مراد العمراني الزكاري

السياسة الكونية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مابين جورج أورويل ووليام انكدال.

بقلم : مراد العمراني الزكاري ( الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية )

تحلل الاتحاد السوفياتي وبدأت حقبة جديدة ترتكز على السياسة الكونية أو النموذج الكوني للأباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وشهدت السنوات التالية تغيير حاد في هويات الشعوب.
كان التحدي الأمريكي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كيف يمكن اعادة تشكل السياسة الكونية على خطوط ثقافية مختلفة أو بالأحرى كيف يتم فرض النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه بوش الأب بعد سقوط جدار برلين سنة 1991، في ظل تغيير موازين القوى بين الحضارات المختلفة ما بعد الحقبة السوفياتية .
(1984) هذه الرواية الشهيرة والأكثر مبيعًا في التاريخ للكاتب البريطاني والناقد الاجتماعي جورج أورويل. هي رواية خيالية سياسية بارعة سطرها سنة 1945، لدولة تفرض التنافر المعرفي على مواطنيها من أجل السيطرة على ادراكهم للواقع.


الرواية التي كتبت بنهاية الحرب العالمية الثانية ترتبط بآثار حرب عالمية ذرية قسمت العالم إلى ثلاث ولايات. دولة واحدة تدعى (أوقيانوسيا)، وعاصمتها لندن. يحكمها حزب إنجليزي له سيطرة تامة على جميع مواطنيها العبيد، خاصة على عقولهم، بواسطة استخدام برنامج (السيطرة على العقل المركزي) وبإسلوب التفكير المزدوج. إذ تقدم المواضيع للمواطنين بمفهومين متناقضين كلاهما يجب أن يقبل به المواطن على النحو الصحيح في وقت واحد، وهو اسلوب يطلق عليه علماء النفس التنافر المعرفي.
ولهذا وعلى الرغم من أن أوقيانوسيا في حالة حرب مستمرة، فإن مواطنيها يتصرفون كما لو كان هناك سلام أيضًا. ويتم تلخيص جوهر التنافر المعرفي مع بداية الرواية في البيان: (الحرب هي السلام – الحرية هي العبودية – الجهل هو القوة).
حكومة دولة أورويل التي تتلاعب بالعقول عبر التنافر المعرفي تتشكل من أربع وزارات فقط وهي:
وزارة الحب: تُشرف على التعذيب وغسل الأدمغة.
وزارة الوفرة: تُشرف على نقص الموارد وترشيد الاستهلاك.
وزارة السلام :تُشرف على الحروب وويلاتها.
وزارة الحقيقة التي تراقب الدعاية ومراجعة التاريخ بما يخدم أهداف دول أوشينيا.
من يقرأ هذه الرواية جيدا سيدرك أن حالة الحرب المستمرة لدولة أوشينيا هي الثورة العالمية لأدم وايسهاوبت. كما يمكنه اعادة صياغة الوزارات الأربع بمفهوم السياسة الكونية للولايات المتحدة الأمريكية من أجل التلاعب بعقول الشعوب وفق منظومة حرب للأفكار تستخدم التنافر المعرفي لاحتواء الحضارات المختلفة، ومن ثم تحقيق السيطرة الأمريكية على عالم أحادي القطبية عبر الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
( وينستون سميث) بطل رواية أورويل. هو عضو في الحزب الخارجي الحاكم وموظف في وزارة الحقيقة المسؤولة عن الدعاية ومراجعة التاريخ والتحكم في المعلومات والأخبار والتعليم والفنون. وعمله هو اعادة صياغة المقالات القديمة وتغيير الحقائق التاريخية بحيث تتفق مع ما يعلنه الحزب الحاكم لدولة أوشينيا على الدوام . يتلقى الموظفون في وزارة الحقيقة تعليمات تحدد التصحيحات المطلوبة التي تخدم السيطرة الثقافية على شعب أوشينيا، وتصف التزييف والأكاذيب بالتعديلات والتصحيحات. وحتى لا تنكشف اللعبة يعكف جزء كبير من موظفي هذه الوزارة على تدمير المستندات الأصلية التي لا تتضمن تلك التعديلات حتى يذهب الدليل على كذب الحكومة أدراج الرياح.
أنشطة وزارة الحقيقة والتي ترسخ للهيمنة الثقافية على شعب دولة أوشينيا؛ ما هي إلا أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأذرعها الاعلامية المدججة بالنخب والمثقفين والأدباء؛ والتي تعمل على طمس هوية الشعوب وتزييف حضاراتها وتاريخها وكسر ثوابتها، وتغيير عادات وتقاليد الأمم بما يتوافق مع نمط الحياة الأمريكية. وتلك كانت مهمة وزارة الحقيقة أو وكالة الاستخبارات المركزية التي تأسست من أجلها سنة 1947، وقد ابلت في تنفيذ المهمة بلاء حسنا إبان الحرب الباردة .
ثم ما بعد تحلل الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين لتضيف إلى قائمة انشطتها تسويق العولمة الغربية في مقابل الدولة القومية وهو ما سنناقشه في هذا المقال الذي يفاجئنا بنهاية فصوله برواية عالمية جديدة.
أما وزارة السلام التي تشرف على الحروب وويلاتها في رواية أورويل، والمسؤلة عن إدارة الحرب الأبدية التي تخوضها دولة أوشينيا من أجل السيطرة على موارد الدولة. وباسلوب التنافر المعرفي بات جميع المواطنين متساوون في أنهم لا يأكلون إلا ما يسد رمقهم لأنهم مقتنعين بأن الحرب هي السلام.
فهذه الوزارة في الإمبراطورية الكونية هي الكوربوقراطية أو الشركة الأمريكية؛ أي مجمع الصناعات العسكرية الأمريكية التي تعمل بقوة دفع جماعات الضغط الصهيونية وباروانات المال والتصنيع في وول ستريت، انهم أباطرة الشركات متعددة الجنسيات من عائلات روكفلر، وروتشيلد، وغيرهم من يشنون الحروب الأبدية ويشعلون صراعات لا تنتهي في جميع أنحاء العالم من أجل استنزاف موارد الدول ونهب ثروات الشعوب تأصيلًا للرأسمالية الليبرالية، ويستخدمون في ذلك أدوات وزارة الوفرة في رواية أورويل.
وقد برع هؤلاء في استخدام التنافر المعرفي لتسويق عبارة (الحرب هي السلام). فانتشار أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة النووية، والدرع الصاروخي الدفاعي النووي من قبل جنرالات العسكرية الأمريكية كانت من أجل السلام. ومشروع القرن الأمريكي وما يحمله من مخطط إعادة بناء الدفاعات الأمريكية كان من أجل السلام، واشعال الصراعات العرقية في أوروبا الشرقية كان من أجل السلام. والحرب على الإرهاب في أفغانستان في 2001 ، والعراق في 2003، ثم في ليبيا وسوريا في 2011، ومؤخرًا في اليمن 2014، كان أيضًا من أجل السلام. وبنهاية المطاف تتمكن الولايات المتحدة من نشر قواعدها العسكرية عبر البحار والمحيطات من أجل الهيمنة العسكرية على عالم أحادي القطبية.
أما وزارة الوفرة التي تتحكم في الغذاء وترشد استهلاكه وانتاجه المحلي وتصدر كل ثلاثة أشهر تصريحات زائفة تفيد بارتفاع مستوى معيشة مواطن دولة أوشينيا، في حين أنها تعمل على تقليص الحصص والانتاج. ومن جهة أخرى تعزز وزارة الحقيقة ادعاءات وزارة الوفرة بتعديل الوثائق بحيث تؤكد أن الحصص قد ارتفعت بالفعل.
هذه الوزارة في السياسة الكونية هي مؤسسات بريتون وودز، أي القاتل الاقتصادي الذي يفرض أجندة أمريكية للسيطرة على اقتصادات الدول وادماجها في اقتصاد السوق الحر، عبر برامج وخطط هيكلة الاقتصاد الكلي، ومن ثم فرض الوصاية الدولية على هذه الدول والسيطرة على ثرواتها القومية بعد أن تفكك هذه الدول إلى دويلات صغيرة غير قادرة على مواجهة الغزو الناتج عن الشركات متعددة الجنسيات.
وأخيرًا وزارة الحب في رواية أورويل والتي ترصد المتمردين الحقيقيين والمحتملين وتراقبهم وتقبض عليهم وتجعلهم يعتنقون أفكار الحزب مثلما حدث مع وينستون بطل الرواية؛ فهو يتعرض للضرب والتعذيب إلى أن يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثم يرسل إلى الغرفة 101 ليواجه “أبشع ما في العالم” حتى يحل حب الأخ الكبير (الحزب الخارجي الحاكم) في قلبه محل التمرد. فهذه الوزارة في الامبراطورية الكونية هي منظمات المجتمع المدني (الغرفة 101)، وموظفيها هم النشطاء السياسيين.
أما المهمة المنوط بها هذه الوزارة الكونية للولايات المتحدة الأمريكية هي تغيير الأنظمة الحاكمة بالثورات الملونة. حيث تقوم بالقبض على عقول الشعوب وعبر التنافر المعرفي يتم تسويق عبارات: الثورة هي الاستقرار – الديكتاتورية هي الديمقراطية – هدم الأوطان هو البناء.
وبمساعدة من وزارة الحقيقة (وكالة الاستخبارات المركزية وأذرعها الاعلامية) التي تزيف الحقائق وتدلس على العقول من أجل خلق حالة لا وعي جماعي رافض لأنظمته الحاكمة، تبدأ واشنطن رحلة تغيير الأنظمة الرافضة للدوران في فلك النموذج الكوني من أجل الهيمنة السياسية للإمبراطورية الكونية.
في كتاب جديد بعنوان (المصير المشهود) لويليام إنجدال صدر في اوائل 2018، ربط بعبقرية بين هذه الرواية وبين السياسة الكونية للولايات المتحدة الأمريكية ما بعد الحقبة السوفياتية للسيطرة على الشعوب، أو بالأحرى لاحتواء حضارات العالم الرئيسية. حيث قيام وكالات الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية بالتعاون مع منظمات غير حكومية بتطوير تقنيات دقيقة لنكهة جورج أورويل المزدوجة (التنافر المعرفي) من أجل خلق سلسلة من تغيير الأنظمة في جميع أنحاء العالم بأنظمة جديدة تدور في الفلك الأمريكي، التي بدت نبيلة وديمقراطية وفي الواقع لم تكن كذلك.
يصف إنجدال في كتابه، الخلفية التي بدأت في الثمانينيات مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية في إدارة رونالد ريكان، مما أدى إلى إنشاء سلسلة من المنظمات غير الحكومية الخاصة، للتلاعب سراً بتطلعات الشعوب بالحرية والديمقراطية. من بولونيا والدول الشيوعية الأخرى في أواخر الثمانينيات ، إلى الاتحاد السوفياتي حتى يوغوسلافيا والصين.
إنه وصف لكيفية قيام دوائر النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا جنباً إلى جنب مع مراكز أبحاثها بتكرير طرق لفرض استبداد جديد على بلدان من أوكرانيا إلى ليبيا حتى موريتانيا.
كان الهدف هو استخدام التطلعات الديمقراطية للناس العاديين، الشباب في كثير من الأحيان، لإسقاط الأنظمة التي قاومت ما وصفه (ديفيد روكفلر) ذات مرة بحكومة عالمية واحدة، وهو استبداد عالمي للشركات.هذا سجل لا يصدق تقريبا لكيفية اختيار المنظمات غير الحكومية حول الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية من أجل جلب الحرب والعنف والإرهاب كما يقول إنجدال.
أقر بأني لم أطلع على كتاب ويليام إنجدال حتى الانتهاء من هذا المقال. لكني قمت بإلتقاط طرف الخيط عبر منشورات إنجدال من موقعه الرسمي توجز مؤلفه الجديد. وشرعت في قراءة رواية أورويل هذه، وقد فاجأني ما جاء بهذه الرواية الخيالية التي قمت بتحويلها عبر هذا المؤلف إلى رواية حقيقية تثبت كيف رسخت رواية أورويل عن الحرب المستمرة ، أسس الثورة العالمية التي دعى لها أدم وايسهاوبت. وكيف رسمت خارطة الطريق للإمبراطورية الكونية التي يسير على دربها باقي شعوب العالم، ولم تكن الولايات المتحدة فيها سوى دولة وظيفية من أجل تحقيق هذه الثورة العالمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube