“تيران القُرَعْ” والروح الرياضية بين المغرب والجزائر..
يزيد البركة
قليل جدا من يعرف أنني لاعب جيد لكرة لكرة القدم، وهذه المهارة لم أكتسبها من السياسة الطبقية في الرياضة التي تنتهجها الدولة منذ الستينات في مقدماتها الأولى، بل من الرياضة الشعبية التي نشأت وقد فتحت عيناي عليها، حيث كانت في متناولها مساحات مكانية قرب كل حي لممارسة الرياضة، لا يوجد من يراقبها أو يتحكم فيها، ولهذا مثلي ككل الشباب في سني وأنا أسكن في كريان بنمسيك (حي أحد وجهاء الدار البيضاء في القرن التاسع عشر والعشرين الذي يملك حوالي ثمن الدار البيضاء الحالية)، حيث كنت لا أفارق “تيران القُرَعْ” قرب سينما العثمانية التي ستبنى فيما بعد، وهو تيران لم يبق منه شيء الآن. وسمي الفريق بهذا الاسم لأن كل أعضاء الفريق، بدون استثناء، حلقوا رؤوسهم احتجاجا على المستعمر الذي لا يريدون مسايرته في مظاهر تطويل الشعر. حاليا وكلما انتظرت رفيقي منعم أوحتي في مقهى قرب أحد مقرات فريق كرة قدم عتيد يوم السبت أو الأحد صباحا لكي ننتقل إلى اجتماعنا الحزبي بالرباط ألاحظ قدوم آباء أو أمهات بسياراتهم يحملون أولادهم إلى ملعب الفريق القريب من المقهى بعد تناول الفطور، فأقول مع نفسي، هذه هي نتيجة السياسة الطبقية حتى في الرياضة والتي أطلقت مافيا العقار لتأكل كل المساحات التي كانت متنفسا رياضيا لأبناء الشعب الفقراء مثلي وأبناء الشعب ذوي الدخل المحدود.
صحيح لم تتمكن المافيا من التهام كل شيء وصحيح أن الأغنياء لا يمكنهم ولو أرادوا أن يسيطروا وحدهم على الرياضة، بل لا بد من الانفتاح على العمق الشعبي الذي يكافح بكل الوسائل للتأقلم مع الوضع، ولهذا تم الحفاظ على بعض النقاط القليلة دون التهامها وتم خلق سماسرة لاكتشاف المهارات في تلك المساحات القليلة، ولكن لا يمكن مقارنتنا بالبرازيل مثلا في السماح بالمتنفس المكاني المجاني لممارسة الرياضة.
كرة القدم التي كنت أمارسها في تيران القُرَعْ لا علاقة لها بالسياسة، لكن في 1956 سأكلف من طرف سي عبد الله المذكوري الذي كان استقلاليا ووطنيا فذا وهو مدير مدرسة قرية الجماعة الابتدائية بسباتة، وهي القرية التي كانت في طور التكوين إذاك بإلقاء كلمة عيد العرش في تيران القُرَعْ. بعد حوالي عشر سنوات فهمت أن هناك علاقة بين السياسة وبين الرياضة. لكن فهمي لم يكن تاما، لأني نفذت أمر المشاركة الرياضية الذي وردني من القيادة خارج المغرب وأنا في الجزائر في إطار النشاطات الرياضية التي كانت تقام في الحي الجامعي ببن عكنون بالجزائر لعقد علاقات إنسانية مع طلاب جزائريين من اليسار ومع الفلسطينيين الذين بدأوا يتوافدون بالعشرات على العاصمة في 1966..
كان عندي عيب في ممارسة لعبة كرة القدم، وهو أن أضع حاجزا بمرفقيي الإثنين وأنا أجري مع الخصم ويديي عند صدري، ومرفقيي يمنعانه من الاحتكاك بي جسديا، في حين أنه يجب ترك اليدين حرتين، وكنت لا أعرف أن من حق الخصم أن يبتعد قليلا ويصدمك بقوة بكتفيه، كنا نلعب في بنعكنون كرة القدم في ملعب الهوند (كرة اليد) والسقطة فيه غاية في خطورة النتائج، وقد استغل طالب جزائري طريقة لعبي المستفزة وسار معي بعض الخطوات القليلة وبعد ذلك ابتعد وهجم بكل ثقله على جسمي بكتفه وأخرجني من الملعب بحوالي خمسة أمتار، كان من نتائجها كسر في عظم المرفق في عدة أماكن تطلب ضمادة الكسر لمدة من الزمن لم أعد أتذكرها، ولم أجد حتى من يساعدني على أداء ما بذمتي من مصاريف المستشفى العمومي بالجزائر لأن المنحة لم أتوصل بها بعد، وليس هناك من يمكنني الاستنجاد به من عائلتي الفقيرة لأداء ما بذمتي وهذه قصة أخرى ليس هناك حيز لها الآن.
بعد سنوات من الحياة السياسية اطلعت من قراءات عديدة وخاصة أثناء الاعتقال وبعده أن كل التجارب الديكتاتورية تعمل جاهدة، على أن تنهش من كل الحياة المجتمعية وتعبئه في قمقمها من الفلكلور إلى الرياضة.. ولنا فقط أن نستحضر حمولة الكراهية التي كان يحملها فريق ألمانيا أيام هتلر وحمولة الكراهية التي كان يحملها الفريق المضاد أيضا، لنحكم على المخطط له من طرف الامبرياليات الصاعدة آنذاك لتأجيج الصراع، منذ ذلك اليوم الذي وعيت بهاته المخططات، أصبحت أدعو إلى أن تكون القيم الإنسانية هي التي تتحكم في هذه المجالات المختلفة وليست سياسة الدولة أو سياسة المعارضة لأن المعارضة بإبعاد الاستغلال السياسي عن الحقل الرياضي ستكون هي الرابحة إذا كانت فعلا ذات نية حسنة في نضالها.
تابعت مباراة الجزائر والمغرب، ورغم أن المشهد الإعلامي قبلها كان حاميا ومغرضا فقد كان الجمهور المغربي والجمهور الجزائري في قمة هذا التصور الذي عبرت عنه. وقد تعاطفت أشد التعاطف مع الفريقين ومع الجمهورين. كانت هناك بعض الهفوات في التنافس من الفريقين، ولكنها كانت كلها هفوات غير مخطط لها أن تقع، سريعا ما تعود المباراة إلى ديدنها الأصلي الذي يريده الجمهوران : التنافس في حدود حضارية، تحية للفريقين معا وهنيئا للفريق الجزائري المنتصر وتحية للجمهورين والخزي لأي جهة تسعى لأن يتواجه الشعبان في حرب مدمرة ستكون وبالا على الجميع وعلى المنطقة.
انطلاقا من هذه المباراة أقول لمن يزند النار صباح مساء، والله لن تستطيعوا أن تتخطوا الروح الحضارية التي بعثها الفريقان والجمهوران الجزائري والمغربي، وإذا ما تم تخطيها ستكون هاته النار وبالا على من زندها .