مقالات الرأي

التاريخ يعيد نفسه في أوكرانيا

حسني محلي محلل سياسي تركي.

يقول الشاعر التركي الشهير وكاتب النشيد الوطني، محمد عاكف: “يقولون عن التاريخ إنه يكرّر نفسه، فلو استخلصت الدروس منه لما كرّر نفسه”.
مقولة مهمة تأتي في مكانها لوصف الحالة الأوكرانية التي تذكّر بسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنشاء حلف وارسو كردّ على الحلف الأطلسي الذي تأسّس عام 1949. كما هي تذكّر بمساعي تركيا للانضمام إلى هذا الحلف بحجج ومبرّرات شبيهة بتلك التي تطرحها أوكرانيا الآن، وبتحريض من الغرب، وأهمها “إن روسيا ستغزوها”.
فبعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد تسلّم عدنان مندرس السلطة في أيار/ مايو 1950، اتهمت أنقرة موسكو بالتخطيط لاحتلال أجزاء من شمال شرق تركيا والسيطرة على مضيق البوسفور، ما دفعها إلى الاستنجاد بواشنطن التي تردّدت بداية في احتضان أنقرة داخل الحلف الأطلسي، لضمان تبعيّتها لها بشكلٍ مطلق. فقرّرت الحكومة التركية في الـ25 من تموز/ يوليو 1950 إرسال خمسة آلاف عسكري للقتال إلى جانب أميركا في الحرب الكورية، في محاولة منها لكسب ودّ وتضامن الأميركيين الذين فتحوا أبواب الحلف لتركيا، ومعها اليونان، في الـ17 من تشرين الأول/ أكتوبر 1951، فتحوّلت تركيا بعدها إلى خندق أمامي للدفاع عن المصالح الغربية ضد الاتحاد السوفياتي والمدّ الشيوعي، ولاحقاً القومي العربي بعد ثورة عبدالناصر في مصر.
كما أصبحت تركيا عضواً مؤسّساً في حلف بغداد الذي انتهج سياسات معادية ضد الدول العربية، وخاصة سوريا ومصر والعراق والأردن ولبنان، بعد أن زار بن غوريون أنقرة سراً في الـ29 من آب/ أغسطس 1958، والتقى مندرس، في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تبني قواعدها ومحطاتها البحرية والبرية والجوية، التي وصل عددها إلى نحو 150 قاعدة، أواخر الستينيات من القرن الماضي.
وبقيت هذه العلاقة العضوية بين أنقرة وواشنطن العنصر الاستراتيجي المؤثر في مجمل قرارات تركيا الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية، بشكل مباشر أو غير مباشر، وخاصة في ما يتعلق بالشرق الأوسط والاتحاد السوفياتي، ولاحقاً روسيا. ويفسّر ذلك التحركات التركية القومية والدينية في آسيا الوسطى والقوقاز بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وميلاد الجمهوريات الإسلامية في هذه المناطق، ومن دون أن تهمل أنقرة لاحقاً علاقاتها مع دول البلقان، وفيها جاليات إسلامية كبيرة وهي ذات أصول تركية، أرادت أنقرة، وخاصة في عهد الرئيس رجب طيب إردوغان ومن قبله تورغوت أوزال، الاستفادة منها في مخططاتها ومشاريعها القومية التاريخية، وأهمها ضد روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي، ومن قبله الإمبراطورية الروسية التي بدأت علاقاتها مع الدولة العثمانية عام 1520 في عهد سليمان القانوني. وشهدت هذه العلاقات 16 حرباً ضارية (بعض المصادر يقول 14)، وكان الصراع على البحر الأسود من أهم أسباب هذه الحروب، وانتهى 11 منها بانتصار الروس.
لم ينس الأتراك الذكريات السيّئة لهذه الهزائم، وهو ما دفعهم إلى التنسيق والتعاون مع الدول المطلة على البحر الأسود، وهي بلغاريا ورومانيا (انضمّتا إلى الحلف الأطلسي عام 2004)، وكذلك جورجيا وأوكرانيا التي حاولت واشنطن ضمّها إلى الحلف بعد الثورات الملوّنة هناك عام 2004، ثم في جورجيا مرة أخرى عام 2008، وأخيراً في أوكرانيا عام 2014، فخسرت الأولى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، والثانية شرق البلاد وشبه جزيرة القرم، وهو سبب الأزمة الحالية.
وترى موسكو في علاقات أنقرة مع كييف وتبليسي عنصراً استفزازياً بالنسبة إليها، ما دامت هذه العلاقة تأتي بالتنسيق والتعاون مع واشنطن والحلف الأطلسي الذي يسعى للسيطرة على البحر الأسود وتحويله إلى بحيرة، يساعدها على خنق روسيا في هذه البحيرة، بعد إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل، ومنع نزول السفن الروسية إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، أي سوريا.
فعلى الرغم من موافقة موسكو على دخول الجيش التركي إلى سوريا في الـ24 من آب/ أغسطس 2016 (الذكرى الـ 500 لمعركة مرج دابق)، فقد تضاربت المصالح التركية دائماً مع الحسابات الروسية، ليس فقط في سوريا وليبيا، بل في القوقاز وآسيا الوسطى أيضاً، وأخيراً في أوكرانيا وجورجيا، والعديد من جمهوريات البلطيق التي تسعى أنقرة لتطوير علاقاتها العسكرية معها، بما في ذلك بيعها طائراتها المسيّرة. كما أعلنت أنقرة، وفي أكثر من مناسبة، تضامنها مع كييف، ورفضها القرار الروسي بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، وقالت “إنها ستستمر في دعم الأقلية التركية المسلمة هناك، وهم يناضلون من أجل استقلالهم، وذكرياتهم سيّئة مع الروس، عبر التاريخ بأكمله”.
وكان كل ذلك كافياً بالنسبة إلى موسكو التي تحرّكت، وكما هي الحال في كازاخستان، لمنع أي مؤامرة جديدة تستهدف أمنها الاستراتيجي في البحر الأسود، في حال ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف. ويذكّر ذلك بانضمام تركيا إلى الحلف قبل سبعين عاماً، فأصبحت خندق الدفاع الأول لحماية الغرب من أي هجوم سوفياتي عبر البحر الأسود أيضاً، في الوقت الذي تواجه فيه روسيا الآن مثل هذا الخطر في حال سيطرة الطرف الآخر على البحر المذكور، بعد ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف وبدعم من تركيا التي تسيطر على المضائق وتطلّ على البحر الأسود بنحو 1700 كلم، كما تطلّ بلغاريا ورومانيا عليه.
فأميركا التي فتحت أبواب الحلف أمام جميع الدول الشيوعية السابقة في أوروبا، وهي التشيك وبولندا وهنغاريا (1999)، ثم بلغاريا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا ورومانيا وسلوفاكيا (2004)، وأخيراً ألبانيا وكرواتيا (2009)، والجبل الأسود (2017)، يبدو واضحاً أنها تعقد آمالاً كبيرة على حليفتها تركيا لتضييق الحصار على روسيا في البحر الأسود (عبر أوكرانيا وجورجيا والمضائق) حتى يتسنّى لها الاستعداد للمرحلة التالية من خطة الحزام الأخضر لمحاصرة روسيا والانقضاض عليها عبر حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى والقوقاز، وتوجد فيها الجمهوريات الإسلامية ذات الأصول التركية، وهي قريبة من جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا، ويعيش فيها نحو 20 مليون مسلم.
ولا يُخفي الرئيس إردوغان اهتمامه بها جميعاً، من منطلقات دينية وقومية وتاريخية، يريد لها أن تجعل من تركيا دولة عظمى تنافس بل وتتحدّى الجميع، وفي مقدمّتهم العدو التقليدي روسيا، ومهما كانت علاقات الودّ بينه وبين الرئيس بوتين.
ويبدو واضحاً أنه من خلال مواقفه الحاسمة والحازمة، يريد أن يقول للجميع إن روسيا عبر مراحل التاريخ المختلفة قد لقّنت الكثيرين، ومنهم الأتراك ونابليون بونابرت، الكثير من الدروس، وهو ما فعله الاتحاد السوفياتي مع هتلر وكرّره في تصدّيه لمؤامرات أميركا وحليفاتها في جميع أنحاء العالم، وخاصة في فيتنام وكوبا. كما أثبت بوتين بمواقفه وتصرفاته الأخيرة “أنه لا ولن يتراجع قيد أنملة”، وسوف “يضحّي بكل غال ونفيس للدفاع عن شرف الشعب الروسي وكرامته،” وبات مهيَّأً نفسياً للردّ على أعدائه، كما فعل ذلك عندما ضحّى بعشرين مليون شهيد من أجل وطنه في الحرب العالمية الثانية، وهو مستعد لثالثة منها، ما دام قد كان هو المنتصر في الأولى والثانية، لتكون نتائج الأزمة الأخيرة في أوكرانيا مؤشراً مهماً على مضمون المرحلة المقبلة في سياسات بوتين الخارجية، لا مع واشنطن وبعض العواصم الغربية فقط، بل الأهم من كل ذلك مع أنقرة التي يبدو واضحاً أن موسكو بعثت إليها بما يكفيها من الإشارات للتهرّب من أيّ موقف تراه استفزازياً لها، ليس فقط في أوكرانيا والبحر الأسود، بل في القوقاز وآسيا الوسطى، والأهم من كل ذلك سوريا، بكل عناصرها الحسّاسة والمعقّدة.
وقد تكون مساعي الرئيس إردوغان للمصالحة مع الإمارات ومصر والسعودية والبحرين، وبوساطة أميركية وقطرية، في إطار الإعداد لمواجهة تطورات المرحلة المقبلة، ومن دون إهمال “إسرائيل” (وفيها مليون يهودي من أصل روسي) التي لها علاقات مميّزة مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، والأوكراني اليهودي زالينسكي، صديقَيّ وحليفَيّ إردوغان في مجمل تحرّكاته وحساباته التاريخية التي يدركها بوتين جيداً، وقد يردّ عليها قريباً في سوريا، وبعد أن يخرج من أوكرانيا منتصراً!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube