فضاء الأكادميين

لماذا تحتاج الصحراء لثلاجة من صنع ألماني..!

البروفسور محمد الشرقاوي واشنطن

أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا


ليست دعوةً لهندسة بيئية جديدة للتعامل مع زيادة مفاجئة في حرارة المنطقة، أو كثافة الاحتباس الحراري في منطقة تأقلم السكان منذ قرون على مجريات الأمور وتحدّي الصعوبات واستمرار الحياة. هي حتميةٌ نفسيةٌ وسياسيةٌ لما يفوق الحاجة ل”ضبط النفس” الذي تنادي به الأمم المتحدة، وهي لازمة دبلوماسية متداولة كلما تأجج أي صراع واقترب من لغة الرصاص.
جاء في بيان وزارة الخارجية المغربية أن الرباط قررت “التحرك في احترام تام للسلطات المخولة له” لمواجهة ما تعتبره “الاستفزازات الخطيرة وغير المقبولة لميليشيات “البوليساريو” في المنطقة العازلة للكركرات في الصحراء المغربية.”
وأعلنت جبهة البوليساريو تحلّلها من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه قبل تسعة وعشرينا عاما. وأعلن ممثل الجبهة في أوروبا أنها قررت “العودة إلى النضال المسلّح.
في الوقت ذاته، حشدت موريتانيا قواتها هي الأخرى على الحدود ما يضفي على أزمة الگرگرات تصعيدا على ثلاث محاور مباشرة. وينبغي عدم استبعاد المحور الرابع غير المباشر وما تكرّسه الجزائر سواء في دبلوماسيتها أو دعمها السياسي واللوجستي للبوليساريو، وفق قاعدة أن تحليل أي صراع ينبغي أن يحتسب الأدوار المعلنة لكافة الأطراف المباشرة وغير المباشرة سواء خلال مرحلة التصعيد أو مرحلة الانفراج.
ثمة مجازفة جسيمة ينطوي عليها موقف كل من البوليساريو والمغرب بالتعويل على استراتيجية المعادلة الصفرية في إدارة رابع أعرق صراع قائم عقب الحرب العالمية الثانية، بعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (1948) وصراعيْ كشمير (1947) وقبرص (1964). بيد أنّ أزمة الگرگرات حاليا تزيد في تعميق صراع الصحراء وتنمّ عن مفارقات رئيسية:
١) حقن السرديات القومية بمنشّطات الروح الوطنية والاعتداد بانكسار الميزان بين “فضائل” الذات و”خطايا” الآخر، والجنوح إلى استخدام القوة كحل واقعي ونهائي في التنافس بين شرعية “الوحدة الترابية” وشرعية “حق تقرير المصير”. ويزيد الإعلام لدى طرف في تأجيج المشاعر إلى ما قد يتحوّل إلى قرع طبول الحرب. وفي كل صراع، ثمة منطقة رمادية تكبر فيها الحماسة والاعتداد بأحقية الذات في مواجهة الآخر ، ويزداد شحن السرديات القومية لدى طرف بشتى أشكال التعبئة والجنوح إلى استخدام القوة كحل واقعي ونهائي ضمن غرف الصدى. وكلما ارتفع الصدى في الداخل وشيّج الصدور للمواجهة المسلحة، فإنه لا يعبر الجسر إلى الطرف الآخر، ولا يغيّر بالضرورة موقف الأمم المتحدة في نيويورك أو يكسب تأييد مواقف الدول الأعضاء دائمة العضوية في الأمم المتحدة.
٢) تمثل الأزمة الراهنة في الگرگرات مناسبة مواتية لمراجعة دور الأمم المتحدة منذ عام 1975، ومشروع تنظيم الاستفتاء الذي تشكلت من أجله بعثة البوليساريو في سبتمر 1991، ومسار المفاوضات المباشرة، وما تمخضت عن سلسلة مفاوضات مانهاست حتى الآن. وكما قلت في مناسبات سابقة، هناك #باب_دوّار تتيه فيه قضية الصحراء عاما بعد عام، وهو #التعويل_المتبادل بين ضفتي المحيط الأطلسي: يعتقد كل طرف من أطراف الصراع أن الأمم المتحدة ستتوصل يوما ما إلى ابتكار حل سحري يخدم مواقفه ومصالحه الاستراتيجية. وفي المقابل، يترقب مجلس الأمن عاما بعد عام أن يتفاوض الأطراف ب”#حسن_نية_ودون_شروط_مسبقة” كما جاء في أحدث قرار للمجلس 2548 (2000) الصادر قبل أسبوعين، ويتوصلا إلى اتفاق ينهي الصراع. هكذا تواترت الدبلوماسية الدولية على التمديد الزمني للمينورسو دون تمديد دوره في الوساطة أو تجسير الخلافات، مما يجمد ملف الصراع في مكانه أو وفق مقولة الأمر القائم status quo.
٣) المفارقة الثالثة ذات بعد شخصي يجعلني أتمسك بفلسفة فض الصراعات وما أكرّسه تدريسا وممارسة في بلورة ما قد يساعد في الحد من التصعيد وتجاوز فكرة المواجهة. فأزمة الگرگرات تعيد إنتاج عدائية الأعوام الخمسة والأربعين الماضية بمزيد من الانطباعات والتصورات السلبية بين الطرفين. وهذا التمادي السلبي يربك أي صيغة للتقارب أو التوافق التي يتوخاها مجلس الأمن بعد جمود مسار مفاوضات مانهاست.
عقب ظهوري في النشرة المغاربية على قناة فرانس 24 الأسبوع الماضي، انقسم المعلقون إلى فريقين: فريق أشاد بحديثي وما اعتبروه “صوت الحكمة” أو “صوت العقل”، وأنه “كان موضوعيا ويحترم عقول الناس”، وأني “أضفت لغة حوارية راقية”. وفريق آخر ترقّب مني موقفا مؤيدا لقناعته، وقال أحدهم “أنك لا تعرف المشكل جيدا او متأثر ببروباغندا بومدين”، ووصل التعصب ببعضهم إلى تنصيب أنفسهم قضاة يقررون إلى من تذهب صكوك المواطنة أو “تمغرابيت” وفق هواهم.
قد تأخذنا الحماسة القومية إلى ضخ شحنة إضافية من العواطف والمشاعر والشعارات، وقد تحملنا حرارة اللحظة على قرع الطبول وإخراج السيوف من غمادها بروح القبيلة. لكن ما قد يخفى عن بال الكثيرين أن منطق القوة ومسعى المعادلة الصفرية لا ينهي الصراع ولا يمحي قضايا عالقة ستبقى قائمة وتؤرق العقول المتشنجة والصدور المنفعلة بعد هدوء العاصفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube