الفشقة وعودة إلى نزاع الحدود بين إثيوبيا والسودان..!
د:محمد بدوي مصطفى
مقدمة: الزعيم الفاضلابي وقصة الفشقة:
كالعادة، كان لي حديث مطول وثرّ مع صديقي ورفيق دروب الغربة في بلاد الصقيع، الزعيم محمد عثمان الفاضلابي عن قضية سد النهضة وقضية النزاع الحدودية بين السودان وإثيوبيا في منطقة الفشقة وعموما عن النزاعات التي نشأت منذ فترة بين البلدين في قضايا عدّة، منها أزمة سد النهضة، إقليم بني شنقول والقلابات، الخ. والأخ الفاضلابي لمن لا يعرفه، رجل أخو أخوان، قمة في الكرم والشهامة ونكران الذات، وفوق هذا وذاك حباه الله قسطًا من العلم والثقافة ليس بالقليل، إنسان طموح، نزيه ووطني لحد النخاع. لا أخفي عليكم يا سادتي أنني استشيره حقيقة في كثير من الأمور وارجع لرأيه السديد سواء في القضايا المتعلقة بشأن الوطن أو أمور الثقافة العامة، نتحدث تارة عن شعراء أوروبا مثل غوته وتارة عن الفن السريالي في أوروبا وندلف إلى قضايا وطننا العربي المترامي الأطراف المستعصية ونتجابد القصص عن مصر والسياسة في عهد الملوك كالملك فاروق ومن ثمّ عن قضايا تهمه وتهم الكثيرين كأسرار الخلافة عند الصوفية وأيضًا عن عوامل التعثر الكثير لنماء ونمو البلدان العربية لا سيما في فترة ما بعد الاستقلال ذلك على سبيل المثال لا الحصر. حقيقة الأخ الفاضلابي رجل لديه من إلمام شمولي مذهل في شتى المجالات، يتبدى لي ذلك في كل حديث ونقاش معه، سواء عن صالون الأميرة نازلي الذي بعث بأنوائه إلى كل أرجاء مصر وإلى لبنان ومن بعد عمّت هالة هذه الأنواء كل أنحاء الوطن العربي، ولا أنسى أننا أيضا فيما يخص هذا الموضوع تعجبنا سويا عن بداياته الخجلة وكيف استطاع رجل من عامة الشعب كسعد زغلول أن يستحوذ على استحسان ورضا الأميرة نازلي التي زوجته، وهو من طبقة البروليتاريا، لابنة عمّها الأميرة. نطفق ونسرح سويًا أيضا وهذا ما يدهشني في الحديث معه، في أمور بعيدة عن المذكورة أعلاه، في آفاق نظريات علم النفس عند علماء النمسا وسويسرا، على سبيل المثال لدى سيغموند فرويد وتأثيره الجاد في بناء أسس هذا العلم أو عند كارل غوستاف يونغ الذي كان يسكن في قرية قريبة منّا نحن الإثنين رغم أنني أسكن في ألمانيا على الحدود السويسرية وهو بمدينة زيورخ حاضرة الإقليم الجرماني بهذا البلد الأخضر. ونعود أدراجنا مجددا إلى الواقع المرير وإلى قضايانا العالقة في الأفق ونصطدم بمرارة العيش وجلد وصبر أهلنا في انتظار الفرج بانتهاء الحروب والثورات المضادة وخروج فصل الربيع بكل ما يحمل من أزهار تتفتق في حدائق الأمة وتحمل لكل واحد منها عبير السلام. لقد ردّ مؤخرًا على مقالي الذي ناديت فيه لا للحرب بين أثيوبيا والسودان معقبا بعدة كلمات سوف أسرد لكم مضمونها فيما يلي وأجدني مضطرا للشرح والتحليل هنا وهناك حتى تستقيم الرسالة التي قصدها الأخ محمد عثمان الفاضلابي.
الوضع في الفشقة.. نظرة تحليلية وملخص:
إن السؤال الذي طرحته في مقال سابق كان عن كيف نمنع الحرب بين الدولتين الشقيقتين؟ الغالبية العظمى من أبناء الشعبين تقف وتردد: لا للحرب بين الأشقاء ولا للحرب بين السودان وإثيوبيا؛ هذا كلام حقيقي وفيه من الحكمة ما فيه ولا يمكن لأحد أعطاه الله قسط من حكمة أن ينادي بالدمار للبلدين، لأن الحرب هي، كما علمتنا الحروب السابقة في المنطقة، دمار حقيقي لكل الموارد البشرية والطبيعة، لذلك لا يوجد أحد ينادي بأن تقوم الحرب أو يدعو لأن يُنفخ في أبواقها. لكن لكي نمنع الحرب لابد لنا أن نعلم ملابسات الأمر وماذا حدث. والتاريخ يذكرنا أنه ومنذ عام ١٩٩٥ وبالذات بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك دخل الأثيوبيون في منطقة الفشقة دون “إحم أو دستور” وعينك يا تاجر وحدث ولا حرج! ونذكر أيضا أنه قبل فترة دخولهم إليها كان لديهم فيها الجماعات تعمل في حقل الزراعة وكانوا حقيقة قليلون وقد يبلغ تعدادهم حوالي الخمسين أو أكثر، وقد سمح لهم أن يمارسوا في هذه المنطقة في مهنة الزراعة بمحض موافقة من قبل الحكومة السودانية. وازداد امتداد هؤلاء الجماعة سنة تلو الأخرى وأصبح نموهم في ازياد مطرد. وكانت تسندهم وتدعم وجودهم جماعات الشفتة التي دأبت كل عام بتهجير المواطنين أهل المنطقة الأصليين، عبر القيام بأعمال عنف وقتل وغيرها بغرض الترهيب ونشر الزعر والهلع بينهم إضافة إلى نهب المحاصيل. ودامت الأمور على هذا المنوال وتفاقمت حتى نجحت خطتهم وتمكنوا من احتلال أكثر من ٢ مليون فدان وعندئذ قاموا بتهجير محليات بأكملها دون رأفة أو ضمير عاملين بمبدأ الأرض المحروقة. وفي خضم كل هذه التجاوزات وانتهاك حقوق الإنسان كان نظام الإنقاذ يغض النظر بسبب اتفاق وُقّع بينهما تتضمن إيقاف ملاحقة البشير أمام المحاكم الدولية مقابل حق استعمال الأراضي الزراعية بهذه المنطقة. واستمر هذا الوضع على نفس الوتيرة والمنوال حتى بعد مجيء الحكومة الانتقالية، حيث لم يتوقف السلب والنهب والحرق والقتل والتهجير، ونجد نفس الفاجعات الممنهجة التي ظلت تلازم محليات تلك المنطقة والمواطنين الذين ضاق بهم الحال وهم في وحدة ووحشة إلا من ربّ عليم. والجدير بالذكر أن محليات كاملة كما سلف ذكره تمّ تهجيرها كمحلية القُريشة، واضطر المواطنون أن يبحثوا عن مأوى لهم بمدينة القضارف ودخلوا العمق السوداني وصارت الشفتة، هذه الجماعة الإثيوبية المسلحة، هي الآمرة والناهية والتي تتحكم بكل مقاليد الحكومة في تلك المنطقة وداخل أراضي هي، حسب القوانين الدولية، سودانية ميّة الميّة. ونجد أن هذه الشفتة نفسها تدعم من قبل الجيش الإثيوبي وعبر حكومة أديس أبابا التي كانت تتابع تطور الأمور عن كثب وشرعت جاءت لحظة الصفر في عمل وبناء مشروعات تنمية في تلك المناطق والقضية رغم خطورتها نجدها مدعومة بصورة مباشرة من حكومة آبي أحمد، إذ مهدت لتلك المنطقة البنى التحتية التي تحتاج إليها، وبنت الطرق والكباري والمعسكرات فضلًا عن أنها وهبتهم الأسلحة المختلفة للدفاع عنها، ذلك لعلّة في نفس آبي وحكومته التي ترمي – وهذا لا يخفى على أحد – الاستيلاء على هذه المنطقة الاستراتيجية والخصبة بوضع اليد! وطوال كل هذه الفترة كان مواطني تلك المنطقة يستنجدون بقوات الجيش السوداني بالتدخل والدفاع عن ممتلكاتهم، لكن دون أن يحرك هذا الأخير ساكن، إذ كان مشغولاً ومنشغلًا بأطماع وحروب وجبهات كثيرة أثقلت كاهله وكان في الحقيقة رافضًا لأي تدخل عسكري من جانبه في تلك المنطقة. فأهمل بذلك كافة النداءات الملحة التي نادت بالنظر إلى ملف الحدود مع إثيوبيا لا سيما منطقة النزاع الحساسة في الفشقة.
بين التقراي والأمهرة والجيش السوداني:
عندما اندلعت الحرب في إقليم التقراي وجد الجيش السوداني الفرصة سانحة ومواتية للتدخل في منطقة الفشقة ومحاولة فرض نفوذه عليها هل أقول مجددا، فليس هناك دلائل على ذلك. على الأقل أن يجتهد ويراقب تلك الحدود المنسية منذ عشرات بل ربما قرن ونيّف دون مساءلة ودون اكتراث، وكأنها أرض بلا صاحب ومرعى بلا راعي وخوفًا أن تنتقل حرب التقراي إلى السودان وخوفًا من تدفق أفواج الوافدين من الشقيقة إثيوبيا كما حدث فيما قبل، إبان الحرب بين إريتريا وإثيوبيا. والجدير بالذكر أن السودان يأوي أكثر من ثلاثة ملايين من مواطني الدولتين فماذا لو انتقلت الحرب من هناك إلى هنا والعكس وصارت صراع داخلي أو شبه عصاباتي؟ إن وجود نازحين بسبب الحرب من إثيوبيا وإرتيريا أمر معروف، فمن أولئك من جعل السودان فقط نقطة انطلاق إلى بلدان أخرى ومنهم من ألقى عصاه وبنى به بيتًا وخيمة.
بعد أن تحرك الجيش السوداني إلى المنطقة قامت جماعات الشفتة بالاعتداء عليه عدة مرات وقتلت رائدا وسبعة من الجنود فضلًا عن اعتقال بعض منهم بينهم ضابط. وقد عزز هذا الهجوم إصرار الجيش السوداني في الانتشار بمنطقة الفشقة والاستيلاء عليها تفاديًا لما هو أمرّ وأعتى من ذلك وتجنبا لأي تصعيدات من الجانب الإثيوبي فيما بعد. قامت قوات الجيش باسترداد الكثير من الأراضي من جيش الأمهرة أو ما يسمى بالشفتة بعد أن خرج للمشاركة في حرب التقراي وانسحب من بعض المناطق. وتم استرداد هذه المناطق بأقل عدد من الخسائر وبسهولة كبيرة لم تخطر لهم ببال. ولكن لمنع تفشى نيران الحرب في تلك المنطقة فإن انتشار الجيش السوداني يعتبر عاملًا رئيسا في تثبيت واستشراء الأمن فيها ولا يمكن التخلي عن وجوده بأي صورة من الصور. رغم ذلك لم تتحرر كل المناطق فلا تزال بعض المواقع محتلة إلى الآن من قبل الإثيوبيين. يجب أن نذكر أن الجيش السوداني لم يقم بالحرب ولم يبدأ بها أبدًا ولا في أي فترة من الفترات التي كانت فيها الفشقة تحت رحمة جيش الأمهرة. فجيش السودان يقوم بواجبه تجاه أرضه ويطالب بذلك الإثيوبيين بالانسحاب من كل المناطق التي لا تزال تحت سيطرتهم. ولكي نمنع أي تفلتات أمنية وحدوث حرب فلابد للطرفين بالرجوع إلى المواثيق الدولية والمعاهدات المبرمة بين البلدين. ويجب أن يطالب السودان الجانب الإثيوبي باحترام معاهدة ١٩٠٢التي وقعها السير جون لين كارلنتون مع الملك منليك الثاني وأيضًا احترام ترسيم الحدود لعام ١٩٠٣ الذي قام به الميجر لوين.
إثيوبيا لا تعترف بالاتفاقيات الدولية:
جدير بأن نذكر أنه طيلة دوام العلاقات بين البلدين لم تصدر من إثيوبيا أي تصريحات تشكك في عدم ملكية الفشقة للسودان وكانت حتى في فترات متأخرة تقول بأن وجود المزارعين الإثيوبيين فيها لا يجعل منها منطقة إثيوبية، مقرين بذلك امتلاك السودان الكامل لها. بيد أن هذه التصريحات بدأت في الفترة الأخيرة تتغير وطفقت بعض الأصوات الطامعة تنادي بملكيتها لإثيوبيا وأنها منطقة إثيوبية حرّة بدليل مؤشر العدد السكاني والأجناس التي تقطن بمحلياتها، علمًا بأنهم مارسوا عمليات التهجير للمواطنين السودانيين طيلة الفترات السابقة وأيضا ودن أن ننكر ذلك، كان هناك اهمالًا كبيرًا وعدم مسؤولية من جانب ممتلكي الأراضي وأيضًا من جانب الحكومة السودانية التي لم تكن في هذا الشأن أبدًا بعيدة النظر وحكيمة العلم واللبيب يا سادتي بالإشارة يفهم، والسؤال الذي يؤرقني هو: لماذا ظلت كل هذه العقود راقدة على جنباتها تنتظر أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً؟!
استطاع الجيش أن يكبح جماح الجيش الأمهري الذي ظل متفلتا طيلة العقود المنصرمة يفعل بالناس وبالأرض والأملاك ما يشاء والآن بعد أن أحكم جيش السودان هنا وهناك قبضته عليه جاءت نداءات متتالية بأن المنطقة إثيوبية وعلى جيش السودان أن يغادرها في الفور. ولكي نمنع الحرب يا سادتي يجب مناشدة حكام أديس أبابا وعلى رأسهم آبي أحمد باحترام المواثيق الدولية واحترام المعاهدات الثنائية ومراعاة حسن الجوار والتعايش السلمي بين الشعبين وبذلك يمكن أن نمنع اندلاع حرب شعواء بين الأشقاء الذين تربط بعضهم البعض علاقات أزلية وأواصر لا يمكن أن تغيب عن إدراك أي منهما. والحرب سواء بالوكالة أو مباشرة يقوم بها الجانب الإثيوبي سواء ضد التقراي سواء ضد إقليم بني شنقول، في منطقة الفشقة ودعم هذه المليشيات الذي قامت بأعمال عنف أيضًا في منطقة القلابات الحدودية. وتظل جرائم مليشيات الشفتة مستمرة وتظل مآسي اعتقال وقتل المواطنين السودانيين واقع مؤلم ويجب ألا نصمت (مقتل ست نساء وأطفالهن خلال الشهر الماضي، على سبيل المثال لا الحصر).
إشاعات.. أم حقائق؟
قرأت في رسالة أثارت دهشتي ولا أود أن أعلق عليها لكني أعرضها عليكم في سياق ما عرضناه الآن عن قضية الحرب في منطقة النزاع بين السودان وإثيوبيا حتى تلموا بما يدور في الساحة من تصريحات أو أحاديث تُعنى بالأمر. تقول الرسالة الآتي: أن رئيس الوزراء حمدوك في زيارته الأخيرة إلى الإمارات قد اتفق مع الرئيس الإثيوبي آبي أحمد على الآتي:
١) تقسيم الفشقة بين السودان، إثيوبيا والإمارات وأن زيارة حمدوك لم تكن بسبب العلاج لوحده بل بسبب النقاش حول هذا الأمر لأنه ذكر بنفسه وصرح أن منطقة الفشقة لا بد أن تكون منطقة تداول وشراكة وليست منطقة نزاع.
٢) أن تسلم الفشقة للجيش السوداني على ينشئ بها قاعدة عسكرية ويقوم باستثمار أراضيها الزراعية بالمقابل يقوم بتسليم شركاته الاستثمارية للحكومة المدنية متمثلة في وزارة المالية تنفيذا للقانون الأمريكي لدعم الديمقراطية والحكم المدني في السودان وأن تقوم أمريكا بتأهيل الجيش السوداني القومي الجديد وتسلحيه؛
٣) تدخل الجيش الذي قام به البرهان في حربه مع الشفتة هي محاولة لخداع الرأي العام والشعب السوداني بأن الجيش استرد الأراضي السودانية بالقوة وبالتالي صناعة بطوﻻت وهمية؛
خاتمة:
وأخيرًا يجب أن نقول لا السودان ولا الجيش السوداني هما من يرغبان في أن تنشب حرب بين البلدين والأمر أوله وآخره بيد حكام أديس أبابا الذين يمكنهم أن يكبحوا جماح هذه الجماعات ويقيدوا من حركتها ونفوذها في المنطقة. والدليل الذي يؤكد ذلك أن الجيش السوداني ظل خلال ٢٥ عاما يضبط نفسه ولم يحرك ساكنا رغم الاستفزازات العديدة من قبل هذه الجماعات. ولكن كما يقول قادة جيش السودان للصبر حدود وقد بلغ السيل الزبى. نتمنى للأمور أن تسير بكل حكمة وتأني وأكرر في نهاية مقالي: نعم للسلام … ولا للحرب بين الأشقاء.
*رئيس تحرير الجريدة العربية الدولية المدائن بوست