مقالات الرأي

كانط.. كم هو «مستفز» لمنطق «لا تجادل»

سعيدة الكامل


في حمأة الصراع السياسي وما يُطوَّع من آليات في مضماره، ومن ضمنها قنوات تصريف الدعاية، فإن التلويح خبط عشواء بشعارات ومعانٍ تجري من تحتها غايات أخرى، يصير أسلوبا لقصف الوعي وخلط الأوراق وتحوير الصراع. ولكل ظرفية ترساناتها من القذائف التمويهية التي تجعل الناس يصوبون النظر إلى مكان الانفجار الوهمي أكثر من اليد التي تسببت فيه وما ترمي إليه، وهو أسلوب تبدع فيه الدول ضد منافسيها أو مزعجيها، وفق ما تتيحه سياقاتها الثقافية والسياسية، وما تحبل به ساحتها من عناصر تساعد على ذلك، وقد تكون عناصر اختلاف إثنية أو دينية أو سياسية، كأن تتوفر في البلد طوائف دينية مختلفة، أو جماعات لغوية متعددة، أو هيئات سياسية متضاربة الإيديولوجيات… وذكر الدولة هنا لا يجعل هذا الأسلوب حكرا عليها فقط، إذا كان في مجال سلطتها وجود لآليات تنظيم وازنة مستقلة عنها، مثل أحزاب أو جماعات ضغط، إلا أنها، في السياقات الثقافية والسياسية القريبة إلينا، تبقى هي الفاعل الأول المركزي الذي يجمع بين يديه خيوط كتلة الأجهزة التي تنظم المجتمع وتنظم علاقتها به.

عرى كثير من الباحثين والدارسين أساليب تحوير الصراع في بنيات مازالت تلفظ ثقافة النقد والتفكير النقدي، منها أبحاث من سياقنا الإقليمي القريب إلينا في الثقافة والتشكيلة الهوياتية والأقطاب السياسية والإيديولوجية، فحين كان النقد، بأشكاله السلمية المتعددة، يحوز القدرة على التأثير في قضية من القضايا التي تعني الدولة أو جهازا من أجهزة سلطتها الضاربة، كانت تنعطف بشكل فجائي السجالات التي تذكي أو تتغذى من الاختلافات الإيديولوجية؛ بين الإسلاميين والعلمانيين مثلا، أو بين مجموعات لغوية أو إثنية مختلفة أو طوائف دينية إن وجدت. لا يعني هذا أن بذور الاختلاف التي تغذي صراعات إعلامية وغيرها بين هذه الفرق غير موجودة، لكن زاوية التحليل في هذا المقام تركز على توظيفها لتطوير صراع فرعي لما تكون السلطة أو آلية من آلياتها تحت ضغط حركة نقدية؛ آراء يعبر عنها حملة فكر، أو مواقف تصرفها هيئات سياسية أو نقابية أو إعلامية، وبذلك يستعاض عن توفير فضاءات لتدبير الاختلاف والتعبير عنه بطرق للجمه عبر تحوير النقاش أو وجهة النقد الأساسية، وقد توظف المؤسسات كذلك، ويصير من الطابوهات انتقاد أدائها أو أداء مسؤوليها الأقوياء، وبدل ثقافة حماية المؤسسات، قد تكرس ثقافة الاحتماء بالمؤسسات عمليا، وهو تحوير يحدث في البنيات التي مازالت ترفض النقد، من الحلقات الأولية في بنية السلطة إلى أكثرها تعقدا.. من الأسرة إلى آليات العصر الحديثة للتنظيم المجتمعي، وهناك دراسات عديدة في منطقتنا حول هذا الموضوع، ضمنها ما تدفق من كتابات عن الواقع التونسي قبل 14 يناير 2011.
من نافلة القول أن ممارسة التفكير النقدي من الهبات الفلسفية التي أحدثت تغيرات كبرى في تقدم المعرفة وتنظيم الحياة البشرية، وأنه لا يمكن أن تتقدم أي بنية، مهما كانت، إذا لم تحتضنها في مناهجها التربوية ودورها الثقافية والإعلامية. ويظهر من خلال بعض النماذج أنه كلما اشتدت السلطوية تفكيرا وأسلوبا للتدبير، كثرت شيطنة النقد وتغليفه بما يجعل منه منبوذا، وقد يصل الأمر إلى أبعد من الشيطنة، إذا ما صار للخطاب النقدي تأثير على مصلحة أي سلطة أو مصلحة النافذين بها، وفي تاريخ البشرية حكايات تراجيدية خالدة عن علماء فلك ومفكرين وفلاسفة، ممن قادهم تشبثهم بأسلوب تفكير نقدي إلى المقصلة أو إلى المنفى، ومنهم من أٌحرِق جسده، ومن أحرقت كتبه، ومن حوكم، ومن حكم عليه بإقامة جبرية قبل قرون خلت…
ويعد إيمانويل كانط من أكبر العقول التي أسست منظورا فلسفيا نقديا مازالت البشرية تناقشه إلى حدود الآن، واستفادت منه في بناء المؤسسات والمواطنة وبناء مفهومي الحق والواجب، وكانت مقالته «ما التنوير؟» للجواب عن سؤال «ما التنوير؟»، الذي وضعه راهب يدعى تسولنر سنة 1783، في هامش من مقال نشره بمجلة برلين، ثورة في مجال بناء الوعي، وبناء فرد جديد يتمتع بالحرية والإرادة، وإبداع أسلوب تدبير جديد عقلاني ونقدي يضع هندسة الخطوط الدقيقة بين مجالات الحرية والانضباط بشكل يحرر الفرد ويقوي أداء المؤسسات بما يخدم المصلحة العامة. «لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك الخاص»، هذا هو شعار «التنوير» باختصار للمعنى المكثف في مقالة كانط، أي، كما يقول، الخروج من حالة القصور التي قد تجلب على الفرد الوصاية جراء عدم التجرؤ على استخدام عقله دون توجيه من الآخر، وهو، أي ذاك الشعار، عملية لا تتطلب، في نظر كانط، إلا الحرية، وهي الغاية الأسمى للتغيير من خلال تأسيسه مدرسة قوية البنيان في التفكير النقدي. «الحرية المقصودة هي استخدام أفكار متجددة في كل المجالات»، وما يمكن تسميته «حرية» هو أن يكون الفرد قادرا على استخدام عقله الخاص علنيا في كل الأمور، «لكنني لطالما سمعت هذه الجملة على كل لسان: «لا تجادل!». الضابط يخبرني: لا تجادل. نفذ، كن مثل الآخرين منصاعا. جامع الضرائب يقول: لا تجادل، ادفع. رجل الدين يقول: لا تجادل، آمن»، يقول كانط في نهاية القرن الثامن عشر، موضحا أن في كل حرية تقييدا، ولكن؛ أي تقييد يعوق التنوير؟ وأي تقييد لا يعوقه، أو بالأحرى يفيده؟
وفي الجواب فصل كانط أن استعمال الإنسان عقله استعمالا عموميا يجب أن يكون حرا، وهو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى تنوير الناس، أما استعماله الخصوصي فيمكن غالبا تقييده بصرامة شديدة، والمجال الخصوصي هنا يتعلق بأداء وظيفة داخل مؤسسة ما، وتقييد هذه الحرية يكون بالشكل الذي يخدم الصالح العام، أما الاستعمال العمومي للعقل، فيجب أن يكون حرا، وهو ذلك الاستعمال الذي يقوم به فرد ما بصفته رجل فكر، مثلا، أمام جمهور يتكون من القراء مثلا. التمييز بين الاستخدام الخاص للعقل والاستخدام العام، هو التمييز الذي نحت ما صار يعرف بـ«المجال العمومي» أو «الفضاء العمومي» بفضل اجتهاد الفيلسوف هابرماس في نظريات التواصل.
كانط، الذي دافع بقوة عن الجرأة في استخدام العقل وعن التفكير النقدي، مازال يعترف له كبار مفكري وساسة الغرب حاليا بفضله على أوروبا في الخروج من ظلمات سطوة الاستبداد الدوغمائي إلى تحرير الوعي أفرادا ومؤسسات، وهو الفضل الذي كان لرواد من ثقافتنا كذلك، لعل أبرزهم ابن رشد، ومازالت مقالة «ما التنوير؟» منارة للفكر الإنساني، تتأرجح بين بلوغ حد أكبر من درجاتها في سياقات، والسقوط في درك ما تجاوزه التاريخ في سياقات أخرى.

حينما تكون البنية متشبعة بالتفكير النقدي، تربية وممارسة، وتكون قد انتقلت إلى مرحلة فيها سلطة وسلطات مضادة فعلية، بإعلامها المستقل وأدوات عملها المدني والفكري، فإن عملية تحوير الصراع تكون أقل تكلفة على وعي المواطن وحقه في المعرفة، ويكون له ملاذ يحمي وعيه من استبداد ماكينة توزيع رأي واحد يراد له أن يكون هو السائد، وحينئذ تفقد حتى أساليب التحوير الكثير من فاعليتها، لكن حينما تكون البنية لا تحبل بهذه التوازنات، بين آليات التعبير الرسمية وغير الرسمية، فإن المواطن يبقى ساحة غزو دعائي بلا دروع مضادة، وقد ينجب دروعا بشكل قسري، وقد لا تنجو هي الأخرى، وهي تحاول إزالة غشاوة تضليل غالب، من ممارسة تضليل مضاد.
وفي مثل هذه البنيات يصير استفزاز عقل السلطة لتنتبه إلى وضع ما أو مآل ما كأنه جريمة، ويصير رسم صورة كاريكاتورية تضع المجهر على العيوب، عملا يلقى عليه وسم «الاستهداف» و«التبخيس»، في حين لا يُنتبه إلى أن من يركز نظره فقط على الجميل في ملمح ما أنه يجعل الصورة كاريكاتورية كذلك. إنها في الجوهر عقلية مازالت تبخس قيمة الحق والواجب معا، وترى في الحق منة يجب أن يشكرها عليها سائلها، بل وأن يتجاوز الشكر إلى الانصياع التام، وترى في الواجب تطوعا نفسيا قد يؤدي النقد إلى توقف صاحبه عن أدائه، وهي عقلية تلخص علاقة المسؤول بالمواطن، لا تستوعب بما تعنيه المسؤولية ولا ما تعنيه المواطنة، لذلك، ترى كل قرع للأجراس استفزازا بالحمولة الشخصية، في حين أن كلمة استفزاز حين تتعلق بالأفكار والنقد البناء هي عمل إيجابي ومطلوب لتخصيب النقاش العمومي، أو لفت الانتباه إلى خطر ما، مادام لا يتعرض للأشخاص بالتجريح أو التشهير، لكن هناك من يرى الأصبع لا ما يشير إليه، والنكتة المغربية معروفة في هذا الباب.

نقلا عن جريدة أخبار اليوم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube