أخبار العربمقالات الرأي

عمليات التطبيع ( فلسطين أم البدايات وأم النهايات)

ولا تهنوا فأنتم الأعلون:
ولكن سيبونا من “الحكي الِّلي ما بحبِّل”!
نصار إبراهيم
يخطيء من يعتقد أن تظهير عمليات التطبيع مع أنظمة الخليج هو مجرد عملية استخدام انتخابي تكتيكي من قبل إدارة ترامب. صحيح أنه يمكن توظيف ذلك انتخابيا، لكن المحرك والدافع والأهداف العميقة لا ترتبط بعملية انتخاب رئيس. إنها أبعد من ذلك بكثير، إنها ترتبط بالقراءات والخيارات والأاهداف الإستراتيجية وحراك موازين وتوازنات القوة في الاشتباك الدائر على المستوى العالمي وفي القلب منه الشرق الأوسط بما يمثله من مكانة وثقل جيو سياسي واقتصادي استرتيجي.
بناء على ذلك تجري النقلات، وبناء الأحلاف وإعلانها ارتباطا بالمصالح العليا للدول المقررة، فيما الصغار مجرد أوراق يتم تحريكها وصرفها على رقعة الصراع بلا حول ولا قوة.
إذن “هليلة” التطبيع الخليجي مع إسرائيل بقرار ورعاية أمريكية، هو جزء من صراع أشمل وأكثر تعقيدا، فالتطبيع الخليجي مع إسرائيل حاصل منذ عقود طويلة، أما أن يكون من تحت الطاولة أو من فوقها، فهذا قرار بيد المايسترو ولا علاقة لمشايخ الإمارات أو “ملك” البحرين به.
منذ بداية ما يسمى الربيع العربي وما قبله تركزت الاستراتيجية الأمريكية على تفكيك وتدمير وتقسيم الدول الوطنية العربية (العراق، سورية، ليبيا، اليمن، الجزائر ، مصر، وفي السياق لبنان). عشر سنوات من الاشتباك الطاحن، لكن النتائج، رغم الدمار والدماء، لم تأت كما كان مرسوما لها.
فصمدت الأنوية الصلبة وقاومت، وفي السياق تشكلت أحلاف كبرى بناء على تقاطع المصالح القومية العليا؛
الحلف الأمريكي الاستعماري الإسرائيلي الرجعي العربي وكل من يدور في أفلاكه محليا وإقليميا ودوليا، والحلف الروسي – الصيني – الإيراني وقوى المقاومة والدول الوطنية القومية التي تناهض الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط وفي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وقد تركز مشروع الولايات المتحدة الاستراتيجي على تعزيز الهيمنة الأحادية ووقف اندفاعة الصين وروسيا وتحطيم إيران وتمزيق الدول الوطنية العربية وسحق قوى المقاومة، وحماية أمن وتفوق إسرائيل في المنطقة بصورة نهائية.
إذن تحقيق هذا الهدف يشترط:
أولا: إخضاع وتحطيم وتقسيم الدول الوطنية العربية.
ثانيا: محاصرة وكبح روسيا والصين وإيران وقطع الطريق عليها من خلال منعها من الوصول إلى البحر المتوسط والبحار الدافئة، ووأد مشروع طريق الحرير ، والتحكم بمصادر الطاقة وخطوط نقل الغاز إلى أوروبا ومنع أي دولة خارج السرب الأمريكي من امتلاك التكنولوجيا والتقدم العلمي والاستقلال الاقتصادي.
ثالثا: تصفية وإنهاء القضية الفلسطينية بما تمثله من أبعاد وطنية وقومية، سياسية وأخلاقية ومعنوية وقانونية، وتكريس إسرائيل بصورة نهائية باعتبارها صاحبة الحق الحصري في فلسطين كدولة يهودية وبأمر إلهي. هذا يشترط إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني وإجباره على توقيع التنازل النهائي عن حقوقه في فلسطين. وهذا هو جوهر صفقة القرن بالضبط.
ما حصل أنه وبسبب مقاومة وصمود وتضحيات الحلف المناهض للهيمنة الأمريكية، والرفض الفلسطيني لصفقة القرن تعثر المشروع الأمريكي مما استدعى الانتقال لحركة بديلة، دون التوقف عن الضغط والحصار والتخريب. هنا بالضبط جاء القرار الأمريكي بإجبار شيوخ الكاز جنوبا على إعلان تحالفهم مع إسرئيل كنوع من تكيف وتعويض عن التعثر والفشل في الشمال العربي. هكذا “سقط مبرر دور الراعي التفاوضي الذي كان يتولاه الأميركي لجذب الجزء الأكبر من الشارع العربي خارج خيار المواجهة، كما سقط مبرر بقاء عرب أميركا تحت سقف تسوية يقبلها الفلسطينيون لتجميد انضمامهم إلى خيار المقاومة، لأن كيان الاحتلال بات عاجزاً عن البقاء من دون حماية أميركية لصيقة، تترجمها صفقة القرن التي يعرف أصحابها أنها لن تجد شريكاً فلسطينياً لتكون صفقة قابلة للحياة، لكنها تقدّم الإطار القانونيّ لحماية أميركية لعمليات الضم والتهويد الضرورية لأمن الكيان، وكيان الاحتلال بات عاجزاً عن العيش من دون موارد يجب أن توفرها دورة اقتصادية يكون هو محورها وترتبط بالإمساك بمقدرات الخليج” (ناصر قنديل – صحيفة البناء اللبنانية – 12 أيلول 2020).
إذن بعيدا عن العواطف فإن الناظم الموضوعي للعلاقات بين الدول والقوى يتمثل في المصالح القوميّة العليا لكلّ منها، وبناء على ذلك فإن القيادة الفلسطينية، وبعد أن جربت ما جربت، بما في ذلك تقديم التنازلات والرهانات وعلى مدار أكثر من ربع قرن، تقف الآن أمام سؤال المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، وهو استحقاق لا يحتمل المناورات والرهانات والغمغمات من جديد. فراس فلسطين هو المطلوب دون قيد أو شرط.
أمام هذا الواقع والحقائق فإن الغضب لا يكفي، والإعلانات والتصريحات التلفزيونية والبهلوانيات الديبلوماسية ليس لها قيمة، ولن تجبر مشايخ الخليج على وقف هجومهم على قضية فلسطين وإعلان تمردهم على الأوامر الأمريكية، فهذا الحلف الأمريكي – الإسرائيلي – الرجعي العربي لا يلعب ولا يمزح، إنه يتحرك ويتقدم ميدانيا ويحشد كل أوراق وعوامل قوته ويوظفها بأقصى طاقة دون أن يرف له جفن، وبالتالي فإن مواجهته تشترط تخطى مستوى الغضب والشجب والإدانة باتجاه استراتيجية فلسطينية تعيد بناء الذات الفلسطينية وفقا للمصالح الوطنية والقومية العليا، وعلى كل المستويات: سياسيا، إقتصاديا، تنظيميا، اجتماعيا، كفاحيا، وعلى صعيد التحالفات. أما كيف يتحقق ذلك عمليا، فهذا قيد القيادة والقوى الفلسطينية التي عليها أن تضع رؤيتها واستراتيجيتها بشجاعة ووضوح بعيدا عن الحسابات اللحظية القاصرة، والمصالح الأنانية الضيقة سواء كانت طبقية أو فردية أو تنظيمية أو فئوية.
وعليه: لا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون… كما لستم وحدكم، لكن ذلك مشروط بنهوض العنقاء الفلسطينية، وهذا لن يكون إلا بالقطع الحاسم مع كل الرهانات والغمغمات “والحكي اللي ما بحبِّل”، يعني الحكي الذي ليس له في ميدان الاشتباك والصراع أية قيمة فعلية.
وفي النهاية ستبقى فلسطين أم البدايات وأم النهايات فهل نكون بمستواها!؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube