فضاء القراء

عصام لكرد :مسرح الشارع يخاطبكم

بقلم : عصام لكرد


الشارع، ذلك العالم قائم الذات، الذي لم يعد مكانا تقليديا للتجمعات الطبيعية للساكنة، أو ملتقى للمارة الذي يترجلون ذهابا و إيابا في إتجاهات مختلفة، أو ساحة للتظاهرات أو المظاهرات أو الإحتجاجات، بل هو لفئة معينة يعتبر ركحا خاصا و مسرحا مستقلا لا جدران و لا سقف له، لا أماكن مخصصة للشخصيات المهمة و لا أخرى لجمهور الدرجة الأولى و الثانية .. إنهم فنانو الشارع.
مسرح الشارع تسمية تُطلق على العروض المسرحية التي تُقدم لشرائح مجتمعية مختلفة في الهواء الطلق، كالساحات العمومية، المنتزهات، و مواقف السيارات، إلى غير ذلك من الفضاءات التي تَعد بسينوغرافيا متفردة.
و قد عرّف الباحث الأميركي هنري ليسنك مسرح الشارع بأنه “مسرح سياسي راديكالي يقدّم عروضه في الشارع، المدارس، المراكز التجارية، خارج بوابات المصانع، و في أي مكان آخر يمكن أن يتجمع فيه الناس. إنه مسرح بَسْط و إثارة للقضية”، و يؤرخ ليسنك لظهور هذا النوع من المسرح إبان ميلاد الحركة المناهضة للحرب في فيتنام.
ومن أشهر فرق مسرح الشارع الأميركية في هذا المجال فرقة “مسرح الخبز و الدمى” التي أسّسها المخرج بيتر شومان في نيويورك عام 1961، وهي فرقة ذات بعد أيديولوجي خاص، تتمرد على الظروف القائمة سياسية كانت أم إقتصادية، و ذلك بإستعمال الدمى.
و في موروثنا الثقافي العربي، توجد أشكال شبه مسرحية أثثت فضاءات مفتوحة كالساحات العامة في العديد من البلدان العربية، و تختلف تسمياتها بإختلاف طبيعة المجتمع و ثقافته.
فمثلا في المغرب هناك “الحلقة”، ذلك الفن الذي يعد أبا روحيا لمسرح الشارع، و هي واحدة من الظواهر الثقافية التي يتسم بها المغرب.
للحلقة روادها، فنانون يقطعون جغرافية المملكة طولا و عرضا من أجل تجديد الوصال مع جماهيرهم الذين عشقوا إبداعاتهم من فنون عدة يتسيدها القول و الحركة، و حكايات من نسج الخيال أو من وحي الأسطورة، و عروض بهلوانية فريدة تسر الناظرين.
و لا بد من أن أستشهد بأيقونة الساحات الفنية و سيدة من سيدات المسارح، و هي ساحة جامع الفنا الشهيرة بمراكش، التي أقرتها منظمة اليونسكو تراثا إنسانيا و ثقافيا غير مادي للبشرية سنة 2001، ذلك الركح الفسيح الذي يحتضن رواد فن الحلقة، و يخاطب ود زوار المدينة الحمراء من داخل المغرب وخارجه.


لقد شكلت “الحلقة” عنوانا بارزا للإنتماء الجماعي و ذاكرة مشتركة يتقاسمها المغاربة جيلا بعد جيل.
وقد حاولت النخب المثقفة، أن تبلور هذا التراث و تصنع منه إبداعا مسرحيا حديثا يهدف إلى  بث روح جديدة في الجسد  الفرجوي المغربي و في قالب سينوغرافي حديث، يتفاعل مع الحياة المعاصرة بكل تجلياتها.
فيروز عميري فنانة مغربية صقلت موهبتها الفنية المتميزة بالتكوين الأكاديمي، و تخرجت من المعهد العالي للفن المسرحي و التنشيط الثقافي سنة 2010. سنة قبل التخرج، وقعت في غرام مسرح الشارع من خلال ورشة لفرقة “كاكاويت” الفرنسية التي أسسها كل من باسكال و جوزي، و توج هذا الغرام بزواج روحي مع هذا النوع الجديد من المسرح، الذي أذاب المسافة بين فيروز و جمهورها، و جعل من فضاء
سويقة “لگزا” بالمدينة القديمة للرباط الإنطلاقة الحقيقية لمسار متميز.

مسار لن تسير في دربه لوحدها، بل مع شريك عمرها الفنان الخلوق و المخرج عماد فجاج اللذان وضعا اللبنات الأساسية لفرقة “تيرمينوس للفن” التي تحولت فيما بعد لفرقة “زنقة آرت”، رفقة بعض زملاء المعهد العالي.
و في إتصال هاتفي مع الفنانة “فيروز عميري” لموقع HorraPress، أثنت على السيد “فرانسوا كزافي آدم” المدير السابق للمعهد الفرنسي بالرباط، الذي آمن بفرقة مسرح الشارع و دعمها بشكل كبير و قام بمجهودات جبارة لتأسيس هذا النوع من المسرح بالمملكة المغربية.
و قالت الفنانة “عميري” بأن كل أعمال فرقة “زنقة آرت” ناقشت مواضيع حية و جريئة في محاولة لبلورتها بطريقة فنية  تسعد المتفرج و تطهره داخليا لأنها أعمال من وحي الواقع المعاش.
و للفكرة النيرة عقول تؤمن بها و تخرجها للنور و تنحت معالمها لتصل للمتلقي على طبق من ذهب، ذلك ما قام به المخرج المبدع عماد فجاج الذي وضع لمساته الخاصة على أعمال ملهمة لمسرح الشارع، و كان أول عمل يشرف على تنفيذه و إخراجه “ضحايا المنتخب” الذي ناقش مشاكل كرة القدم المغربية و إنتكاساتها، و قد جابت الفرقة ربوع المملكة شمالا و جنوبا لعرض هذا العمل الذي لاقا إعجاب الجمهور.
بعد ذلك حان الدور على عمل جديد حمل عنوان “الخارجون عن القانون” الذي ناقش وضعية عائلة حكم عليها بالإفراغ و لم تجد مأوى لها، في غياب تام لأي مساعدة من قبل الدولة، مما دفع العائلة لإضرام النار في أجسادهم التي لا تساوي شيء أمام كرامتهم و كبريائهم الذي إصطدم بحائط اللامبالاة.
عروس الأعمال الفنية التي أبدعتها فرقة “زنقة آرت” هي “فاطمة في نهارها” حيث جسدت 《 أميرة مسرح الشارع 》 الفنانة المتألقة فيروز عميري دور عاملة نظافة ضحت بحياتها لتربية إخوتها الذين تنكروا لها في نهاية المطاف و تنكرت لها الدولة مما حتم عليها العيش في وضعية مزرية جدا.
و قالت فيروز : “هذا العمل قريب من قلبي و حتى من قلوب من شاهدوا هذا الإبداع المسرحي الذي عرضناه في مختلف أنحاء المغرب و خارج الحدود و خاصة بأحد أهم المهرجات في فرنسا و هو “مهرجان أورياك”، لأن شخصية فاطمة تدعو إلى الحب و الإنسانية المنعدمان في زمن متسم بالجحود، التنمر، الحقد و الكراهية”.
بعد هذا العمل، وقعت الفرقة المسرحية على عمل جديد بعنوان “الجايحة” الذي ناقش الرأسمالية المتوحشة الهدامة، و تكالب الإنسان على المال حتى و لو كلفه ذلك كرامته و آدميته.
و في سؤالنا عن مساهمة وزارة الثقافة في دعم مسرح الشارع، أجابت الفنانة فيروز عميري قائلة : ” كانت وزارة الثقافة و الشباب و الرياضة تدعم مسرح الشارع و كانت نقلة نوعية في عهد الوزير محمد الصبيحي، لكن المشكل عندما يأتي وزير جديد يغير السياسة بشكل كامل أي لا يوجد تكامل و تنسيق بين الوزيرين لضمان الإستمرارية المطلوبة، مما أفرز توقفا كليا للدعم المخصص لمسرح الشارع منذ ما يزيد عن السنتين و إلى حدود بداية جائحة كورونا”.


و بنبرة صوت تمزج بين الحزن و الغضب، أكدت فيروز بأن جائحة كورونا دقت المسمار الأخير في نعش مسرح الشارع، و تغيرت الأدوار، و صار فيروس كورونا النجم الأوحد عوض الممثلين، لكن عشق هذا النوع من المسرح أقوى من أي جائحة، مشددة على أن مسرح الشارع و رغم الوباء، يمكن أن يرى النور مجددا و في إحترام تام للإجراءات الإحترازية من تباعد جسدي و إرتداء للكمامات، لكن إرادة الدولة ضعيفة أو منعدمة إزاء هذا الإجراء و تفضل إلغاء كل الفعاليات عوض برمجتها دون تفكير في الجانب النفسي المدمر الذين يعيشه العالم بشكل عام و المواطن المغربي خاصة، الذي و بحق، يحتاج إلى التغيير، إلى متنفس حقيقي، و إلى الإحساس أن الدولة تفكر في الجانب السيكولوجي لمواطنيها، لكن و للأسف يحدث العكس، إغلاق تلو الإغلاق، و شعب يساق كما يساق حزب من الغنم، لذا وجب على الدولة تدارك الموقف و إعادة ترتيب الأوراق لكبح جماح ضعط سيولد حتما الإنفجار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube