ثقافة وفنون

قراءة الواقع العربي من منظور فلسفي

موقع فتح الإخباري

لأن الفلسفة لا تخضع لسلطة التقدّم والتأخّر، ولأن رجالها السابقين في الزمن يمكن أن يصبحوا معاصرين لنا نظراً إلى طروحاتهم، يمكن إعادة صوغ الأسئلة الراهنة في الفضاء العربي بالاقتراب من نتاجهم الفلسفي الذي ورثناه، بخاصة نتاج الفارابي وابن رشد وابن باجة. أسئلة ظلّت نائمة طيلة القرون الماضية، وها هي تستيقظ على وقع الثورات التي يضجّ بها العالم العربي. لكن هذه الثورات ما لبثت أن أصيبت بخيبة أمل.
يكشف المفكر المغربي عزيز الحدادي في كتابه «نهاية الفكر العربي ومولد السياسة المقدسة» الصادر عن دار الطليعة، كيف كان الفلاسفة العرب الثلاثة الفارابي وابن رشد وابن باجة يشتكون في المدن التي أقاموا فيها، من الطغيان السياسي الذي يتخفّى وراء قناع السلطة الروحية، إلى درجة أن هذه السلطة تحوّلت إلى سلطة في يد الفقهاء.
من المؤكّد كما يذكر الحدادي أن الفارابي كان يتأمّل المدينة العربية في عصره انطلاقاً من مفاهيم أفلاطون وسقراط، وقد استفاد من هذه المفاهيم ليكشف عن التأخّر السياسي في البلدان العربية، وكيفية معالجته. لكن، لا أحد كان ينتبه إليه، أو يقرأ نصوصه، لأن المعرفة كما يقول الكاتب المغربي كانت تعيش على الهامش، لأنها في رأي الأسر الحاكمة آنذاك مجرّد إزعاج يجب تجنّبه.
حاول الفارابي في مدينته الفاضلة أن يربط بين المدينة وتجلّيات روح الإنسان في الوجود، فإن كانت جاهلة تكُنِ المدينةُ جاهلة، وإن كانت فاضلة وعالمة، تكُنِ المدينة فاضلة وعالمة. ذلك أن الإنسان في حاجة إلى الاجتماع والتعاون، من أجل أن ينال أفضل كمالاته. هكذا يقدّم الفارابي فلسفته السياسية في إطار تفاعلات الإنسان مع المجال والجماعة التي ينتمي إليها، إذ إن هناك جماعة من الناس استطاعت أن تحقّق كمالاتها بواسطة العمران والحضارة، وهناك جماعة ظلّت متأخرة تعيش بالمنطق القبلي والعقيدي، وتضع حجاباً بينها وبين التاريخ، لذلك ظلّت ثابتة في الصيرورة.
لا يستطيع الإنسان أن يحقّق كمالاته إلا في العيش في المدينة الفاضلة وفق الفارابي، ذلك أن الإنسان من حيث هو كائن سياسي جاء إلى الكون من أجل تحقيق غاية ما، ولن تكون هذه الغاية سوى تعميم الخير والقضاء على الشر، لذلك وجدت العدالة التي تضع حدّاً فاصلاً بين الظالم والمظلوم. بيد أن العدالة في حاجة إلى إطار تتحقّق فيه، ولعلّ هذا الإطار هو المدينة الفاضلة التي تنعم بانعدام الشرور فيها، وإذا وجدت تكون بالعرض، وليس بالذات. ينقل عزيزي عن الفارابي قوله: «المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الإنسان، وعلى حفظها عليه، وكما البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو رئيس هو القلب، كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات وفيها إنسان رئيس».
لا يمكن أي إنسان أن يكون رئيساً للمدينة الفاضلة وفق الفارابي، لأن الرئاسة تكون بسببين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدّاً لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية. هذان السببان اللذان يقترحهما الفارابي لا يتوافران في أي رئيس للمدن العربية، لأنه كما يقول الحدادي: «إذا قمنا بتعداد هذه الأوصاف، فإننا سننتظر استقالة كل رؤوساء المدن العربية». ذلك أن الرئاسة تتحكّم بأرواح الناس الذين يضعون نفوسهم كوديعة عندها، الأمر الذي يجعل من الرئاسة من حقّ نخبة خاصة من الناس. ولا يمكن أن يصير الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة وهي: «أن يكون تام الأعضاء، جيّد الفهم، ذكيا، حسن العبارة، محبّاً للتعلم، غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، محبّاً للصدق، كبير النفس، وأن تكون الثروة هيّنة عنده، ثمّ أن يكون قوي العزيمة.
حاول الفارابي أن يتأمّل المدينة العربية في عصره، هكذا فعل ابن رشد في قراءته لإشكالية السياسة المقدّسة، وصعوبة تشييد الدولة المدنية، فهو لم يتردّد في الإعلان عن رفضه لهذا المزج الخاطئ – كما في أيامنا – بين السياسة المدنية، والأصولية، كما تمثّلت في دولة القوم المعروفين بالمرابطين، إذ كانوا في ابتداء أمرهم يتبعون السياسة المدنية، وذلك مع أوّل القائمين فيهم، يوسف بن تاشفين، ثم ّتحوّل مع ابنه إلى السياسة الكرامية لمّا أصابه هو أيضاً حبّ المال، ثمّ تحوّل مع حفيده إلى السياسة المتسلطة، ففسدت المدينة في أيامه.
يذكر ابن رشد في شرحه على كتاب «الجمهورية» لأفلاطون تحوّل الدولة في أيامه من حال إلى حال، أي من دولة ديموقراطية إلى دولة مستبدّة، فقد خبر هذا الأمر من خلال التحوّلات السياسية الكبرى التي عرفتها الأندلس. كما يجد في شرحه لكتاب أفلاطون، مناسبة لتفكيك بنية السياسة الفاسدة، واقتراحه للسياسة المثلى. ذلك أن مهمة الفيلسوف على ما كان يرى، لا تنحصر في تقديم منظومة معرفية لعصره من خلال تصنيفه للعلوم الضرورية في التربية والتعليم، إنما تسعى إلى هدم سياسة الاستبداد وبناء سياسة الديموقراطية. ولعل ابن رشد لكونه يمارس مهنة القضاء، كان مندفعاً للدفاع عن العدالة في إطار الدولة المدنية، وهي ترجمة لمعنى المدينة الفاضلة التي لا يمكن أن تقوم، إلا حين يتمّ تغيير سياسة وحداني التسلّط بالسياسة المركّبة، أي إقرار مبدأ التعدّد السياسي في لغة العصر الحالي.
يحدث ابن رشد في تناوله للسياسة في أيامه قطيعة إبستمولوجية مع السياسة الميتافيزيقية كما روّج لها الفارابي. ذلك أن سياسة واجب الوجود، أو سياسة المتوحّد، يستحيل تحقيقها في الواقع، لأن المدينة لا يمكن تأسيسها على مقولات الفلاسفة ومن أجلهم فقط، بل يجب أن تشتمل على طبقات الزرّاع والصنّاع والباعة والأطباء والقضاة، لذلك يتعيّن على المفكر السياسي أن يتوجّه بنقده إلى سوء تدبيرها من جانب وحداني التسلّط الذي يبالغ في استعباد سكان المدينة، وأخذ ممتلكاتهم بالعنف.
تحمّس ابن باجة لبناء مدينة الفلاسفة التي أسّسها أفلاطون، وتوسّع في شرحها ابن رشد، وابن باجة الذي لم يسمح بالسكن فيها إلّا لمن تدرّج في مراتب الموجودات القصوى وغمرته السعادة ، أي لمن أصبح فيلسوفاً، ولكن ظروف حياة ابن باجة التي غشاها الكثير من الاضطهاد، حملته إلى ترك مدينة الناس، وتشييد مدينة الفيلسوف الذي امتلك النور الفطري، وسكن في الكون بالرؤيا، وترك للناس ضجيج الحياة والولع بالثروة والسلطة.
يحاول المفكر المغربي في كتابه أن يستفيد من تجربة الفلاسفة العرب لفهم السياسة العربية الحالية في البلدان العربية. سياسة ابتعدت عن الدولة المدنية، ولجأت إلى الدولة المقدسة. ابتعاد لا يساعد على بناء المدينة الفاضلة التي تقوم على أعمدة الفكر الفلسفي، أي الحكمة، وبرهانية التدبير، وأخلاقية العمل السياسي العاقل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube