاقات أبراهام” بقوله: “نتطلع إلى المستقبل الذي يعيش فيه اليهود والمسلمون والمسيحيون، بعضهم مع بعض، ويحلمون ويصلّون فيه، بعضهم مع بعض، وجنباً إلى جنب”.
الواقع أن مصطلحات “التسامح الإبراهيمي”، و”الديانة الإبراهيمية ” و”مسار إبراهيم”، و”المدينة الإبراهيمية” (وصف لمدينة القدس المحتلة) و”الدبلوماسية الروحية”، جميعها مصطلحات تزامن ترويجها مع “صفقة القرن” ومحاولة تطبيع الكيان الصهيوني داخل الجسمين العربي والإسلامي، وتطويع هذين الجسمين لمصلحته، ليغدوا جاهزين للعيش تحت إمرته وسطوته. وفي النتيجة، فإن تلك المصطلحات والمفاهيم غير البريئة تعبّر عن مشروع استعماري غربي لإذابة الهويتين العربية والإسلامية لحساب هوية موهومة هي الهوية الإبراهيمية، التي تكفل صهينة المنطقة وإدامة السيطرة الاستعمارية عليها وتهويدها. وكما أشارت الباحثة المصرية المميزة، هبة جمال الدين، فثمة مشروع صهيوني أميركي لإقامة كيان فيدرالي يمتد من تركيا إلى إيران، مروراً بالمنطقة العربية، لإنشاء دولة اتحادية تحت مسمى “الولايات المتحدة الإبراهيمية”، تضمن تابعية شعوب هذه المنطقة، من عرب ومسلمين، للاستعمار، وتصهر وعيهم وهويتهم التاريخية النضالية، والمغايرة تماماً لبنية المشروع النيوليبرالي الغربي، وتكفل بقاء الكيان الصهيوني قائداً لمنطقتنا، وحاكماً لها، ومسيطراً على أقدارها.
هذا المشروع يستند، في الواقع، إلى قراءات وأسانيد مغلوطة وموهومة، وهو مشروع يشوّه مفاهيم أساسية وقيماً محورية يقتضيها العدل، والعيش الإنساني المشترك، والحرية والمساواة. ومن أخطر ما يتضمنه هذا المشروع أنه مبنيّ على تجريد الإنسان من هويته وإنسانيته، وأنه بات يقدّم تفسيرات مشوهة لميثاق الأمم المتحدة، وما جاء فيه من مبادئ وقيم أساسية، في مقدمتها حق الشعوب في تقرير المصير، والتحرر، وتحريم الاستعمار، ووجوب احترام حقوق الإنسان الأساسية.
“التسامح الإبراهيمي” وتفكيك الهوية الإنسانية
يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن هناك نزعة تسود الفكر الغربي العلماني المعاصر، تتمثّل بتفكيك فرادة الهوية الإنسانية ونزع القداسة عنها. لذلك تسود، في هذا الفكر، فكرة الأقليات ووجوب حمايتها وإتاحة الفرصة لها في التعبير عن هويتها الخاصة بها. وإذا كانت مسألة حماية الأقليات في الفكر القانوني المعاصر تراوحت بين كفاية مبدأ المساواة وعدم التمييز، وبين وجوب الاعتراف بحقوق خاصة بتلك الأقليات، فإنه مع إقرار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في عام 1966، والذي اعترف في مادته السابعة والعشرين بعدد من الحقوق الخاصة بالأقليات، ومع إقرار إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات في عام 1992، أضحت المقاربة الحمائية للأقليات، بصفتها تلك، هي الرائجة.
وتوسّعت دائرة حماية الأقليات كتعبير عن نزعة تفكيك الإنسان وتدمير فرادته وهويته الإنسانية، لتشمل جماعات ما كنا نتخيل، قبل عقود من الزمن، أنها ستُعطى تلك الصفة، من قبيل الشاذين جنسياً، على سبيل المثال. وما يهمنا، في هذا المقام، هو تأكيد السياق الفكري، الذي وُلدت فيه الفكرة الإبراهيمية. فهي فكرة تستهدف تفكيك هوية الإنسان العربي أو الإسلامي أو المسيحي لحساب النظر إلى هذه الشعوب كأقليات متناثرة لا جامع بينها، ولا هوية مشتركة تجمعها. وهي تسعى لإعادة إنتاجها على أساس هوية إبراهيمية موهومة، مضمونها الحقيقي هو مضمون الفكرة الصهيونية ذاتها.
السياق المذكور للفكرة الإبراهيمية يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة كونها فكرة تسامحية. فهي إن كانت تتخذ من التسامح شعاراً لها، لكنها، في حقيقتها، لا تفهمه على أنه تسامح مبني على التعايش المشترك ضمن دولة وطنية، أو في ظل هوية جامعة، بل تسامح مشوَّه، غايته الفعلية التفتيت والتذويب للهويتين العربية والإسلامية لشعوب المنطقة من جهة، وقبول تلك الشعوب الصهيونيةَ وتهويدَ تاريخ المنطقة والهوية التاريخية لها، تحت مسميات، مثل “الديانة الإبراهيمية” و”التسامح الإبراهيمي”. فعندما نقاوم هذه الأفكار، ونقف في وجهها، فإننا لا ندافع، كعرب ومسلمين ومسيحيين، عن هويتنا التاريخية فحسب، لكننا ندافع عن الإنسان وقيمه الأساسية بوجه عام، وعن فكرة التعايش الإنساني، باعتباره المعادل الموضوعي والأمثل لفكرة التسامح.
“التسامح الإبراهيمي” وتشويه حق الشعوب في تقرير المصير
تقوم فكرة “التسامح الإبراهيمي” – كما ذكرنا – على تفسيرات وقراءات وظيفية مغلوطة ومشوَّهة لعدد من المبادئ والقيم الكبرى، التي توصلت الحضارة الإنسانية إليها، عبر مسيرتها المتحدة، وهي قيم ورد النص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، ومن أبرزها احترام حقوق الإنسان، وكرامته، والتسامح بين البشر والعيش بسلام. وحدثت معي، شخصياً، حادثة في هذا الشأن كانت هي السبب المباشر في كتابتي هذا المقال. ففي أثناء عملي في إحدى الجامعات، وقبل استقالتي من العمل من تلك الجامعة رداً على “اتفاقات أبراهام” والتطبيع مع الكيان الصهيوني، من دون أن أصرّح بهذا السبب صراحة لأسباب لا تخفى على القارئ بالتأكيد، وردتني رسالة إلكترونية من عمادة الكلية، تُفصح بنيتها تنظيم ندوة بشأن “حقوق الإنسان والتسامح”. وجاء في تعريف أهداف تلك الندوة ومضمونها الآتي: “ينص ميثاق الأمم المتحدة على: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا… أن ننقذ الأجيال من ويلات الحرب.. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره…، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار…”.
هناك صلة واضحة، إذاً، بين الإنسان وممارسة التسامح في ميثاق الأمم المتحدة… يناقش هذا المحور الإجابات عن تساؤلات مثل: كبف يمكن استخدام صكوك حقوق الإنسان لتعزيز قيم التسامح، ولاسيما في أعقاب الصراعات العسكرية؟”. واضح من هذا الاقتباس حجم القراءة المشوَّهة والمغلوطة لمفهوم التسامح في ميثاق الأمم المتحدة، واتساعها، ومقدار التوظيف الخبيث والسطحي للعلاقة بين حقوق الإنسان والتسامح في الميثاق، وخصوصاً أن الندوة المذكورة، من بين أهدافها البحث في كيفية استخدام تلك العلاقة لتعزيز التسامح عقب الحروب والنزاعات المسلحة. وهي إشارة باطنية إلى التسامح مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين، وإلى النزاع العربي – الإسرائيلي.
لا شكّ في أن هناك علاقة بين حقوق الإنسان، من جهة، والتسامح والسِّلْم الإنساني، من جهة أخرى، فضلاً عن أن هذه العلاقة تنطوي على قيم إنسانية يسعى ميثاق الأمم المتحدة فعلاً لإشاعتها. وهي قيم سامية أيضاً في الإسلام والمسيحية. لكن تعامل دعاة “التسامح الإبراهيمي” معها ليس تعاملاً صحيحاً ولا جامعاً. فميثاق الأمم المتحدة لم يتسامح مع الغزاة والمستعمرين والمحتلين. وميثاق الأمم المتحدة لم يعترف بالاحتلال، وبجواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. كما أنه أقر بالمساواة بين الشعوب، وبحقها في تقرير مصيرها وفي التحرر والاستقلال.
تلك القراءة، في الواقع، تتجاهل أن ميثاق الأمم المتحدة حرّم العدوان، ورفض الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، واعترف للشعوب بحقها في مقارعة المحتل وفي تقرير مصيرها، وأن تلك الحقوق هي حقوق غير قابلة للتصرف، وتتّصف بكونها قواعد دولية آمرة، يقع باطلاً كل اتفاق على ما يخالفها. علاوة على أن تلك “القراءة الإبراهيمية” لميثاق الأمم المتحدة ترى أن السِّلْم قد يتحقق من خلال قبول المحتل والتسامح مع ممارساته العدوانية الإحلالية، مع أن السِّلْم، بحسب الميثاق، شرطه الأساس الامتناع عن العدوان واحترام حق الشعوب في المساواة وتقرير المصير. والتسامح – وفقاً للميثاق – لا يكون مع معتدين مغتصبين لأراضي الغير، ولا مع مجرمين أوغلوا في ارتكاب جرائم دولية.
التسامح والمساءلة الجنائية لمرتكبي الجرائم الدولية
من الثوابت الأخرى للعلاقة بين حقوق الإنسان والتسامح، عدمُ جواز اتِّباع سياسة الإفلات من العقاب إزاء مرتكبي أشد الجرائم الدولية، من قبيل العدوان، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية. والواقع أن دعاة الإبراهيمية لا يفهمون تلك العلاقة على النحو المذكور، فالتسامح، بالنسبة إليهم، يجب ألّا ينظر إلى قادة الكيان الصهيوني كمجرمين، بل هم صُنّاع سلام ودعاة حضارة وتقدُّم.
من غير المتصوَّر، قانوناً وفلسفياً وإنسانياً، أن يسود السِّلْم في أي بقعة، وأن يشيع احترام حقوق الإنسان والتعددية، مع وجود كبار المجرمين خارج دائرة العدالة. فإن مفهوم التسامح، عقب النزاعات المسلحة، إحدى أهم ركائز إحقاق الحق وإنصاف الضحايا وأُسرهم من خلال ملاحقة مرتكبي جرائم العدوان، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومحاكمتهم. فهل يرتضي دعاة التسامح الإبراهيمي بذلك؟ وهل يسلّمون فعلاً بوجوب محاكمة مجرمي الكيان الصهيوني عن مجموع الجرائم التي ارتكبها بحق شعوبنا العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني؟
الإجابة عن ذلك جلية وبيّنة، وموقف الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إزاء ملاحقة قادة الكيان أمام المحاكم الجنائية الدولية، خير دليل على ذلك.
فكرة “الجامعة الإسلامية” في مواجهة “الديانة الإبراهيمية”
كيف نواجه الاتجاه المؤيد لـ”الديانة الإبراهيمية” وتوحيد المنطقة تحت مفهوم إبراهيمي يروّج “دولة إبراهيمية” يقودها الكيان الصهيوني؟ إذا كانت الفكرة الإبراهيمية، التي يتبناها الاستعمار الصهيوني – الأميركي لإعادة تشكيل المنطقتين العربية والإسلامية وفق مقاييس تخدم مراميه، ومشروعه الاستعماري، وتؤمّن الهيمنة الصهيونية على شعوبنا ومقدِّراتنا، تقوم على فكرة دمج تلك الشعوب تحت مسمى مزعوم وموهوم، هو “الديانة الإبراهيمية”، فإن خير وسيلة لمواجهة هذا المخطط هي إعادة إحياء فكرة “الجامعة الإسلامية”، التي دعا إليها عدد من المفكرين المسلمين الإصلاحيين، مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده والأمير شكيب أرسلان، وكذلك مالك بن نبي، تحت عنوان “الكومنوولث الإسلامي”، والسنهوري من خلال فكرة عصبة الأمم الإسلامية.
لقد رأى هؤلاء المصلحون أن فكرة الجامعة الإسلامية، هي التي في مقدورها أن تحمي الأمم الإسلامية من الاضمحلال والزوال. وكما ذكر العقّاد، فإن “الأمم الإسلامية في عصر الاضمحلال، وقد أعوزتها قوة المال والعتاد وقوة العلم والصناعة وقوة السياسة والسيطرة الدولية، فلا أقل من قوة التضامن والاتحاد”.
لقد أشار أحد أهم دعاة الإصلاح في العصر الحديث، وهو جمال الدين الأفغاني، إلى أن غاية الجامعة الإسلامية، التي يدافع عنها ويدعو إلى قيامها، هي على النحو الآتي :” لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، فإن هذا ربما كان أمراً عسيراً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بحياته وبقاء بقائه، إلّا أن هذا يُعَدّ كونه أساساً تقضي به الضرورة وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات. هذا أوان الاتفاق، ألا أن الزمان يؤاتيكم بالفرص، وهي لكم غنائم، فلا تفرّطوا…”.
فالجامعة الإسلامية – بحسب غايتها المذكورة – لا تعني أن تتخلى كل دولة إسلامية عن سيادتها، ولا أن تنصهر الدول الإسلامية معاً انصهاراً تاماً وكليا، فهي أقرب إلى ما وصفه المناضل والمثقف المشتبك، أنيس النقاش، بالكونفدرالية المشرقية، وإلى فكرة “الكومنوولث الإسلامي” عند مالك بن نبي؛ أي أن كل دولة إسلامية، أيا تكن هويتها المحلية، وسواء أكانت عربية أم تركية أم فارسية أم غير ذلك، تحتفظ بسيادتها، وترعى هويتها المحلية، لكنها تنتظم مع غيرها من الدول الإسلامية في إطار تنسيقي موحَّد، غايته الاحتفاظ بالجامع المشترك بينها، بغيةَ منع الفِرقة والانقسام بينها، ولمواجهة التحديات الخارجية والاستعمارية، ولمنع توظيف اختلافاتها المحلية أداةً لتمزيقها وإعادة إنتاجها ضمن هوية مزعومة، هي “الهوية الإبراهيمية”، بهدف تهويدها والسيطرة عليها، بل القضاء عليها ومحو تاريخها وهويتها الإسلامية والمشرقية الجامعة. فمواجهة الاستعمارية الجديدة في منطقتنا، وهزيمة المشروع الصهيو – أميركي وأدواته، من قبيل الفكرة الإبراهيمية والدبلوماسية الروحية، لن يتحقّقا إلّا من خلال فكرة الجامعة الإسلامية، التي تستوعب الاختلاف، وتحافظ على المشترك، وعلى استقلال الأمتين العربية والإسلامية وحريتهما وتحررهما.