أخبار العرب

المغرب “يَخسر” معركته الإعلامية

الصحيفة

في الوقت الذي ربحت المملكة المغربية الكثير من النقاط في سياستها الخارجية المُعتمدة على الديبلوماسية المرنة، خسرت ومازالت تخسر معاركها الإعلامية، وفشلت بشكل “مُفزع” في صناعة “قوة ناعمة” ممثلة في إعلام قوي قادر على الدفاع عن القضايا الكبرى للبلاد رغم صرف ملايين الدولارات سنويا على مؤسسات عمومية أو شبه عمومية تستنزف أموالا باهظة بدون أي تأثير في الرأي العام الداخلي أو الخارجي.
دول الخليج، فهمت قوة الإعلام مُبكرا، فأسست قطر قناة “الجزيرة” سنة 1996 بميزانية لم تتجاوز حينها 150 مليون دولار، وغذتها بميزانية سنوية بلغت 30 مليون دولار كانت كافية لأن تجعل “صندوق الكبريت” كما وصفها الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عند زيارته لمقرها، أقوى من أي سلاح آخر يمكن أن يتوفر لقطر لصنع “قوتها الناعمة” والتأثير في الرأي العام العربي والعالمي من خلال فتح قناة بفائض كبير من الحرية، جعلت من الدوحة العاصمة التي يخشاها العديد من زعماء المنطقة لأن بها قناة إسمها “الجزيرة”.

كذلك، فعلت السعودية التي لحقت بقطر وأسست قناة “العربية”، ثم الإمارات التي استوردت إسم “سكاي نيوز” البريطانية، لتطلق قناة “سكاي نيوز عربية” في صفقة بملايين الدولارات بين شركة أبو ظبي للاستثمار الإعلامي ومؤسسة سكاي البريطانية، من أجل خلق ذراع إعلامي للإمارات تصنع به التوازن مع الدوحة والرياض.

في المغرب، تصرف الدولة من المال العمومي حوالي 270 مليون دولار بين 8 قنوات تابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، والقناة الثانية 2M التي تصدر عن شركة (صورياد) وقناة (Medi1 TV) التي دخلت ضمن قنوات القطب العمومي، ليصبح المجموع عشر قنوات غير صالحة لأي شيء، وبدون أي تأثير يُذكر بعد أن غرقت في برامج الترفيه، والابتذال، وترجمة المسلسلات المكسيكية والتركية، وإنتاج الرداءة، وصرف الأموال العمومية في صفقات لشركات الوساطة والمناولة كُتب عنها الكثير في الإعلام وتقارير المجلس الأعلى للحسابات، ومازال يكتب عنها دون أن يقول أحد داخل الدولة “اللهم إن هذا لمنكر”!

ولنقيس قيمة ما يُصرف على ما تَحقق من تأثير علي مُستوى الرأي العام الداخلي والإقليمي حتى لا نقول الجهوي، حينها، سنجد أن المعادلة صِفرية. فلم تستطع الدولة المغربية بـ 270 مليون دولار سنويا التأثير في الرأي العام الداخلي والإقليمي بما يخدم القضايا الوطنية المصيرية مثل الوحدة الترابية والدفاع عن المصالح العليا للبلاد، كما لم تقدر بهذه الميزانية و”بجيش عرمر” من الصحافيين والمنتجين والشركات المتعاقدة من توسيع الوعي الجماعي للمجتمع المغربي بما يساهم في تطويره والرقي بذوقه والمساهمة في إدراك مسؤلياته ومعرفة حقوقه وواجباته.

ومع وجود عشر قنوات عمومية أغلبها تبث برامجها 24/24 لم تستطع الدولة المغربية أن تقوم بتصريف مواقفها السياسية – على الأقل – بشكل فاعل في محيطها الإقليمي، مما سمح بتوفير الكثير من الفراغ الذي جعل من قضايا كبرى للمغرب محل مغالطات وبروباغندا طاحنة لـ”اتلاف التاريخ” و”تزويره” بشكل قبيح دون أن يَكون “القطب العمومي” بقنواته قادرا على صياغة “قوة ناعمة” (Soft power) لإقناع المتلقي بوجاهة الطرح المغربي في قضاياه المصيرية مثل الوحدة الترابية.

وإن كانت قطر، مثلا، رفعت ميزانية شبكة “الجزيرة” إلى مليار دولار سنويا، فهي تدرك أن بهذه القناة استطاعت الدفاع عن نفسها بشراسة أثناء حصارها من بعض دول الخليج ومصر، وكانت “تؤلم” أعداءها ببرامج الجزيرة “المحبكة”، وإن كانت مُوجهة، فقد استطاعت الدخول إلى وجدان الرأي العام العربي والعالمي بشكل كبير، وقامت بتأليب الرأي العام الخليجي والدولي على “دول الحصار”، إلى أن ربحت قطر – في الأخير- حربها بدون قاذفات “الباتريوت” ولا طائرا الـ F16، بل “بصندوق الكبريت” الذي يعمل فيه صحافيون بهامش حرية كبيرة وبخط تحرير مُوجه بعناية في صناعة محتوى رفيع ومُحرج للدول التي حاصرت الدوحة، وكانت ملزمة في الأخيرة لأن تبحث عن “صيغة لمصالحتها” لأن قوة أضواء الكاميرات الكاشفة لـ”الجزيرة” كانت أقوى من ثقل دبابات وطائرات والبوارج الحربية للسعودية والإمارات والبحرين ومصر مجتمعة !

كذلك، تفعل العديد من الدول التي تدرك جيدا معنى قوة الإعلام لخلق توازنات سياسية في علاقاتها مع باقي دول العالم كما تفعل فرنسا بإعلامها وشبكة قنوات france24 الممولة من وزارة الخارجية أو كما هو الحال مع “قناة الحرة” الممولة من طرف حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، والموجهة بالأساس إلى العالم العربي.

في المغرب “العقل الأمني” للدولة مازال يشكل هاجسا كبيرا في تدبير الإعلام بشكل عام. ومازالت الدولة تصرف الأموال من أجل أن “لا تثير أي نقاش” بل للمحافظة على “الشخير العام”.
ويكفي أن ندرك أن الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، فيصل العرايشي، مثلا، ظل في منصبه لمدة تقارب 22 سنة دون أن يحاسبه أحد على “صناعة الرداء”.
ومنذ تعيينه سنة 2009 تم أفرخ العرايشي العديد من القنوات التابعة للقطب العمومي وزادت ميزانية هذا القطب وتم صرف ملايير السنتيمات من جيوب المغاربة دون أن يُمنح المغاربة أي منتوج إعلامي يحترم عقولهم أو يرقي ذوقهم أو يقدم لهم وعيا جماعيا بقضاياهم المصيرية، فما أدراك بأن يصبح هذا الإعلام مؤثرا في محيطه الإقليمي والجهوي.

نموذج آخر على إفلاس إعلام الدولة نجده في القناة الثانية 2M التي بلغت مديونيتها 190 مليون درهم، ومازالت يُطالب مديرها، سليم الشيه الذي عين في منصبه قبل 23 سنة (سنة 2008) بالمزيد من الأموال العمومية لضخها في شرايين القناة لتعيش، ولتصنع المزيد من برامج “الترفيه” وترجمة الأفلام التركية والمكسيكية لصناعة ثقافة هجينة للأجيال القادمة من المغاربة.
وإن كان المغرب يبحث عن عقوله المهاجرة في الخارج لتنمية البلد، فهناك من هم في الدولة من تعاملوا بقسوة مع جيل كامل من خيرة الصحافيين ودفعوهم إلى الهجرة القسرية إلى الخارج، وأصبحوا نجوما يصنعون التأثير في الإعلام العربي والدولي، في حين كان من الممكن منحهم الهامش الكافي من الحرية للاشتغال داخل المغرب بعيدا عن “العقول الجافة” التي ترى أن تدبير مصالح البلاد تتم في الغرف المغلقة فقط، وليس في قاعات التحرير كذلك.
اليوم، يجب التخلص من الطريق المسدود الذي تسير فيه الدولة بتكاسل، كما يجب الإدراك أن من يحمي استمرار العرايشي وسليم الشيخ وحسن خيار في مناصبهم لانتاج كل هذه “الفشل” الإعلامي، هو نفسه من لا يدرك أن “الحروب”، أصبحت تدار في القنوات وعلى شاشات التلفزة وداخل قاعات الصحافة الرزينة، ويخوضها إعلاميون بكفاءة وبهامش كبير من الحرية لصناعة إعلام قادر على الدفاع عن القضايا الكبرى لهذه الأمة، وليس بسطحية وببساطة تقرب من التفاهة، مثل حشو العقل الجماعي للمغاربة بثقافة عاطفية سُريالية هَشّة عبر مُسلسلات مترجمة لثقافة دول أخر، بل بإعلام حر يطرح السؤال ويبحث عن الجواب، لأن السؤال دليل وعي، والوعي هو ما يبحث عنه المغاربة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube