جُزرٌ جمالية قراءة في التجربة البصرية للفنان يوسف سعدون
أحمد لطف الله (ناقد فني) الدار البيضاء
داخل مرسمه القابع في بلدة “المضيق”، إحدى جواهر الشمال، وفي ذلك الفضاء المعلق بين السماء والبحر، يقيم الفنان يوسف سعدون طقوسه الفنية في صمت وهدوء، محاورا قماشاته الزرقاء التي تتأرجح بين قتامة هطّالة حدّ الارتواء، وعمق مضيء.
بمجرد استهلال النظر في لوحاته، تبدو عدوى البحر بائنة جلية، وهي عدوى متجذرة في وجدان العديد من المبدعين فنانين وأدباء. فلقد كان الكاتب الأمريكي إرنست همينغوي صاحب رواية “العجوز والبحر”، يقيم في جزيرة “كي وست” بولاية فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، في منزل قريب من الشاطئ الجنوبي للجزيرة. كما عاش الكاتب السوري حنا مينة مبدع “الشراع والعاصفة” طفولته في إحدى قرى لواء الاسكندرون على الساحل السوري، وقضى فترة من حياته بمدينة اللاذقية. وقد اشتغل في مستهل حياته حمالاً في مينائها، ثم بحارا في السفن والمراكب التي تنطلق من ذلك الميناء.
يرتبط البحر بدلالات الجمال والمغامرة والتقلب، ولأن الجسد الأنثوي يقاسمه هذه المعاني، تبدو رمزيته من خلال انسياب تلك الأجساد العائمة على أسطح القماشات في أعمال الفنان سعدون. كما أن البحر فضاء يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، هكذا أنبئتنا شهرزاد في أسمار الليالي. ويلتبس فيه الحلم بالواقع، كما تحكي لنا سرود أدب الرحلات. لذلك تتغلغل دلالاته الخفية والمعلنة في هذه التجربة البصرية، وليس اللون الأزرق بمختلف تدرجاته الضوئية هو ما يبوح بذلك، بل هي أعماق اللوحة التي تغري الرائي بالغوص، واختراق طبقاتها، لاصطياد تلك الجسدانية الثاوية في الأعماق. والتي تمارس لعبة الخفاء والتجلي، ملبية تطلعات الفنان الجمالية وهواجسه الفنية.
ولأن البحر ليس كتلة من الماء والظلام فقط، بل هو أيضا هدير يشبه زمجرة إله غاضب من آلهة الأساطير البائدة. فإننا نجد الريبيرتوار الفني ليوسف سعدون يحمل في طياته قبل هذه التجربة الأخيرة المنذورة للون والجسد، العلامتان البصريتان البارزتان، اشتغاله على الصوت. وهو يتجلى ضمن سلسلة من الأعمال في شقيه الثقافي والطبيعي: يظهر المستوى الأول في القيمة الفنية الكبرى، النابعة من موسيقى الفلامنكو العذبة والساحرة، والتي تفوح من أجساد الراقصات، اللواتي تبسطن هالتهن في تلك الأعمال. وتحوّلن اللوحة إلى معزوفة هائلة. لذلك أعتقد أنه من الصعب الجزم بأن رسامي الفلامنكو، كانوا يرغبون في الرسم للعين فقط، فإيقاع الراقصة يمكن للفوتوغرافيا أن توثقه بصورة لا تقل جمالية عن فن التصوير، لأن هذا الأخير يرسم للأذن أيضا. وتريد اللوحة التي تمثل تلك الرقصات المشحونة بالمكابدات، أن تسمعنا صوت الفلامنكو في مختلف تفاصيله: الغناء (canta) والرقص (baile) وعزف القيثارة (guitarra) ثم أصوات جماعة البالمس (palmas) للتصفيق اليدوي.
كما يتعلق الصوت في المستوى الثاني بالصراخ، وفي بعض الأعمال بالعويل. فهذه الأصوات المؤلمة التي ننصت إليها مخترقة فضاء اللوحة، هي الصدى الفني لهدير الموج الغاضب. وقد كان اختيار ثيمة الفلامنكو هنا في هذا السياق موفقا، لأن من بين الفرضيات التاريخية لجذور هذا الفن موسيقى ورقصا، أنه فن منغرس في منشإ الإحساس بالظلم والقهر، إنه الوجه الفني لأنّات المقهورين من “الخيتانوس”، وهم مزيج من الموريسكيين ومن الغجر الهنود والفئة المضطهدة من الإسبانيين.
وبالرجوع إلى هذه الصياغة التشكيلية الجديدة لتلك التوليفة من الأجساد، فإننا نجدها تندرج ضمن سيرورة الحدوس الجمالية التي تمخض عنها البحث التشكيلي في كل محطات الاشتغال على الجسد، والتي يضج بها تاريخ فن التصوير بالمغرب، حيث لا يكاد المرء يجد تجربة تشكيلية مغربية لم تحتف ببلاغة الجسد تشخيصيا، أو تجريديا، أو توليفا بينهما.
يُدمج الفنان في مادة الصباغة مجموعة من الأخلاط، لدوزنة كيمياء اللون، وتوضيب بعض المؤثرات المانحة للأشكال نتوءات برّاقة. ومن خلال ذلك المزيج الصباغي يقدم الفنان فضاء الأزرق، مشفوعا ببقع من الضوء، والتي تتوزع بإيقاعات هادئة تنير معالم الجسد. وكأن اللوحة تشتغل على تفصيل جغرافي من خريطة معينة، حيث تتراقص الجزر الصغيرة بين الأمواج، وفي هذا وفاء كبير للبيئة المرئية للفنان. ومن خلال متعة الاكتشاف ينبثق الجسد مع إمعان النظر مستندا في تجليه على عنصر الخط أساسا، والذي تقوم انحناءاته ومنعرجاته بتشكيل ملامح الجسد وقسماته، وتقيم جسور التواصل بين مختلف عناصر اللوحة. وكما تتقشف ريشة الفنان في اللون، فهي أيضا ذائبة في الإقلال التقني، حيث تنأى عن بهرجة التقابلات اللونية في تركيب الكتل والحجوم والأشكال، وتبتعد عن الاستعارات المفتعلة والمجازات الاضطرارية في تقديم صورة الجسد على اللوحة.
الجسد هنا تعبير حقيقي. صورة واضحة مُعلَنة، لكنها غير سافرة. تتأرجح في شكلها بين التعبير والانطباع، وفي بُعدها بين سلطة اللامرئي الذي يصر المجتمع على نسجه غلافا للجسد، ولذة الحضور التدريجي وغير المفاجئ للهيئة الجسدانية التي تبدو وكأنها تطفو على الأزرق، هل هي عائمة مسترخية على صفحة الماء كجسد سباح ماهر؟ أم طافية غافية كجثة مهاجر لفظها الأزرق رغم صلابتها وعنادها وكبريائها؟
في محاولة للتقرب من أحد هذين الاحتمالين، تخبرنا السيرة الفنية ليوسف سعدون عن تردده في عرض أعماله بين أقاليم المغرب، ومدن إسبانيا، حيث يتقاسم تجاربه الجمالية رفقة بعض الفنانين والفنانات من الضفة الأخرى، بخاصة من إسبانيا. لذلك فهو على نهج العديد من فناني أقاليم الشمال المغربي ينهل من ثقافتين مختلفتين، متباينين حد النقيض في تصوراتهما عن الجسد الفيزيقي، وكيفية عرضه وتقديمه فنيا. لذلك يقيم الجسد في برزخ يبغي الحياة وألق حركتها تارة، ويروم الخنوع لسطوة الموت تارة أخرى، فيسبح في مرج لقاء البحرين: بحر الحياة وبحر الموت.
تماما كما استمرأ بيكاسو مرحلته الزرقاء، وكما طوّع الرسام الفرنسي إيف – كلين (Yves KLEIN 1928-1962) اللون الأزرق في لوحاته، حد استعماله بصيغة المونوكروم، يصرّ الفنان يوسف سعدون على الإقامة في الأزرق، وكأنه يعمِّد أجساده الخلاسية في مياه اللوحة ليحفظها من شرور النظرات الخنّاسية، ويأبى إلا أن يديم الإنصات لرجع نداءات الأزرق الراحلة نحو الأعماق.