هندسة الوعي بين الرباط ومدريد: ولادة معادلة جديدة للاستقرار في غرب المتوسط

عبدالحي كريط
يبدو أن ما جرى في مدريد لم يكن مجرد اجتماع رفيع المستوى بين المغرب وإسبانيا، بل كان ـ في عمقه البعيد ـ محاولة لإعادة تشكيل خريطة الوعي بين بلدين أدركا أن التاريخ لا يرحم من يظل خارج حركة الزمن. فالقضية ليست في الاتفاقيات الموقعة ولا في الصور البروتوكولية التي تُلتقط على مهل أمام عدسات المصورين، بل في تلك الدينامية الخفية التي تتحرك داخل بنية العقل السياسي المغربي والإسباني معًا، كأنهما يدخلان مجددًا إلى مختبر النقد الذاتي بعد عقود من التوترات والانفعالات غير المنتجة.
ذلك أن مدريد لم تستقبل وفدًا حكوميًا مغربيًا فحسب، بل استقبلت كل التحولات التي عرفتها المنطقة منذ سقوط جدار الاستقرار في الشرق الأوسط مع عملية “ السابع من اكتوبر ”، وما تبعها من إعادة تصويب للخرائط والتحالفات وكيف أصبح المتوسط نفسه مرآة مكشوفة لصراع الإرادات.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تُعقد هذه القمة في هذا التوقيت؟ ولماذا يُعاد تثبيت الدعم الإسباني لمبادرة الحكم الذاتي بينما العالم ينزلق نحو صدامات جديدة بين الشرق والغرب؟ لعلّ الجواب يكمن في أن مدريد اكتشفت ـ بعد سنوات طويلة من التردد ـ أن الرهان على المغرب لم يعد خيارًا تكتيكيًا بل ضرورة استراتيجية لحماية جبهتها الجنوبية، ولتفادي أي تصدعات مستقبلية في بيئة دولية تتغير بسرعة مخيفة.
إن دعم مدريد لمبادرة الحكم الذاتي ليس مجرد خطوة سياسية، بل هو إقرار ضمني بأن الصراع المفتعل على الصحراء لم يعد صراعًا إقليميًا فقط، بل تحول إلى رهان على من يمتلك القدرة على إنتاج الاستقرار في محيط تنشط فيه شبكات الإرهاب والجريمة والهجرة غير النظامية، وهي ملفات تعرف إسبانيا قبل غيرها أنها لا تُدار بالخطابات الرخوة بل بالتحالفات الصلبة.
وفي المقابل، يدرك المغرب أن بوابة أوروبا الجنوبية لا يمكن أن تُستعاد إلا عبر إسبانيا، تمامًا كما تدرك مدريد أن نفَس إفريقيا الجديد لن يدخلها إلا عبر الرباط.
إن هذا التداخل العضوي بين الطرفين هو الذي جعل مدريد ـ لأول مرة منذ عقود ـ تتحدث عن أن العلاقات الحالية هي “الأفضل في التاريخ”. عبارة تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل في العمق دلالة على أن البلدين قررا أخيرًا كسر عقدة التاريخ التي طالما كبّلت أي اندفاعة مشتركة نحو المستقبل.
إن الاتفاقيات التي وُقعت في مدريد ليست مجرد وثائق تقنية، بل هي ـ في جوهرها ـ تشييد لبنية تحتية جديدة للتفكير السياسي: تعاون في الزراعة والصيد البحري، في محاربة التطرف، في الرقمنة، في الضرائب، في التعليم، في الرياضة، في تبادل الدبلوماسيين، في حماية الأرشيف والذاكرة… وكأن البلدين يدركان أن الصراعات المقبلة لن تُحسم بالجيوش، بل بميناء رقمي، أو بمدرسة دبلوماسية، أو بمنصة قانونية قادرة على إنتاج المعرفة بدل إعادة تدويرها.
ويبدو لافتًا أن القمة الثالثة عشرة جاءت مباشرة بعد تجديد مجلس الأمن الدولي دعمه لمبادرة الحكم الذاتي، وهو ما يعكس التحول العميق في ميزان الشرعية الدولية، حيث تراجعت نزعة الانفصال إلى الضفة المعتمة من الجغرافيا السياسية، بينما صعدت فكرة الحل الواقعي والمتدرج الذي يضمن الاستقرار بدل الوهم الثوري الذي لم ينتج سوى المزيد من الركود والتشرد والخيبات.
ثم هناك بُعد آخر لا يقل أهمية: الدينامية الملكية بين الرباط ومدريد. فالعلاقات الممتازة بين الملك محمد السادس والملك فيليبي السادس ليست تفصيلاً بروتوكوليًا، بل هي عنصر أساسي في بناء ثقة لا تستطيع الحكومات بمفردها أن تُشيّدها. هذه العلاقة الهادئة والمتوازنة كانت ـ وما تزال ـ صمام أمان لمرحلة جديدة من التنسيق العميق، خاصة مع اقتراب تنظيم كأس العالم 2030 الذي يحوّل المتوسط إلى مختبر تنموي ضخم ستتشابك داخله الاستثمارات والبنى التحتية والثقافة والرياضة والسياسة.
وفي خلفية هذا المشهد، يتحرك سؤال أكبر: هل يمكن للمتوسط أن يتحول فعلًا إلى فضاء استقرار مشترك بين الرباط ومدريد ولشبونة، في زمن تتفكك فيه التحالفات التقليدية؟ ربما نعم، إذا نجح البلدان في الحفاظ على هذا النسق الهادئ والصبور، وإذا أحسنا تحويل الاتفاقيات إلى منظومة تفكير جديدة لا تُدار بها الملفات، بل تُدار بها عقلية إدارة الملفات.
فالعلاقات اليوم لم تعد تُقاس بعدد البروتوكولات، بل بمدى قدرة الأطراف على قراءة العالم بعيون مفتوحة. وفي هذا السياق تحديدًا، تبدو مدريد والرباط وكأنهما تحاولان بشكل غير معلن صياغة “عقيدة متوسطية” جديدة تعيد التوازن إلى فضاء مضطرب، وتعيد كتابة قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية في حوض يزداد سخونة مع كل أزمة شرق أوسطية وكل توتر أطلسي.
وهكذا، يصبح اجتماع مدريد أكثر من مجرد حدث سياسي؛ يتحول إلى انعطافة هادئة نحو مستقبل لا يحتمله سوى الفاعلين القادرين على نقد أنفسهم، وإعادة بناء تصوراتهم، وتجاوز إرث التاريخ دون نسيانه. وفي عالم يتغير بسرعة الضوء، يبدو أن المغرب وإسبانيا اختارا أخيرًا أن يكتبا ـ معًا ـ ما يشبه المسودة الأولى لسلام جديد في غرب المتوسط.
* صحفي وكاتب مغربي مختص في الشأن الاسباني



