تقارير

نبذة تاريخية عن التوسع العمراني لمدينة المحمدية خلال المائة سنة الأخيرة ج1

بقلم احمد رباص

يجمع الدارسون لتاريخ مدينة المحمدية على أن تطور النسيج الحضري أو التوسع العمراني الذي شهدته هذه المدينة خلال المائة سنة الأخيرة قد تحقق عبر مسارين مختلفين. فإذا كان المسار الأول قد انطلق من المدينة السفلى (القصبة والمرسى) في اتجاه الشرق وأنشئت بموجبه أحياء العالية، التي حين تعذر عليها الامتداد شمالا ومواصلة انتشارها في نفس الاتجاه الشرقي بسبب الطريق السيار، امتدت شمالا في اتجاه واد النفيفيخ، فإن المسار الثاني اقتصرت حركيته على الساحل الأطلنتي الممتد على مسافة 20 كيلومتر، حيث أقيمت محطات اصطيافية واستجمامية.

  • المسار الأول
    في عهد الحماية، كانت الشركة المغربية الفرنسية لفضالة المؤسسة المالكة للمدينة بدون منافس. وبحكم حصولها على رخصة إدارية أجازت لها التصرف في فضاء الميناء والأراضي المجاورة له، تمكنت من مواصلة الاستيلاء على مزيد من العقارات في شكل هكتارات ممتدة في اتجاه المدينة القديمة (القصبة). وبالإضافة إلى ذلك، قام فرنسيون آخرون باقتناء العديد من البقع الأرضية داخل المدار الحضري الذي كان محصورا في مجال المحمدية السفلى وفي بعض المناطق المشكلة للضاحية.

لقد توخى التصميم الأصلي الذي وضعته الشركة المعمارية (SIF) أن تصبح فضالة مدينة سياحية واصطيافية لقربها من العاصمتين: الاقتصادية والسياسية ولانفتاحها على أهم البوادي المغربية، خاصةالجهة الشمالية لما عرف تاريخيا بتامسنا.

فعلاوة على الشاطئ ورماله الدافئة الممتدة على مسافة طويلة، أنشئت تجهيزات عديدة لجلب الساح الأغنياء، حيث وضعت رهن إشارة الراغبين منهم تجزئات سكنية مجهزة لبناء فيلات باذخة معدة خصيصا لقضاء أيام العطل والتمتع بأمواج البحر ونسائمه، كما أقيمت مرافق الاستقبال كالمقاهي والحانات والمطاعم والملاهي والفنادق (كازينو ميرامار)، فضلا عن المرافق الرياضية التي يرتادها الأغنياء. هذا، وقد وضعت تصاميم المدينة بحيث جاءت حافلة بالمساحات الخضراء والشوارع المزدانة بالأشجار. كل هذه التجهيزات والمرافق أنشئت أصلا لخدمة وراحة الأوربيين، سواء كانوا مقيمين قارين أو زوارا عابرين.

وإذا أمعنا النظر في خريطة التوسع العمراني المحلي، يتبين لنا أن سياسة التعمير الاستعماري واضحة من خلال تصميم مدينة المحمدية. لقد تمثلت تلك السياسة في عزل أحياء السكان الأوربيين عن أحياء سكان الأرض الأصليين وتفضيل الأحياء الأولى على الثانية. وهكذا نجد أن هذه السياسة الاستعمارية كانت وراء ظهور مدن مغربية مزدوجة النمط. هناك، من جهة، أحياء مأهولة بالسكان حد الاكتظاظ ومنزوية داخل أسوار وتعاني من الاختناق لضيق أزقتها وانعدام الفضاءات الخضراء، كما تنفرد بضعف التجهيزات وقلة المرافق العمومية. وكانت هذه الأحياء إلى حدود فجر الاستقلال مكرسة للمغاربة على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وأصولهم العرقية. ومن جهة أخرى، هناك أحياء راقية، يانعة الأشجار، كثيرة التهوية وقليلة الكثافة السكانية، تتوفر على جميع وسائل الراحة والترفيه.

إلى حدود 1924، كانت القصبة مخصصة لإيواء المغاربة في “نوايل” و”براريك” ومنازل صلبة قليلة العدد. وبحلول سنة 1926، لم يبق مكان فارغ داخل أسوار القصبة، فشرع السكان الجدد في تشييد مساكنهم خارج الأسوار في الأراضي المجاورة للقصبة في اتجاه الشرق والشمال على طول سكة الحديد في اتجاه الرباط. أمام هذا الانفجار الديمغرافي الناتج عن تزايد عدد المغاربة داخل المدار الحضري لمدينة فضالة، ومخافة تغيير تصميم المدينة الوربية الجميلة، وجدت السلطة في ذلك العهد الحلول عن طريق إعادة بناء سائر أحياء المغربة داخل القصبة أو في محيطها. فكانت هيكلة الأحياء الداخلية وتم تنفيذ خطة عامة جديدة لا زالت محتفظة بمعالمها الأولى مع تغيير طفيف.

فبعدما وضعت شبكة القنوات الخاصة بصرف المياه المستعملة ومياه الأمطار، شقت الأزقة لعبور السيارات والشاحنات في جميع جهات هذا الحي الداخلي، كما روعيت فيه بعض المرافق الاجتماعية وخاصة الجامع الأبيض الذي كان موجودا قبل إعادة الهيكلة وسط القصبة حيث ترك منعزلا تحيط به من كل جهة مساحة فارغة اتخذت شكل شارع زين زين بأشجار النخيل، كما صممت ساحة محمد بن عبد الله الموجودة بين هذا المسجد والباب الرئيس كفضاء حر تحيط به الماجر ومحلات لتقديم خدمات مختلفة.

وفي سنة 1935، كانت القصبة قد أصبحت حيا سكنيا فيه نوع يمت بصلة للعمارة المغربية التقليدية. معظم المباني فيه لا تتشكل إلا من طابق واحد وهي الآن تتكون من عدة طوابق بعد إعادة بنائها.

إلى الجهة الشرقية، خارج أسوار القصبة، صمم ما كان يعرف آنذاك بالمدينة الجديدة، وهي عبارة عن أحياء سكنية حددت داخل مثلث تحادي قاعدته الجهة الشرقية للقصبة وتنتهي إلى شارع سوس، أما قمته فتتشكل بالتقاء هذا الشارع بمحجة الحسن الثاني.

لم تكن هذه الأحياء المجهزة نسبيا كافية لاستقبال جميع الساكنة المحلية، لهذا امتدت المساحة المغطاة ب”البراريك” و”النوايل” التي تكاثرت في جميع الجهات وخاصةبالقرب من القصبة وفي الأراضي الممتدة شمال وشرق سوق الأحد (المشغول حاليا ببناية المحكمة الابتدائية وحي الموظفين وثانوية ابن ياسين).

لإيجاد حل لهذه المعضلة، تقر إبعاد البراريك والنوايل وجميع أنواع البناء الهشيش ونقلها إلى ما وراء خط سكة الحديد. لقد وقع الاختييار على هذا الموقع لبعده عن المدينة الأوربية ولختفائه وراء المرتفعات التلية المحيطة بالمدينة. ولكي يكون الستر كاملا، غرست الأشجار في شريط أرضي اتخذ شكل حزام أخضر ينطلق من الشاطئ في الجهة الشرقية من المدينة ليصعد إلى قمم التلال وينتهي عند الحي الصناعي في جهة الجنوب ليتصل بغابة مصب واد المالح حيث توجد ملاعب الغولف.

كانت الشركة العقارية لفضالة المشار إليها سابقا هي المهتمة والساهرة على هذا المشروع السكني الضخم، حيث تمكنت من الاستحواذ على مجموع الأراضي المخصصة له وقامت بتجهيزها على جناح السرعة، وشقت الأزقة والشوارع ووزعت البقع الأرضية على حوالي 400 نوالة شيدت بالمواد المستقاة من عين المكان بفضل سواعد وأيدي المساجين والعمال الموسميين. كان من شروط هذه الشركة أن تظل ملكية الأرض في حوزتها وأن تتقاضى ثلثي سومة الكراء من السكان وأن يبقى الثلث الثلث الآخر لصالح الجمعية الخيرية الإسلامية التي أنيطت بها مهمة التأطير ومتابعة إنجاز المشروع. وعلى ذكر هذه المؤسسة الخيرية، نشير إلى أنها انتقلت، قبل موت رئيسها القيدوم، إلى مقرها الجديد المجاور لمقبرة النصارى بشارع الحسن الثاني.

في صيف 1950، كانت العالية المكونة من أحياء “النوايل المحسنة” جاهزة، فألزمت البلدية جميع سكان الدواوير الموجودة داخل المدار الحضري بالانتقال إليها وتم حينذاك إسكان ما يقارب ثمانية عشر ألف نسمة (18.000)، لكن هذا الحل لم يكن كافيالاستقبال جميع سكان البراريك الموجودين فعلا داخل المدين وكذا السكان الوافدين من البوادي، فكانت البلدية مرة أخرى أمام الأمر الواقع، حيث تركت نوعا من الحرية في إنشاء دواوير جديدة من البراريك والنوايل. وما كادت تمضي شهور قليلة على الانتهاء من المشروع السكني للشركة العقارية لفضالة-العالية حتى تشكلت تجمعات كبرى من مختلف أنواع السكن الهش والعشوائي، وأصبح مشروع “النوايل المحسنة” عبارة عن نواة ضئيلة في قلب حزام عريض من “الكريانات” ، وأصبحت التجهيزات القليلة التي وضعت في الأصل لفائدة عدد محدود من السكان تئن تحت ضغط سكان مدينة سريعة التكوين والامتداد ولم تظهر بوادر بناء بناء أحياء صلبة في العالية إلا بعد إحراق “النوايل المحسنة” من طرف سكانها كتعبير عن غضبهم ومشاركة في الأحداث الكبرى التي كان يخوضها الشعب المغربي ضد الاحتلال الفرنسي، خاصة في المدن وذلك مباشرة بعد نفي محمد الخامس وأسرته.

وبمجرد حصول المغرب على استقلاله، أصبحت العالية ورشا كبيرا لتشييد المجموعات السكنية والتجارية ولا زالت حتى اليوم في طور البناءوالتشييد وفي طور محاربة أحياء الصفيح.في هذا الإطار، جاء حي مراكش الذي بنيت منازله فوق أرض كانت تدعى ب”ظهر الدبان” ونشأ حي الحسنية على أرض منبسطة ظلت لحدود أواخر السبعينيات أرضا خلاء فارغة إلا من النباتات الشوكية الفرعة الطول. وأما الأرض المعروفة قديما ب”دار الزيت” والمتميزة بمستوى ارتفاعها عن سطخ البحر، فلم يقع تعميرها إلا مؤخرا، وكذلك الشأن بالنسبة للأراضي التي شيدت فوقها أحياء الرشيدية والحرية والشباب ولاكولين حيث ما زالت ذاكرتنا تحتفظ بصور عنها عندما كانت امتدادا لاستغلاليات وضيعات فلاحية التهمها غول الاسمنت الجبار.

وفي ختام هذا الجزء الأول من هذه الإطلالة التاريخية، يجمل بنا الإشارة إلى أن التوسع العمراني لمدينة المحمدية أدى إلى الإخلال بالتوازن الذي كان معروفا قبل مرحلة الحماية بين البيئة والإنسان. ومن اجل توضيح هذا الاستنتاج، نكتفي بإثارة مشكل تلويث مياه الواد المالح. في سبعينيات القرن الماضي، كان هذا الواد مرتعا للأسماك الصالحة للاستهلاك ومقصدا لهواة ومحترفي الصيد. لكن بعد شق الواد الحار لأحياء العالية تحت شارع المقاومة أنقرضت أسماك الشابل وتلوثت مياه الواد مع أنه كان بالإمكان توجيه المياه المستعملة والعادمة إلى البحر بعد معالجتها وتخليصها من السموم.

وإذا ما قام المرء بجولة تفقدية حول المناطق الخضراء، فقد يخرج بملاحظة وهي أن جلها يعاني من الإهمال وانعدام الصيانة و”المقابلة” مثل حديقة الرشيدية وحديقة الوحدة وحديقة الحسنية. كما أنه يجب على شركة لاسامير أن تضع على عاتقها الاهتمام بكل الفضاءات الخضراء المتواجدة عبر جهات المدينة عوض أن يقتصر دعمها على حديقة المدن المتوامة فقط، ويمكن توجيه النداء عينه للمحطة الحرارية (SNEP)ولكل مقاولة او شركة تساهم في تلويث أجواء المدينة بهذا القدر أو ذاك…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube