فضاء الأكادميين

لماذا يتهّم العروي بن بركة باستغلال الماركسية؟

في ذكرى بن بركة: الحلقة 2

البروفيسور محمد الشرقاوي ـ واشنطن

أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا

منذ قرار “مجموعة المهدي بن بركة” الانفصال عن “الاستقلال” عام 1959، عايش الاتّحادان “الوطني” و”الاشتراكي” جدلتيْن متوازيتيْن صهرت فلسفتهما السياسية وحدّدت لغة خطابهما الجماهيري: أوّلا، جدلية اليسار والمخزن التي احتدمت بالتّباري الضمني بين وليّ العهد آنذاك الأمير الحسن وعبد الله إبراهيم زعيم الاتحاد الوطني ورئيس رابع حكومة بعد الاستقلال (ديسمبر 1958 – ماي 1960)، بعد حكومتيْ البكّاي لهبيل (ديسمبر 1955 – أكتوبر 1956) و(أكتوبر 1956 – أبريل 1958)، وحكومة بلافريج (ماي 1958 – ديسمبر 1958). وتحوّلت الجدلية لاحقا إلى مجابهة مع السّلطوية في تجلّيات مخزنية وفقه الدولة وأحزاب “الإدارة”. وكان عبد الله إبراهيم يتبنّى منطلقات متنوّرة للتغيير الإيجابي والانفصال عن المنطق الاستعماري.
كان يردّد عبارته الشهيرة لا حريّة للجائع ولا وطن للعبيد”، فضلا عن أهمية مؤلّفه صمود وسط الإعصار الذي يعتبره حسن أوريد أحد أهمّ كتابيْن يُبَلوران نسقا مغربيا في العلوم السياسية إلى جانب “النقد الذاتي” لعلال الفاسي. وعندما تناولت المجلّة الفرنسية “باري ماتش” تصريحا ملكيا بأنّ “المغرب يفضّل على أيّ حال تعدّد الأحزاب والهيئات السّياسية حتى يقع احتكاك بين الأفكار والنّظريات”، ردّ بن بركة قائلا “عندما نعود بذاكرتنا أكثر من سنتين خلت لنعرف الأساس الذي قامت عليه الحكومة الملكية بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وندرس الاعتبارات والتعليلات التي كانت تقدم آنذاك لتبرير التغيير الحكومي، نجد أنّ نظام تعدد الأحزاب لم يكن يُنظر إليه بمنظار اليوم”، ضمن مقالة نشرتها صحيفة “التحرير” يوم التاسع عشر من أغسطس/آب 1962.
أما الجدلية الثانية فهي التنافس بين الخيار الاشتراكي الوطني والخيار الإسلاموي (أمّا الإسلامي فينطبق على خيار جميع المغاربة المسلمين) بمستوى أقلّ شراسة منذ الثمانيات، ضمن معركة لاتزال قائمة حول شرعية الحداثة والموقف من قيم الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان ومكانة المرأة في المجال العام. كان بنبركة ينبّه رفاقه القدامى إلى مغبّة الوقوع في شرك ثلاثة أخطاء يعتبرها قاتلة: أوّلا، أنصاف الحلول في ضوء العبر والدّروس المستفادة مما عاد على المغرب حقيقة من توقيع اتفاقية “إيكس ليبان” مع فرنسا في أغسطس/آب عام 1955 مقارنة مع مكاسب ممكنة ظلّت غائبة. ثانيا، مطبّات الصراع في نطاق ضيق وأهمّية الانفتاح والأخذ بالحسبان ما يدور خارج لجان “الاستقلال”، وأروقة القصر، ومتغيّرات الحركة الوطنية، وخفايا التخطيط الاستراتيجي في باريس وعواصم أخرى إقليمية ودولية. ثالثا، من نحن؟ وهذا سؤال الهوية والخطاب تزداد أهمّيتُه حاليا أكثر من أي وقت مضى سواء كهوية اتحادية، أو هوية يسارية، أو هوية مغربية شاملة. فقد خاض بن بركة أكثر من معركة مع قيادات “الاستقلال” ومع القيادي النقابي المحجوب بن الصديق الذي حاول جاهدا تحويل “الاتحاد المغربي للشباب”، كهيئة تنظيمية ناشئة، إلى جناح نقابي تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل. لكن بن بركة أصرّ على حرية اتحاد الشباب في الحركة والنضج السياسي لتنظيم طلابي ازداد تأثيره في الثمانينات ضمن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
بن بركة وبرغماتية الستينات
عايشت تلك الجدليتان فترات محتدمة من المدّ والجزر السّياسي. وفي كلّ حقبة تظهر القرينة قويّة بين ذاتية الزّعيم ومدى مأسسة الحزب وطبيعة التّعامل مع شتّى تحدّيات التغيير. كانت فلسفة بن بركة المتشبّع ببرغماتية منطق الرياضيات ونظرية التعقيد والتشابك، ضمن سياق هيغيلية التقابل بين التّضاد، تدعو لثلاثة أمور رئيسية: أ) #النّظرة_الشّمولية وارتباط الأسباب والديناميات والمآلات لشتّى القضايا بين ما هو داخلي وما هو خارجي، وبين تأثير الاقتصاد، والطبقية، وهيمنة الرأسمالية، وتحوّلات الديمقراطية، ب) منهجية التّحليل العلمي الاشتراكي وضرورة تماهي الممارسة مع الفكر والتنظير، ج) التمسّك بجرأة النّقد الذّاتي سواء في محاسبة الذّات أو في تصحيح مسار الحركة الوطنيّة آنذاك.
تمسّك رفاق بن بركة أيضا بما اعتبروه وضوحَ الخطّ الأيديولوجي وتركيبَ منهجهم اليساري خارج أدبيات “الاستقلال” التي جمعت وقتها مزيجا مرنا بين الرؤية الوطنية والمرجعية السلفية. كان حزب المهدي الجديد “تكثيفا لكلّ التناقضات على يسار “الاستقلال”، وشكّل تجميعا لكل المنشقّين عنه من رموز الحركة النقابية، إضافة إلى رموز المقاومة وجيش التحرير”، كما وصفه أحد الباحثين. يقول بعض مجايلي بن بركة إنه كان ثاقب النظر في ما لا يراه آخرون في الوجه الخفيّ للعملة السياسية، فإن قيل ذات يوم “إنّ تكاثر الأحزاب وَبَالٌ على المغرب، وسيكون عرقلة دون تشكيل أي حكومة على أساس حزبي، ولهذا فمن الأحسن أن تقوم حكومة ملكية يرأسها الملك نفسه”، على حد تعبيره. كان يؤمن كذلك بأنّ الخطاب جزء عضوي في تركيب الهوية السياسية والثقافية للحزب الجديد. فرفض ما كانت ستسفر عنه الاتصالات وقتها بين محمد عابد الجابري وعبد الجليل القبّاج مؤسّس ومدير صحيفة “العلم” الذراع الإعلامي لحزب الاستقلال منذ 1946. فقرّر بن بركة تأسيس صحيفة جديدة حملت اسم “التحرير”، وهو كناية تدلّ على أكثر من قطيعة مع الماضي، وعَهَدَ بالإشراف عليها إلى محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي. غير أنّ السلطات قرّرت حجز العدد الصادر يوم 14 من ديسمبر1959 بسبب افتتاحية تضمّنت العبارة التالية “إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك، فإنّها أيضا مسؤولة أمام الرأي العام”. فتمّ اعتقال كلّ من اليوسفي والبصري في سجن لعلو في الرباط. ويتذكر الرّاحل محمد باهي ضمن ما كان يكتبه في سلسلة “رسالة باريس” أن “الشيخ بلعربي العلوي قدم استقالته من منصبه كوزير للتاج احتجاجا على اعتقال كل من محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي”، وأضاف يقول “لعلها تكون أوّل وربّما آخر استقالة سياسية في المملكة المغربية”.
لم يكن بن بركة يستمدّ شرعيته من تراتبية الألقاب، أو هرمية المناصب حسب تقلّبات الأرقام في الانتخابات الدّاخلية للحزب، بل من القدرات الذهنية والألمعية الفكرية لديه في ابتكار أنساق وآليات متجددة في العمل الحزبي وفعاليته وطنيا وإقليميا ودوليا، ومن المساهمة في تركيب نسقيْ “العالمثالثية” و”دولة ما بعد الكولونيالية” والدفع قدما بأفكار فرانز فانون ومعضلة “معذبي الأرض” لاستحضارها عند صياغة القرارات الدولية. وفي عام 1948، قدّم بن بركة تقريرا إلى الأمم المتحدة عن وضعية حقوق الإنسان في المغرب، فحقق لنفسه صيتا في العالم ضمن ما سمي توازن الرعب في تطور العلاقات الدولية، وحركة عدم الانحياز، ورئاسته لجنة الاستعمار الجديد، والتحضير للمؤتمر التأسيسي لمنظمة القارات الثلاث الذي كان من المفترض أن تستضيفه هافانا في يناير 1966، فضلا عن تعبيد الطريق لعضوية حزبه في “الاشتراكية الدولية” لاحقا.


تمسّك بن بركة بأنّه مثقّف منشغل بهموم المرحلة وغربلة تركة الماضي الاستعماري وأخطبوطية مخلّفاته بين الأوساط النفعية في المغرب، وإنْ كان هذا الطموح لا يجعله معصوما من النقد والمساءلة. يرى في النضال المتنوّر فكريا ومجتمعيا مصدرَ شرعيتِه الوطنية في الداخل لإخراج المغرب من عباءة فرنسا، ومعززا لمكانته الإنسانية والسياسية في الخارج. واستمدّ منها رفيقُه منذ الأربعينات وخلفُه في زعامة الحزب لاحقا عبد الرحيم بوعبيد أهمية الحتمية النظرية الواقعية التي لا تأتي من تأمّل الضباب، بل من تفكيك الواقع وإعادة تركيب الأنساق والسياسات بروح نقدية جريئة. حاول “جون لاكوتير” الصحافي ومؤلف كاتب “المغرب في طور الاختبار” عقب استقلال المغرب تحديد مكانة بن بركة بسؤال “هل هو من طراز لينين، ثوريٌ يمسح الطاولة ليُقيم بناء جديدا، يقطع مع الماضي، أم هو سياسي براغماتي على شاكلة السياسي الفرنسي “إيدغار فور”، يعرف وجهات الرّيح وتقلّباتها؟”
في هدي هذه الرؤية، يقول بوعبيد في مؤتمر الحزب عام 1978 “أمّا إنتاجنا النّظري، فيجب أن يعتمد دوما على الممارسة العملية التي هي محكّ كل رأي وكلّ نظرية. إنّ الممارسة النّضالية هي وحدها القادرة على إغناء النظرية… تفرض الظروف علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى القيام بنقد ذاتي بناء بروح المسؤولية الواعية وبالنّضج واليقظة حتى نتمكّن من تحليل التجربة التي عشناها تحليلا هادئا وعميقا.” وعند تركيب مفهوم “الكتلة الديمقراطية” بين أحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية، وضع الجابري النضال المغربي خاصة، والعربي عامة، ضمن نسق “الكتلة التاريخية” التي دعا لها غرامشي (1891-1937) مع ضرورة “تبيئتها وتكييفها مع الوضع العربي.”
بن بركة في ميزان العروي!


يستحضر الحديثُ عن فكر بن بركة انتقادات صديقه أيّام باريس عبد الله العروي الذي يؤاخذ عليه “معطى الإخفاق” الذي وقعت فيه تجارب الاشتراكيات العربية الأخرى لدى أحمد بن بلّة في الجزائر وجمال عبد النّاصر في مصر. ويذكر العروي أنّه لوحظ على بن بركة أنه ما بين 1955 و1960 كان “يستعمل نظريات وموضوعات ماركسية لتفسير وتبرير قراراته ومواقفه السياسية (مثل دور الحزب المسيطر في البلاد النامية…). كان لجوؤه إلى الماركسية من نوع خاص، يتوصّل هو إلى النتيجة عن طريق تحليل مسلسل ومنطقي، لكن في العرض يقدم النتيجة جاهزة كأنّها من بديهيات “العلم” العصري التي يجب أن تقبل بدون مناقشة”، كما يذكر في كتابه العرب والفكر التاريخي.
يبدو أنّ وراء تلويح بن بركة بالاشتراكية العلمية افتعالا وتسويقا للماركسية أكثر من حقيقتها، ويُلمح العروي ضمنيا إلى أن بن بركة استغلّ ماركس استغلالا تكتيكيا. وقد يبدو هذا الانتقاد ضعفا في ماركسية بن بركة أو تجليا لنرجسية الادّعاء بالمعرفة، وقد تختلط الألوان فيصبح العلم في حد ذاته “نشاطا سياسيا” وفق ملاحظة غرامشي. لكن بن بركة يتمسّك بجرأة النّقد الذّاتي ولا يتنطّع لضرب الحجّة بالحجّة. وصفه المهدي بنونة ذات يوم بأنّه “الشخص “المتماتيكي” (الرياضياتي) والبارع في علوم الرياضيات الذي كان ذكيا للغاية كما كان طموحا للغاية. وكان مُناورا صعباً يستطيع الوصول إلى ما يريد بجميع الطرق، كان ميكيافيليا: الغاية عنده تبرّر الوسيلة!”
تتسع الانتقادات لفكر بن بركة وممارساته إلى حدّ اشتراط “التكوين الأيديولوجي” وفق تشبّع العروي بمنطق التحليل الهيغيلي وجدلية الأطروحة ونقيضها. فيقدّمها أمام أنظار المغاربة بموازاة مآخذه أيضا على “فشل الدّولة المخزنية” في فسح الطريق للحداثة بما يقابل حديث بن بركة عن “فشل عضوي” أو “لاإرادي”. كان بن بركة يحذّر ضمنيا من مسار “دولنة” المجتمع الذي لا يكترث له حاليا إدريس لشكر بقدر ما يقدّم نفسه أحد عرّابيه، فهو يقول إن “الأحزاب إذا أرادت أن تقترب من الحكم في الوضع الرّاهن عليها أن تكون أحزابا مكيّفة، مهذّبة مقلّمة الأظافر، حتى لا يقترن حضورها بأيّ تشويش.” والجدير بالذكر أن العروي لا يحصر مفهوم “الدّولة” في منظومة الحكم فحسب، بل تشمل أيضا “ثقافة” تعمل دوما على ضمان “هيمنتها”، كما أوضح في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة. وحتى مغرب القرن الحادي والعشرين لا يبتعد عن خلاصة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أن “السلطة توجد في أي مكان”، وربما تحضر أيضا في منام السيد لشكر وفي أحلام يقظته أيضا.


يتذكّر “موريس بوتان” جلساته مع بن بركة، فيروى في كتابه “الحسن الثاني، ديغول، بن بركة، ما أعرفه عنهم” قائلا “خلال أحاديثنا كان بن بركة لا ينفك يعبّر عن إرادته ورغبته في رؤية المغرب يتحول لينخرط في الحداثة ومتطلباتها، مع رفض آليات الاستغلال الاستعماري الجديد. ورغم انحداره من وسط حضري، فإنه تعرّف عن كثب على البادية خلال فترة اعتقاله الثانية. وأدرك حينها الاختلاف في طرق استغلال الأراضي، ففيما يعتمد الفلاحون الطريقة التقليدية، يعتمد المعمرون الفرنسيون الطريقة العصرية… ولكن من المؤكّد أنّه كان قلقا وهو يرى أن الحصول على الاستقلال تمّ من دون صعوبات تُذكر بتعاون مع المستعمر، أكثر منه ضده… وكما أسرّ لي بذلك، فهذا هو السبب الذي جعل الكثير من أعضاء الحركة الوطنية سابقا “يتمدّدون على فراش” المعمّرين القدامى بموافقة القصر، بل بطلب منه، وهو يُديرون ظهرهم للشعب المغربي. وقد أكدّ لي مرارا أن “استقلال المغرب لن يستكمل إلاّ بعد تحرّر نساء البلد ورجاله، اجتماعيا وسياسيا، بفضل توزيع حقيقي لثروات البلاد.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube