فضاء القراءمستجدات

رسالة من امرأة مجهولة

محمد الجباري هولندا

كنت ليلة أمس أول من وصل إلى شقة صديقتي سوزان التي تحتفل هذه الأمسية بذكرى ميلادها الخمسين وجدتها أمام المرآة تحاول أن تداري بعض تجاعيد الوجه والعنق بكْريم فرنسي فاخر،أشارت لي بيدها أن أجلس وهي تقول ضاحكة: “الليلة سوف أضحك ملء شدقيّ نكاية في العمر، يُقال أن البسمة تجعلك تبدو أصغر سنا “قلت مبتسما: ” أن تفقد البسمة شيء فظيع لكن الأفظع من ذلك أن تفقد الدهشة !” قالت سوزان بسخرية واضحة : ” لقد صرتَ فيلسوفا صديقي العزيز “، أجبتها : ” لو كنت فيلسوفا حقا كما تزعمين لقلتُ مثل ما قال أفلاطون: الدهشة هي الفلسفة، لكني أقول : الدهشة هي الحياة؛ فاقد الدهشة عزيزتي هو كائن ميت، ما رأيك أن أحكي لك عن دهشة واحدة تكررت معي مرتين”الدهشة الأولىتطوان في الثمانينات من القرن الماضي أتذكر ذلك اليوم جيدا، كان الجو حارا جدا وكأن الشمس لم تكن قد استوعبت بعد أن شهر غشت قد انقضى منذ أكثر من أسبوع ونحن الآن في العاشر من شتنبر، لم تكن الدراسة قد بدأت بعد، كان حي المحنش القريب من الجامعة مكتظا بالطلبة في بحث مضني عن شقة للكراء للسنة الدراسية الجامعية التي من المفترض أن تبتدئ في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر، تركت أصدقائي ( اليونسي، بنحدو، التويس والتمسماني) يحاولون إقناع صاحب الشقة بخفض سومة الكراء واتجهت بشوق كبير نحو قلب مدينة تطوان … الأبواب العتيقة لمدخل المدينة، البيوت والشرفات، الأسوار وحدائق تطوان تمنحني سعادة جامحة، لا شيء يضاهي عند العاشق إحساسه أنه قريب من ” القلب”. بينما أنا أمشي بمحاذاة دكان ” علي بابا” الشهير ببيع ساندويشات رأيت بائعا للكتب القديمة والمستعملة حط سلعته بمكر شديد قرب الدكان ، اقتربت أكثر من الكتب وصرت خلسة أتحسس بأناملي عدد الدراهم التي في جيبي، عوض أن أعود إلى حي المحنش أقضم بشهية سندويش التونا مع الزيتون والحار رافقتني رواية عبد الكريم غلاب ” دفنا الماضي” .قصدت الجامعة فولجت المكتبة وجدتها مكتظة جدا بالكثير من طلبة كلية العلوم وبعض من كلية الآداب، وضعت الكتاب جانبا فوق إحدى الطاولات وانغمست بمتعة أتجاذب أطراف الحديث مع بعض الأصدقاء الذين لم التق بهم طيلة عطلة الصيف، رأيت اليونسي يبحث عني أخبرني أنهم تمكنوا من كراء شقة قريبة من الجامعة وعلينا الآن الرجوع إلى مدينة القصر الكبير، حين غادرنا الجامعة واقتربنا أكثر من عقبة المحنش تذكرت أني تركت رواية “دفنا الماضي” في المكتبة، عدت مسرعا أدراجي إلى الجامعة وكنت أخاطب نفسي بالكثير من الغبن ” ألم يكن أولى لو اشتريت سندويش التون مع الزيتون والحار ؟”بعد ساعة من مغادرة الحافلة محطة تطوان فتحت الرواية لأكتشف بداخلها ورقة صغيرة دُست بين صفحات الكتاب وقد كُتب عليها بخط أنيق جدا ” عزيزي محمد أولا دعني أقول لك عيد ميلاد سعيد متمنية لك كل السعادة ، ما رأيك أن نحتفل معا بهذه المناسبة الجميلة ، انتظرك اليوم الساعة الثامنة في مقهى ريو ، لا تتأخر …. المخلصة ( ر،أ) اه، يا ربي ! من هي (ر،أ) وكيف علمت بتاريخ ذكرى ميلادي أم تراها قارئة فنجان تعلم أسرار خلق الله؟ غالبا حينما كنت مشغولا بالحديث مع الأصدقاء دست وفي غفلة مني رسالتها داخل الرواية، حاولت أن أتذكر وجوه كل الطالبات اللواتي كنا في المكتبة، كان الأمر أشبه بأعمى في ليلة ظلماء يبحث عن ابرة مختبئة وسط كومة القش، نظرت إلى ساعة معصمي كانت الساعة السابعة، لم يتبقى إلا أقل من ساعة على الموعد، ربما توهمت للحظة أني ممكن أن أغادر الحافلة مقتفيا طريقا إلى مقهى ريو! قبل أن أتراجع عن تخيل المستحيل. أغلقت رواية عبد الكريم غلاب وصرت مفتونا أكثر بتلك الرواية الثانية التي نبتت بين دفتي الرواية الأولى، قرأت الرسالة عشرات المرات لعلي أعثر بين سطورها على كلمة أو إشارة قد تقودني لفك هذا اللغز ومعرفة من تكون (ر،أ)، الشيء الوحيد الذي بث متيقنا منه هو أنني أمام امرأة تملك أنامل سحرية وتجيد فن البستنة، هذه البستانية الماهرة عرفت كيف تختار الوقت الأنسب لكي تضع بذرتها وتدفنها داخل ” دفنا الماضي” فنمت البذرة وأينعت شجرة كبيرة وارفة الأغصان والأوراق في قلبي ووجداني. ظلت شجرة الشك والحيرة والدهشة تعيش في داخلي طيلة السنوات الجامعية، وها هو العمر يمر، شاخت الشجرة واصفرت بعض أوراقها لكنها لم تذبل قط.الدهشة الثانيةفي الصباح الباكر من يوم العاشر من شتنبر 2023 كنت في المطار، أسوأ ما في السفر هي الإجراءات المملة والمتعبة والتي أخذت مني أكثر من ساعتين، حين صعدت درج الطائرة وأخذت مقعدي تنفست الصعداء وشعرت براحة لذيذة، ليس السفر وحده سبب هذا الإرهاق بل العطلة نفسها متعبة تتطلب الكثير من الجهد، أغمضت بلذة عيني فسمعت رنة الهاتف معلنا عن رسالة قد وصلت للتو عبر تطبيق الواتساب، فتحت الرسالة : ” عزيزي محمد أولا دعني أقول لك عيد ميلاد سعيد متمنية لك كل السعادة، ما رأيك أن نحتفل معا بهذه المناسبة السعيدة، أنتظرك في نفس المكان والزمان كما المرة السابقة أتمنى أن تكون في الموعد … المخلصة (ر،أ) “هل قلتِ المرة السابقة؟ يا للسخرية! كيف تختزلين هذا العمر الذي يساوي ثلاثة عقود في ” المرة السابقة”؟ من أين لك هذه الجرأة، ببعض الكلمات فقط على الهاتف تسقطين من عمري أكثر من ثلاثين عاما دفعة واحدة؟ أي امرأة أنت حين تتحكمين في أعمار خلق الله! و تشطبين من شهادة ميلادي كل هذه السنين…وها أنا أعود طفلا والدهشة تزدحم وتتلألأ في بريق عيني، ومراهقتي تتمدد إلى ما بعد بعد الخمسين…في المرة السابقة غرستِ شجرة كبيرة في وجداني بينما اليوم أشعر أن غابات من الأشجار وحقولا من الزهور تتفتح الآن في قلبي، حتى الخريف من خجله توارى وفسح مكانه للربيع. أي امرأة أنت؟في المرة الأولى حين كنت في الحافلة بين تطوان والقصر الكبير عجزت أن آتيك فكيف لي الآن وأنا معلق في الهواء بين السماء والأرض؟ أعتقد عزيزتي (ر،أ) ان توقيت رسائلك فيها بعض الصدفة والكثير الكثير من الخبث!سيدي من فضلك ممكن أن تضع حزام السلامة، الطائرة تستعد النزول في مطار شخبول أمستردام ابتسمت في وجه مضيفة الطائرة، فسمعت ابنتي الصغيرة ياسمين تقول:بابا لقد نمت طوال الرحلة…فتحت هاتفي ابحث عن الرسالة لكني لم أجد شيأ! هل كان كل ذلك حلما او سرابا او خيال كاتب ؟ لا أدري …المهم شكرا ل (ر،أ) ولكل الصديقات والأصدقاء الذين هاتفوني او راسلوني على الخاص بمناسبة ذكرى ميلادي … كل عام وانتم بالف خير وسعادة وبسمة والكثير الكثير من الدهشة …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube