ثقافة وفنونمقالات الرأي

رواية “سارة سيدة الخنادق” (1-2)

إبداع أدبي حتى الثمالة للروائي السوري عبدالله مرير

د محمد بدوي مصطفى 

اقتباس من رواية “سارة، سيدة الخنادق:

“بِالكَادِ بِضعَةُ فَراسِخٍ منْ هُنَا، يوجَدُ هُناكَ فَضاءاتٌ منْ حَدائِقَ وأَنهارٍ، أَحاديثٌ لِأُناسٍ يُشبِهُونَنَا تَحتَ فَوانِيسِ زَوايَا الطُّرُقَاتِ، وابْتِسامٌ على مَوائِدِ الأُمسيَاتِ، ليسَ بالبَعيدِ مِنْ هُنا فَتَياتٌ يَخْتَلِسْنَ النَّظَرَ إلى فِسْتانٍ يَختَالُ أَلوانَاً، يَغويْهُنَّ على جَادَّةِ الأَسواقِ ويَغمُرْنَ الطَّريقَ بالضَّحِكِ المُتَمَرِّدِ المُبهِجِ، كيفَ يحدُثُ أنْ يَكونَ هُناكَ صَوتٌ لِموسيقى يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّوافِذِ المُتَأَلِّقَةِ نُوراً وَأَغانٍ في لَيلٍ رَخيمِ الأُمنياتِ، وكيفَ يَحدُثُ أنْ نَكونَ نَحنُ داخِلَ فُقاعَةٍ مِلؤُها غَيماتٌ مِنْ بارودٍ آَسِنٍ وحِمَمٌ مِنْ خَوفٍ مُقيمٍ! كيفَ يَحدُثُ أَنْ تَكونَ غايَةُ أُمنياتِنا هيَ الرَّحيلُ قَبلَ الوُصولِ؟”

دهاليز الحياة ووجوه في الزحام:

هذه الحياة يا سادتي غريبة عجيبة، تجمعنا بأناس لم يكن الفرد منَا يحسب أنه سيلتقيهم مرّة بدهاليز هذه المستديرة! أسمهيم بلغتي “وجوه في الزحام”، فمنهم أناس طيبون، فاضلون كما أولئك في مدينة إفلاطون الفاضلة، يتقطر الشهد من أنفسهم ومنهم آخرون، والعياذ بالله، على عكس تلك الصفة الحبيبة ولا داعي لتقليب المواجع ولا أود أن أعيد قول شاعر العرب الفذ أبو الطيب: 

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ٭ ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ

وللشرح فقط فالوحدة المعجمية “الهوان” بفتح الهاء، نجد جذورها في “الْهُونُ” بِالضَّمِّ؛ والْهَوَانُ تجري في بحر الفعل “أهان” وفي السياق “أَهَانَهُ” أي اسْتَخَفَّ بِهِ، وَالِاسْمُ من الجذر “ه و ن” هو “الْهَوَانُ” وَ “الْمَهَانَةُ”. وبيت الشعر الذي كنت لا أود ادراجه في سياق الكلام، لكنني فعلت، له معان عميقة تبقى فينا، فالمعني يسوقنا إلى الآتي: إذا كان الإنسان هينًا في نفسه سهل عليه احتمال الهوان كالميت الذي لا يتألم بالجراحة. ونجد في المعجم الوسيط شرح الحديث ومقابلته بأبيات أخرى، ذلك أنه من قول موسى بن جابر الحنفي، شاعر إسلامي أدرك بني أمية:

إذا ما علا المرءُ رَام العُلا – ويقنع بالدونِ من كان دونا

حديث السنين … بين أعطاف مدينة دير الزور وعلى أعتاب مدينة ليون الفرنسية:

قصتي مع هذا الروائي البديع كانت مدهشة حقيقة. إذ شاءت الأقدار أن أشدّ الرحال إلى تركيا الجمال والحضارة باحثًا كناشر لداري المتواضعة المتواجدة بألمانيا (دار بدوي للنشر) عن مطبعة تليق بكتاب الدار الكرام وترقى بقامة قرائي الأعزاء. نعم أبحث عن مؤسسة مطبعية تخرج منها الكتب كعروس الأعشى عندما أشعر:

غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها ٭ تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ

نعم، هو تصور وخيال، ومن الخيال من نستطيع أن نروضه كترويض الفرس الجامح ليصبح يوما ما حقيقة، ، لكنني ما فقدت الأمل، رغم أنّه حلم، أن أجد ضالتي المنشودة. ساقتني أقدامي، و لنقل سيارة بصحبة من أحب وأصطفى، الأخ الأستاذ علاء الدين فوزي وأسرته المصونة إلى مكان ما باسطنبول. نعم، ركن من أركانها بعيد كل البعد عن مكان سكنتي المؤقتة بالهوتيل، ومن له علم بسوالف هذه المدينة فسوف تتراى لناظريه المسافات الكبيرة بين الأحياء المترامية بدرّة بحر مرمرة بكل وضوح. على أيّة حال وصلنا ذاك المكان المتسع اتساع المدن والذي يسمونه بلسان الترك: مطبعجيلر (مدينة المطابع) ذلك حسب معرفتي السطحية بهذه اللغة البديعة. من ثمّة دخلنا المكان من أبوابه وفي أول محل سألت عن امكانية طباعة كتب الدار به، فإذا بنا نجابه إشكالية ما كنت أحسب لها حساب: أن خامة الورق التي تطبع بهذا المكان هي فقط من نوعية الورق الأبيض، وأنا كنت أبحث لكتبنا أوراق صفراء فاقع لونها، وإن لم أغال في القول، تسر الناظرين. فبعد مشاروات بتركية خليط بين العربي والفارسي والإنجليزية، فضلًا عن الشرح بالأيدي وبالأرجل علمت من المسؤول أنهم دار طابعة رقمية، أي أن الماكينات لا تطبع إلا كميات قليلة فضلًا عن أن تلك الماكينات لا تستوعب إلا الخامات البيضاء من الورق.

خلاصة القول اعتذر عن طلبي ووصف لي مكان آخر، في عمارة كبيرة تعج بالمطابع ويتخللها دأب نحليّ يبحث عن مثيل. هناك عدد مأهول من المطابع ودور النشر تجدونها يا سادتي في كل ركن من هذا المكان الذي يأتيه الناس من كل صوب وحدب. فبعد جهد جهيد صعدنا إلى الطابق الثاني وسألت أول مكان وقع ناظريّ عليه، فإذا بأخ سوري يعمل في مصلحة أخرى وكان قبالة مكتبه مكتب لمطبعة مجاورة. وصف لي الطريق فدخلت. ووجدت حينئذ أخا فاضلا، أحسسته متحفظا بادئ ذي بدأ، بيد أنّ حرفيته في الحديث والأخذ والعطاء تراءت لي من أول وهلة. حدثته باقتضاب بما أنشد من أمر، فأجابني بأدبه الجم أن كل طلباتي على العين والرأس، فهمست نفسي قائلة في تؤدة وانشراح: لقد بلغت الهدف يا أبو طارق. جلست حينئذ أمام هذا الشاب الأنيق الذي يدعى طلال، وبدأت أفكارنا تنطلق، فإذا بنا في خلال لحظات قليلة قد رتبنا لطباعة ما يفوق العشرين كتابًا.

سألت الأستاذ طلال: “هل لديكم عينات يمكن أن أراها؟”. فبادرني مستطردًا بهدوئه وأدبه الجمّ: “أولم تؤمن”. قلت: “بلا”، وكنت يا سادتي ودون مغالاة، أرى جمال عرائس المطبوعات في كل ركن من هذا المكان: المصاحف الشريفة التي لا تقف طباعتها البتّة فهي تطبع بلا انقطاع، تذكرت الآية الكريمة:

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

على العموم كنت أرى الكتب، المجلات، وأصناف من المنتجات، لا تخطر على بال بشر. ذهب الأستاذ طلال ورجع يحمل في جعبته بعض من الأصناف، كتب، ومجلات مختلفة، بأغلفة مقواه وكانت بين هذه البوتقة رواية واحدة، وحيدة، لم تدش وتخرج من المطبعة بعد لترى النور. فتأملتها فهي كالعروس، وكأنها خرجت لتوها من حمام تركيّ بهيّ معطرة بعبق الخلود، كما بهاء عرائس الجنان من الحور العين. فإذا بها رواية الكاتب الذي نحن بصدده في سياق هذا المقال.

عبدالله مرير

لم أتردد لحظة واحدة فأمسكت وأستمسكت بها، وتركت ما عداها من كل الكتب والمجلات فوق الطاولة. انشدهت لرؤية تلك العروس “رواية سارّة … سيدة الخنادق”، للروائي السوري الجميل عبد الله مرير، عن دار خواطر الواعدة باسطنبول.

تصافقت – إن جاز التعبير- دون تلكؤ أو تردد طالبا إيّاها من الأستاذ طلال، وكان ردّة الرفض القاطع، وكأنه يقول قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان. أعدت البصر كرتين وسألته ثانية فرفض وكنا لحظتئذ نقف في صحن صالة العروض بالمطبعة. أحسست رفضه كالسهم في فؤادي، وقلت إنّه في نظره أغلب الظن “فرض كفاية”. تركت الأمر لله وآثرت في دخيلتي ما تشاؤون إلا أن يشاء الله وتذكرت حينئذ قولة والدي لا تقنط مذكّرًا إيّاي بحديثه الحكيم، يا محمد ولدي “لا يغلب عسرٌ يُسرين”، في تناص النص مع الآية الكريمة: (“فإنّ بعد العسر يسرا ، إنّ بعد العسر يسرا”).

أشار إليّ الأخ طلال بإيماءة من يده، وطلب مني أن أجلس قبالته حيث مكتبه، لنتحدث عن كتب دار بدوي التي أود طباعتها لديه. طال الحديث واسترسلنا في النقاش وتجابدنا أطراف الكلم، كما تعاصرنا في رفع وخفض الأسعار، كعادتنا نحن الشرقيون. في نهاية الأمر اتفقنا على كل ما الفرائض والنوافل

كبيرها وصغيرها. وبلغت المشاورات نهايتها. قمت دقيقتئذ متثاقلًا وفي وقفتي تلك تصافقت، إن جاز القول، أسائله ثالثة: هل يمكن أن أقتني الرواية؟ فإذا به يبتسم، فافترت شفتاه عن ابتسامة رضا وقناعة، وكأنّه يحدثني قائلاً، هذا هو المكتوب، كعادة أهلنا في المغرب عندما يتحدثون عن الأقدار. صافحني مودعًا مبتسما راضيا وسلمني العروس التي صارعت من أجلها بساحة وطيس المطبعة، وكانت عندما ضممتها إلى يديّ بضة الملمس، حلوة السحنة، بهية الطلّة وتضمنتها بصمة (أي نتوء على العنوان بوجه الغلاف، يحدث عندما لمست عنوان الرواية، فإذا بها المناضلة الحسناء: سارة، سيدة الخنادق.

يا لها من طباعة ويا لها من قصة ويا لها من رواية. رجعت أجرر أذيالي إلى مكان إقامتي، وكان أول شئ فعلته، أن انطرحت على سرير وثير وقعدت أتصفح هذا العمل. من ثمّة بدأت بقراءة الصفحات الأولى، الإهداء، ووقفت على العرفان الذي سطرّه يراع عبد الله في فاتحة الرواية، معترفًا بمعروف وجمائل كل من وقف بجانبه حتى خرج هذا العمل كما هو الآن: جمال على جمال. استرسلت في القراءة فإذا بي أجد عنوان الأيملة (البريد الإلكتروني)، فلم أتردد لحظة واحدة، ووضعت الرواية جانبًا وأرسلت له رسالة أناجيه بالتواصل معي عبر الواتس آب. فاجأني الرجل برسالة استفتحت بها صباحي في اليوم التالي بالنُزِل الذي أقيم به. فاجأني ثانية برسالته لي، التي حفتها أعطاف المحبة وزملها آي الاحترام والأدب الجمّ. ومنذ تلك اللحظة انطلقت أفواهنا وأقلامنا في أحاديث ومراسلات شيقة، فصار هذا الرجل في فترة وجيزة عزيز إلى قلبي، لا سيما أنني عرفت من أوّل وهلة لهجته ولسانه الذي سلق عليه في التوّ، فعرفت من خلال كلامه ودون أن ينبس أنّه من أحبابنا من مدينة دير الزور، أو بالأحرى من قرية الميادين.

بحكم علاقاتي الواسعة والحميمة بآهالي تلك المناطق السورية: دير الزور، موحسن أساس وموحسن عشائر، بقرص فوقاني بقرص تحتاني، الخ. أحسست بقربه إليّ لا سيما فإن أهلي من تلك المناطق وأصدقائي قد وهبوني الجنسية الشرفية لمدينة موحسن السوريّة ومن قبل أحبابنا من أهل دمشق وحلب كانوا مثلهم، وهذا من دواعي سروري.

على كل صرنا أنا والروائي عبد الله أصدقاء وفي الحقيقة صرت أتحدث إليه أكثر مما أتحدث إلى شريكة حياتي، أم طارق، ذلك محبة في حديث الرجل، أدبه، علمه، تواضعه الجم، فضلًا عن حلقة الوصل التي تربط بيننا ألا وهي اللغة الفرنسية التي أعشقها إلى درجة الثمالة بحكم سنيّ دراستي بمدينة ليون الفرنسية. صرنا نتناقش باللغتين، نشقلب الأمور بعضها البعض وصارت القلوب تناجي بعضها البعض في حب الأدب وجمال السير وتحف الكتب وفنون الرياضة.

كتب عبد الله هذه الرواية وأجاد في السرد فأنت لا تفتأ أن تبدأ فيها إلا وتستعصم عليك البطلة سارة، وأسرتها، زوجها وولدها، الأحداث والأماكن التي تقترب منك كحبل الوريد وفي كل لمحة ونفس. تمشي معهم في طرق الشوك وأزقة الشوق وآفاق التمنيات الصادقة البعيدة؛ تتعرف على معاناة شعب عريق، ذي تاريخ تليد، شعب معلم، يضرب تاريخه بجذوره في أعماق التاريخ: سوريا التاريخ وسوريا الحضارة. نعم تلك البلاد التي أزعم بكل تواضع أنني أعرفها أكثر من أهلها أنفسهم. كيف لا وأنا قد حمتُ ربوعها شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوباً، صعدت تلالها في معلولة وصيدنايا، قعدت على أعتاب مدينة تدمر (بالميرا) أغني بلسان من أحب ، أستاذي الفنان العملاق صباح فخري، عندم ينشد (لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم وحملوها وسارت في الدجى الإبل). نعم لا أنسى قعدتي تلك بمدينة تدمر الشامخة، التي نسف أعمدتها من لا يستحق أن نزرف في شأنه ولو قطيرة واحدة من حبر يراعي.

يا سادتي كانت أمشي مختالًا فسافرت إلى حلب القلاع وإلى بصرة المسارح، وقعدت في الطرقات استمع لأديب الدايخ ينشد في مجالسه (يقولون ليلى بالعراق مريضة ويا ليتني كنت الطبيب المداوي). أحوم أرجاء سوق الحامدية وأناجي من على القرب فسيفساء الجامع الأموي، ومحراب ممالك شهد لها التاريخ بالرقيّ والعلو، أبحلق مليًّا في مداخل الجامع الأموي مبصرًا حوض التعميد الذي – كما تقول الروايات – أن سيدنا موسى قد عُمد فيه، والله أعلم. ولن أنسى صولاتي وجولاتي مع صديقي الموسيقار إياد حيمور، نزور فيها بعض أرباب شرائط الكاسيت في أزقة دمشق القديمة لنقتني حفلات أم كلثوم النادرة التي لم تنشر. تعلمت من هذا الرجل الكثير الوفير. عرفت أعواد النحات، تلك التحف الأثرية، وكنا نجلس في مدينة ليون في صحبته يديدن لنا على عوده الرنّان رباعيات الخيام ويتحدث إلى عن عوّاد أم كلثوم، القصبجي، صار الريشة الماكوكية.

رجعت أدارج الفِكر وحدثت صديقي الجميل عبد الله عن صولاتي وجولاتي بدمشق، وسكنتي بفندق الربيع بسوق ساروجة، قرب ساحة المرجى، وعن أبو هيثم صاحب ورشة العود، بجوار فندق الربيع، الذي أعطيته عود اشتريته من سمسار وكانت به مفاتيح من صنع أحد الإخوان نحات، خربها أبو هيثم، الله يطراه بالخير. نعم واسترسلت أحدث صديقي عبد الله، صاحب سارة سيدة الخنادق، عن أصدقائي بمدينة ليون، من أولئك الذين علموني علوم سوريا، مغنًا وطربًا وأدب. يا حليلهم، نبيل اللو، بشار سلطجي، رولا صالحية، إياد حيمور، “حسان الخسّة”، آية وآخرون، جمعتنا فرقة تدمر للموشحات الأندلسية ونحن في صحن المدينة الجامعية، أكرموني بإضافة أغاني سودنية كنت أقدمها صولو معهم، كأغنيات سيد خليفة، المامبو السوداني وعقد اللولي، كنا ننزل من الغرف إلى غرفة الأستاذ المايسترو نبيل اللو، الموسيقار الفذ والباحث المتميز، يعلمنا عبر حديثه الشيق أدب الطقاطيق، الموشحات الأندلسية، الدواليب (أي افتتاحيات) السماعيات. يقربنا إلى مقامات تعرفها سارة، سيدة الخنادق، شئ من راست الدو، وشئ من مقام حجاز الصول، لنعرج إلى مقام النهوند والعشاق والعجم والبيات ومنها إلى مقام راحة الأرواح حيث السكينة والهدوء كما في أطلال سيدة الغناء أم كلثوم. أكثرت عليكم بالذكريات يا سادتي، وعرجت عن الحديث عن سارة وأهلها وطريقها المليئ بالشوك. وكان لي بالأمس لقاء بعد قرابة الثلاثين عامًا عبر الهاتف مع نبيل اللو، أحمد فاروق المغربي، إياد حيمور، هؤلاء الزملاء الأفاضل الذين أحبهم قلبي، ورجعت بي الذِّكر إلى تلك الأيام الخوالي، في شارع جوزيف شابل، في مبنى سوناكوترا الذي كان الكل فيه يعشق الأنغام التي تنفذ إليهم من تلك الغرفة الساحرة، أنغام دندنت لها الجدران، واهتزت من وقعها القلوب، وتمايست أرجاء المدينة الجامعية لوقعها البديع فرقصت جدرانها حبًا.

من الروائي عبد الله مرير؟

اسمه بالكامل عبد الله محمد راضي مرير، هو من مدينة دير الزور بسوريا، درس الأدب الإنكليزي ومهارات واساليب الكتابة في مجال القصة والمسرح. يقيم الآن بفرنسا بمدينة رين الساحرة ويتابع دراسة الأداب بتأني وصبر، رغم حياته الماتعة التي تتأرجح بين تدريس علوم الرياضة، وبين البحث في مكتبات جامعة رين العريقة في آداب شعوب الأرض المتعددة الثقافات والأعراق والأجناس. يعد عبد الله مرير في هذه الفترة العديد من الأعمال ويقوم بتحقيق أعمال قصصية ومسرحية سوف يقوم بنشرها واحدة تلو الأخرى.

عاش أوقات الحرب والقصف والدمار الذي نزل بالمدنيين في سوريا، ولا تزال صور الأبرياء المعذبين في الأرض شاخصةً في قلب ذاكرته وعالقة بنفسه، حينما تصرخ بالسؤال تحت الأنقاض وبين أعمدة الدمار، فتارةً يصيبها اليأس بما أتاها من خيبةٍ وخذلان، إذ يرتد إليها صداها من حيث أتى، فلا حياة لمن ينادي. بدأ الكتابة في سن مبكرة، وهو ابن السبع سنوات، متخذاً من أدب الحرب مسلكاً لتوجهاته السردية والأدبية، حيث أن ذاكرته تنضح بمخزون عظيم من أرشيف الحرب بسوريا، وتظل تلك الذاكرة غنية خصبة بصور من رحلوا عنه وعن ديارهم. لا تزال تدوي بأعماقه عربدة المدفعية حينما تلقي بنيرانها فوق بيوت الطين في الأزقة العتيقة. يجول بين مقابر الأحباب والأصحاب، إن عُرف وعُرّيَ رسمها، يترآى عليه من البعد صوت ثكلى تذرف الدمع والصلوات على نعشٍ مُسجى بالورود والُبل. ويسمع مناجاة أطيفال يكيلون التراب فوق لحد أخيهم الأصغر، نوارّة الأسرة، ذلك الابن البض الذي حرمته الحياة والحرب أحلام وشقاوة الأطفال.

تتحدث رواية سارة، سيدة الخنادق، عن أمور نعلمها لكننا لا ندرك مراراتها، أو لنقل الأغلبية لا تعرف قسوتها وحنظلها، تروي عن السجين والسجاَّن، وحوارٌ يدور حول قطيعٌ مشوه الفضيلة، وأحلام إنسان عابر وجد سعادته وراء محراثه ورائحة عندما يتآتي إليه عبق الحقول، أو حينما قطرات الطل وسلسبيل المطر. يتساءل في سردية أدب الحرب، بتميز وتفرد عن ماهية الحد الفاصل بين التناسي والانتقام. يسترسل ليناجي أسفار الترحال عن مدن الشمال، حيث تلتقي الآلام والآمال والنجوى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube