احمد رباص

من وحي الذاكرة: النضال على الواجهة الإعلامية في الزمن الجميل

أحمد رباص

كنت، في حصة سابقة، قد أشرت إلى أن الإخوان في المكتب المحلي للسيديتي تطوعوا لتمثيل الحزب في أكدز والعمل على الدعاية له في حدود الممكن؛ وذلك في أفق انتظار نضج الظروف لتشكيل المكتب المحلي لحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”..بحلول ربيع 1992، تمخضت الجهود والاتصالات بين أعضاء المكتب النقابي وباقي المتعاطفين مع الحزب الراغبين في الانخراط صمن صفوفه عن نتائج سارة تمثل جماعها في حشد عدد من المناضلين داخل مقر السيديتي لعقد جمع عام تأسيسي تزامن انطلاقه مع عصر يوم 15 أبريل من نفس السنة.
بحكم أني توصلت باستدعاء للحضور والمشاركة في هذا المؤتمر السياسي المحلي غير المسبوق لكونه سيفرز لأول مرة في تاريخ أكدز تنظيما محليا تابعا لأكبر حزب اشتراكي في البلاد، ودعت مدرسة آيت املكت مباشرة بعد إنهاء جصصي التي كانت كلها مبرمجة في الفترة الصباحية. عند وصولي إلى المركز الحضري الصغير، دخلتُ إلى إحدى المقاهي لتناول الغذاء واحتساء كأس شاي دافئ. مر وقت غير يسير وأنا جالس بداخل المقهى وحيدا لأن الأصدقاء منهم من يعمل ومنهم من يقيم في بيته ليتغذى وليستمتع بقيلولته بعد ذلك.
خرجت من المقهى لأجد أن حافلة “الساتيام” قد غادرت المكان في اتجاه زاكورة بعد أن لفظت عددا من الركاب ووضعت جرائد اليوم في نقظة البيع الوحيدة في المدينة السياحية الصغيرة والتي كانت في نفس الوقت مكتب تبغ مرفق بالمقهى المشرعة على الشارع عبر واجهتين..قبل أيام فقط، أودعت لدى مقر الجريدة بالدار البيضاء مقالا أتضامن فيه مع نوبير الأموي الذي كان معتقلا بسجن في مدينة سلا عقابا له على تصريحه الشهير لجريدة البايس الإسبانية الذي قصف به أعضاء حكومة ذلك العهد.
والواقع أنه ابتداء من سنة 1990 وبعد الإضراب التاريخي ليوم 14 دجنبر 1990، خاض الأموي صراعا على الواجهة الاجتماعية وصراعا آخر على الواجهة السياسية عبر المطالبة بإصلاحات دستورية جذرية وذلك من خلال اجتماعات وتنظيمات وسلسلة من الاحتجاجات، فضلا عن إدلائه بحوارات هامة وأساسية خلال هذه الفترة لكل من : الليبرالي، جون أفريك، حرية المواطن والبايس..
ضلقت الحكومة المغربية في ذلك الوقت ذرعا بتحركاته ومواجهاته الصدامية المتصاعدة وطرحه لأسئلة محرجة، فبدأ الترتيب لاعتقاله حيث جرى اختطافه إلى مدينة الرباط للتحقيق معه في الاستجواب الناري الذي خص به جريدة البايس الإسبانية. إثر ذلك قدم للمحاكمة في أبريل 1992 ويحكم عليه بسنتين سجنا وقد آزره أزيد من 1300 محاميا من مجموع المغرب ولن يستعيد حريته إلا يوم 12 يوليوز 1993.
تقدمتُ نحو مكتب التبغ وتناولت نسخة من الجريدة ودفعتُ ثمنها للبائع. تنحّيْتُ جانبا لآقتعد كرسيا في واجهة المقهى..بدأت اتصفح الجريدة وكلي أمل في رؤية مقالي منشورا بين طياتها، وشوق إلى شحنة إضافية من التشجيع المعنوي من شأنها أن تحفزني على مزيد من النضال على الواجهة الإعلامية التي فضلتها على سائر الواجهات. يا للمفاجأة السارة! ها هو مقالي منشور بكامله، دون زيادة أو نقصان، في القسم الخاص بقضايا المجتمع. كنت قد اخترتُ له من العناوين “واقع المعلم المغربي”..تم الاحتفاظ بهذا العنوان، كما تم احترام رغبيتي في ظهور المقال موقعا باسمي الشخصي ورديفه العائلي.
عندما دقت الساعة التي كان ينبغي أن ينطلق فيها الاجتماع، وجدْتُني بداخل مقر النقابة مع الإخوان المناضلين المتحمسين لتأسيس المكتب..منهم من أعرفه معرفة سابقة ومنهم من لم يسبق لي أن تعرفت إليه..كلهم علموا أن الجريدة نشرت لي مقالا أتضامن فيه مع الزعيم “العروبي” للسيديتي.
في الغالب، لا ينتمي المناضلون من الفئة الثانية لقطاع التعليم إذ هم يكسبون قوتهم من مزاولة أنشطة حرة كالفلاحة والتجارة. بدأت أشغال الجمع العام تحت إشراف قياديين جهويين قادمين من مراكش لأجل نفس المهمة بعد تلقيهم الضوء من القيادة المركزية للحزب. تشكلت اللجنة التأسيسية وكنت واحدا من أعضائها، وهو أمر فيه تحصيل حاصل لأن كل الحاضرين، باستثناء المشرفين المنتدبين، هم بالضرورة أعضاء فيها.
عند انطلاق أشغال الجمع التأسيسي، انخرط فيها الحاضرون بحس تنظيمي رائع. . يبدون كلهم متفرغين ذهنيا لمتابعة ما يصدر عن المنصة من توجيهات وتعليمات إلا واحدا كان جالسا في الصف المقابل لها وبيده اليمنى الجريدة. كان اهتمامه موزعا بشكل واضح بين قراءة جملة أو جملتين من مقالي حينا والتطلع بعينيه إلى الجالسين إلى المنصة مُنْصِتا إلى قولهم حينا آخر..تمكنت من رصد تردد صديقي بين السياقين عن كثب لآني حضرتُ أطوار الاجتماع وقوفا مثل أخرين ما وجدوا مقاعد يجلسون عليها. هذا المناضل ليس شخصا آخر غير الكاتب العام للمكتب النقابي المحلي، المدرس للرياضيات في إعدادية أكدز..قامته الفارعة الطول، بشرته السمراء وطيبوبته الحاتمية، كل ذلك ينبئ عن كونه من أبناء بلدة مزكيطا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube