
د. عبد الرحمان غندور
لم أكن يوما صحافيا، ولكني كنت دوما مواطنا منخرطا في كل ما يعرفه وطني، وكان الاعلام الورقي قراءة وكتابة منبري الذي أتغذى منه وأغذيه، وهذا ما يحتم علي أمام هذه الفضيحة المدوية التي يتحدث عنها الجميع حتى أخرست جيش الطبالين الذين لا وجه لهم، أن أكتب رأيي، تعبيرا عن وطنيتي ومواطنتي باستحضار شيء من الماضي الذي لن يعود حتما، ولكنه يلهم العقل في كيفية التعامل مع الحاضر البئيس.منذ تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية في 25 نوفمبر 1961، في مناخ سياسي واجتماعي حساس، حيث كان المغرب حديث العهد بالاستقلال وكان المشهد السياسي والإعلامي يعرف تحولات كبرى. فجاء تأسيسها كإطار نقابي يهدف إلى توحيد صوت ناشري الصحف المستقلة والدفاع عن مصالحهم المهنية والاقتصادية في مواجهة التحديات الجديدة.وعلى مدى عقود، توالى على رئاسة النقابة عدد من الشخصيات الوطنية والإعلامية البارزة الذين قادوا مسيرتها في ظروف تاريخية جد حساسة. وكان المرحوم عبد الرحيم بوعيد أول رئيس لها عند التأسيس، ليحمل معه أعباء المرحلة التأسيسية بكل ملابساتها، ليأتي بعده رجال وطنيون من العيار الثقيل.
حتى أتى زمن الانحدارات والانبطاحات والانهيارات. وطوال مسيرتها، خاضت النقابة الوطنية للصحافة المغربية معارك نضالية متعددة الجبهات. ففي عهد الملك الحسن الثاني، كانت في قلب المواجهة، تدافع عن الصحف المعارضة وتواجه سياسات التضييق والمنع والمصادرة، وترفع الصوت ضد الرقابة القبلية والبعدية، وتحتج على اعتقال ومحاكمة الصحفيين بسبب آرائهم. وكانت المطالبة بإصلاح قانون الصحافة وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر محورًا أساسيًا من محاور نضالها.لطالما مثلت النقابة الوطنية للصحافة في المملكة المغربية صوت الصحافيين الجماعي المناضل من أجل حرية التعبير والمدافع عن حقوق العاملين في هذه المهنة المتعبة حقا. فقد تشكلت هذه النقابة في سياق تاريخي معقد، حيث كانت الصحافة تواجه تحديات جسيمة بين رهانات التعبير الحر وضغوطات النظام السياسي. ومن رحم هذه التحديات ولدت النقابة، حاملة معها حلم جيل كامل من الصحافيين الذين رأوا في التنظيم النقابي خطوة لا غنى عنها لتحقيق الاستقلالية والوقار.هكذا كانت النقابة الوطنية للصحافة مرآة لتطور المهنة نفسها، فمع كل تغيير في المناخ السياسي، ومع كل تحول في ميزان القوى الاجتماعية، كانت تختبر دورها من جديد. فمرت بفترات قوة وجرأة، حيث كانت صوت المطالبة بالحريات ورافعة لواء المغايرة، وأخرى من الضعف والانقسام، حيث هيمنت الخصوصيات الشخصية والانتماءات على حساب الرؤية الجماعية. ولكنها، برغم ذلك كله، ظلت المكان الأوحد الذي يلتقي فيه الصحافيون ليناقشوا همومهم المشتركة.لقد شكلت النقابة الوطنية للصحافة المغربية دائما الإطار النقابي الرئيسي والشرعي للدفاع عن الصحفيين في المغرب. ومواقفها تمحورت باستمرار حول الدفاع عن الحريات الصحفية وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للصحفيين. وواجهت في ذلك تحديات كبيرة، آخرها ما نشهده اليوم بسبب التحولات في المشهد الإعلامي (الصحافة الرقمية، الأزمات المالية للجرائد الورقية) واستمرار وجود قوانين وتطبيقات تقيد حرية التعبير.وبعد عقود من الكفاح المتواصل في دفاعها عن حرية التعبير واستقلالية الإعلام، شهد المنظومة الصحفية المغربية منعطفاً خطيراً مع تحول النقابة الوطنية للصحافة إلى المجلس الوطني للصحافة، وهو تحول لم يكن مجرد تغيير شكلي في التسمية، بل كان تحولاً جوهرياً في الماهية والمبادئ والوظيفة. لقد كانت النقابة الوطنية للصحافة تمثل عبر تاريخها الطويل قلعة منيعة للدفاع عن حقوق الصحفيين، وحصناً أمامياً في مواجهة كل أشكال التضييق على الحريات الصحفية. وكانت مساحات نقابتها ملاذاً آمناً للتداول في هموم المهنة ومخاوفها، وساحة خصبة لبلورة مواقف موحدة إزاء التحديات التي تواجهها، حيث كانت المصلحة الجماعية للصحافيين هي القاسم المشترك الأعلى، والأخلاقيات المهنية هي البوصلة الموجهة لكل القرارات.لقد حملت النقابة لواء الدفاع عن الصحفيين في أحلك الظروف، وواجهت بصمود محاولات تدجين الإعلام وترويضه، وكانت صوتاً مدوياً يرفض الرقابة الذاتية والخضوع للأجندات. كما كانت تلك الحقب السابقة تتسم بروح جماعية مفعمة بالإيمان بدور الصحافة كسلطة رابعة، وكمرفأ أخير للحقيقة في زمن تكاثرت فيه الأصوات الزائفة. فكانت القرارات تتخذ بناء على مبادئ واضحة وشفافة، حيث المساءلة والمحاسبة تنبعان من داخلها، انطلاقاً من إيمان راسخ بأن السلطة الأخلاقية لأي هيئة صحفية تنبع من نزاهتها واستقلاليتها أولاً. فجاءت الرحلة نحو المجلس الوطني للصحافة، لتكون محطة تاريخية فاصلة في مسار المهنة بالمغرب. ولم يكن الانتقال مجرد تغيير في التسميات، بل كان تجسيدا لرؤية جديدة تنحو نحو تحويل الهيكل النقابي التقليدي إلى مؤسسة دائمة، تجمع بين خصائص الهيكل التمثيلي وسلطة الهيكل القانوني. وكان الهدف وراء هذا التحول هو تجاوز بعض الإشكاليات التي عانت منها النقابة، مثل الانقسامات والانحسار أحيانا في دور المطالبة، إلى دور أكثر فعالية في ضبط أخلاقيات المهنة وحماية حريتها والدفاع عن الصحافيين.هذا الانتقال لم يكن خاليا من التحديات. فقد أثار احتداما جدليا بين مؤيد رأى فيه تقدما نحو مهنية القطاع وتعزيز الاستقلالية، ومحذر من أن يؤدي إلى تأويل الدور النقابي وإضعاف روح المقاومة الجماعية التي ميزت النقابة في أحلى أيامها. فكان السؤال الذي طرح بقوة هو: هل سيتمكن المجلس الجديد من الجمع بين سلطة التنظيم والقانون، وبين حماس وجرأة الدفاع النقابي عن الحقوق؟لكن المشهد أخذ في التغير مع الأسف، عند هذا التحول إلى المجلس الوطني للصحافة، الذي بدا منذ البداية وكأنه يحمل في جيناته بذور الانحراف عن المسار النضالي التاريخي. فبدلاً من أن يكون امتداداً طبيعياً لتلك الروح النقابية الأصيلة، تحول المجلس تدريجياً إلى كيان بيروقراطي مغلق، يفتقر إلى الآليات الديمقراطية الحقيقية، ويعاني من غياب الشفافية في صنع القرار وتنفيذه. حتى أصبح المجلس أشبه ببرج عاجي منعزل عن هموم الصحفيين اليومية، ومشاغلهم الحقيقية، بينما كان من المفترض أن يكون بيتاً لهم جميعاً، يجسد طموحاتهم ويحمي مكتسباتهم.لكن الأخطر من ذلك، أن هيئة الأخلاقيات والتأديب داخل هذا المجلس، التي من المفترض أن تكون حارسة لقيم المهنة وضميرها الحي، أصبحت نفسها موضع شك واتهام، بلغت إلى حدود الإدانة الجماعية، كما كشفت ذلك التسريبات الأخيرة التي عرت بما لا يقبل الشك عن تخل صارخ عن المبادئ الأخلاقية التي أنشئت من أجلها. هذه التسريبات لم تكن مجرد فضائح عابرة، بل كانت كاشفاً قوياً عن انهيار المنظومة القيمية من داخلها، حيث تحولت هيئة الأخلاقيات إلى أداة للقتل وتصفية الحسابات وتكريس الانحياز، وتنفيذ التعليمات الصادرة عن جهات بعيدة عن الصحافة، بل وإقحام القضاء في هذه التصفيات، بدلاً من أن تكون منصة للعدالة النزيهة والمساواة بين جميع الصحفيين.
لقد أصبحت الأحكام التأديبية ذات طابع انتقائي، تخضع للأهواء والولاءات، وتفتقر إلى أبسط معايير الموضوعية والإنصاف.هذا الوضع لم يعد يحتمل الصمت أو التأويل، فالمجلس الوطني للصحافة، أو لجنته المؤقتة التي لا شرعية لها، في وضعهما الحالي لم يعودا قادرين على تمثيل الصحافة المغربية، بل أصبحا عبئاً عليها، وعائقاً أمام تطورها.
إن استمرارهما في هذا المسار لن يؤدي إلا إلى مزيد من التآكل في مصداقية المهنة برمتها، ويحول دون قيام صحافة حرة مستقلة ونزيهة، تكون صوت الشعب ومرآة المجتمع. من هنا تأتي ضرورة الدعوة إلى حل هذا المجلس ولجنته المؤقتة وجميع لجانه. وهي دعوة لا ترمي إلى الفوضى أو التراجع، بل إلى التصحيح والمراجعة، والعودة إلى الجذور النقابية الأصيلة.إن الحل الأمثل يكمن في العودة إلى العمل النقابي المسؤول، القائم على المبادئ المهنية والأخلاقية والديموقراطية الراسخة، بعيداً عن التبعية والوصاية.
فمهنة الصحافة بحاجة إلى إعادة تأسيس كيان نقابي حقيقي، ينبثق من إرادة الصحفيين الأحرار، ويخضع لمحاسبتهم، ويكون أداة فعلية لحماية الحقوق والدفاع عن الحريات، وليس أداة للتقنين والتحكم. كيان يجعل من الأخلاقيات المهنية مرجعيته العليا، ولا يتنازل عن استقلاليته لأي جهة كانت. إنها لحظة تاريخية لتجاوز هذا الواقع المأزوم، والانطلاق نحو بناء نموذج نقابي جديد، يستلهم روح الماضي النضالي، ويتسلح بإرادة الحاضر، ويتطلع بمهنية عالية وأخلاق راسخة نحو مستقبل أفضل للصحافة المغربية.



