فضاء الأكادميين

هل يتذكّر لشكر المنطلق النقدي للاتّحاد الاشتراكي؟

البروفيسور محمد الشرقاوي ـ واشنطن

أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا

في ذكرى بن بركة: الحلقة 4
في بداية السّتينات، كان التّباري بين ألمعية بن بركة وألمعية الحسن الثاني ينطوي على عدّة أوجه للتّوظيف أو الاستغلال الأيديولوجي لخطابيْ الاشتراكية والليبرالية المعلنتين. فبقدر ما كان بن بركة يستغلّ ماركس استغلالا تكتيكيا كما لاحظ عبد الله العروي، كانت للحسن الثاني اجتهادات في تركيب ليبرالية مرنة في أعين الخارج ومحافظة في الداخل. فعمل على تنويع الساحة الحزبية بأحزاب نخبة أطر أو تكنوقراط أو أحزاب إدارية، مثل “الفديك” و”التجمع الوطني للأحرار”، وأحزاب القاعدة الشعبية وفق ما نظّر له “موريس ديفرجي” في كتابه “الأحزاب السياسية” الصادر عام 1951. كما تشبّع الحسن الثاني بأفكار المنظر الدستوري ورئيس كلية باريس جورج فوديل في إضفاء مظهر دستوراني على المؤسسات والقوانين واللوائح المغربية. وتمكّن من الجمع بين اتجاهيْن متوازييْن: تحيين السياسة حداثياً مقابل استدامة الحكم تقليدياً.
فوجد المغرب ذاته ولايزال بين المنزلتين، بين دساتير متجدّدة، وبرلمان، وأحزاب، ووزارات، وقضاء متعدّد الدرجات، ومجالس حكامة، ومؤسسات عصرية أخرى من جهة، وشبكة الشيوخ، والمقدمين، والعدول، والزوايا، والولاءات القبلية من جهة أخرى. في خطابه في الثامن عشر من نوفمبر 1962، قال الملك الحسن الثاني “إنّ الدستور الذي صنعتُه بيديّ، هذا الدستور الذي سيبث غدا في مختلف ربوع المملكة والذي سيعرض في أجل عشرين يوما على مصادقتك، هذا الدستور هو قبل كل شيء تجديد للميثاق المقدس الذي ربط دوما الشعب مع الملك، والذي هو شرط نجاحاتنا.”
تمّت هندسة آليات اتّخاد القرار وتنفيذه بين مخزن المركز أو مخزن القرار ومخزن الهوامش أو مخزن الإسناد. وتحرّكت العملية بين المخزن العمودي القائم في الرباط والمخزن الأفقي الممتدّ إلى شتّى الأطراف النائية في المغرب عبر ضوابط الرقابة والرقابة على الرقابة حول مركزية الولاء للعرش. فأصبحت العقيدة الدستورانية للمغرب بين المنزلتين، بين محاكاة المؤسسات الغربية في شكلها وتكريس ما يقترب من صيغة مغربية من نسق الأحكام السلطانية التي وضعها الماوردي. ويذكر محمد حسنين هيكل في “كلام في السّياسة” أن جلّ الملوك العرب ومنهم الحسن الثاني طالعوا كتاب “الأمير” لميكيافيلي. وخصّص هيكل فصلا في كتابه للحسن الثاني بعنوان “الحسن الثاني قرأ ميكيافيلي أميرا وطبّقه ملكا”. ويروي الحسن الثاني في “ذاكرة ملك” أنه طالع كتاب ميكيافيلي أكثر من مرّة. فكان مغرب الاستقلال ولا يزال يرتدي البذلة وربطة العنق الباريسية تارة، والجلابة السياسية تارة أخرى، حسب تقديرات الموقفين الخارجي والداخلي.
الاتحاد الاشتراكي وحقبة الابتكار السياسي
قد يتذكّر ادريس لشكر كيف ساهم المنطلق النقدي الذي كان يتبنّاه الاتحاد الاشتراكي إزاء تطور أداء الدولة وتشنجّها أحيانا والترهيب والترغيب وأيضا لجوئها إلى أسلوب المضايقات والاعتقالات. وكيف كانت الخصومة الأيديولوجية بين أروقة الحكم ومواقف بوعبيد وبن جلون واليوسفي بمثابة حافز لقوة ابتكارية للتنافس في بلورة الرؤى وتجديد الخطاب بين معارضة وحكم، بين يسار ويمين، وبين مشروع حداثة ومنظومة محافظِة. ولم يتأتّ هذا التحوّل في أداء الملكية وامتداد اليسار أو انكماشه بين الخمسينات ونهاية القرن العشرين إلا بجدلية التقابل والتنافس، أو ما أسمّيه وقود الابتكار السياسي. فكلّما ازداد ذلك الوقود الحيوي في دينامية التفاعل بين الدولة والاتحاد الاشتراكي وبقية مشارب اليسار، تفتّقت الأدمغة، وتنوعّت المنطلقات، وتحرّكت سيارة المغرب إلى الأمام على الطريق السريع.
لكن عند شحّ ذلك الوقود، يضعف العقل السياسي لدى أجهزة الدولة وتضمحلّ نخبة اليسار، فيتعالى سهم الحلول الأمنية، وتهوي مطرقة اطحن مّو، و اسجن موّ، وقلّب مّها”، وصرفق مّه، على منصّات القضاة، وتتكرّر سرديات الرّدع القانوني في المحاكم وسجلات وزارة الداخلية، وعلى صفحات المبشّرين بمغرب العصا الأمنية، وتبريرات حفدة مصطفى العلوي في دار البريهي بعدائية وتخوين “مغرب الشعوب” في الداخل وليس بالضرورة في الخارج. فيتعثّر تحرّك السيارة قليلة الوقود في خزانها بين حراك وآخر، بين إضراب وآخر، وبين يأس في الداخل ونقمة شتات ريفي في الخارج، قبل أن تأتي جائحة كورونا بفتح من السماء فتُرسي فلسفة الحجر الصحي أرضية مناسبة لبدء عهد جديد: أمْنَنَة المرحلة وتعميق الفجوة بين الدّولة والمجتمع.
في ظلّ غمامة كورونا، تجتهد السلّطات المركزية في تعزيز قوّة الردع الأمني داخليا وتؤكد لنفسها أنّها لا تزال صاحبة الحل والعقد، والقادرة على التحكم في الشارع، وفي المقهى، وفي الجامعة، وفي المجتمع المدني، وفي تلفزيون أخبار “نجوم الأولى” وتصريحات “العام زين”. لكن ماذا يمكنها أن تقول حول قدرة البلاد عن الردع الوبائي والحاج للانتعاش الاقتصادي في مغرب 2020 والسنوات المقبلة؟ وقد يزيد الدرك والشرطة من حواجز المراقبة والتحكم عند مدخل كل مدينة من الشمال والجنوب ومن الغرب والشرق، لكن تأمل وجوه السائقين بسرعة دون العشرين كيلومترا في الساعة لا يوقف الإرهابي الجديد: كورونا المراوغ. ومع اتساع نطاق انتشاره، يتجدّد توظيف خطاب الاستثناء المغربي بالتلويح بفرض الحجر باكرا، ثم تجميد العمل بالدستور وإلغاء القوانين، ومدّ يد “المقدمين” و”القياد” وبقية من يستأنس في نفسه “عظمة” رجال السلطة.
في فترة التيهان السياسي، قد يحنّ السيد لشكر إلى العصر الذهبي للكتلة التاريخية التي قد تتبرّأ من شطحاته الرّاهنة. ويلاحظ أحد المراقبين المتشبعين بالرّوح الاتحادية بنسعيد الركيبي أن لشكر “لم يميّز بين فترتين: الفترة التي كان فيها الاتحاد قويا، وكان بالإمكان التغلب على كل الإكراهات لأنه بقدر ما كان الإخوة في التنظيم يدخلون في صراعات داخلية، كان هناك أمر يوحّدهم، وهو الصراع مع الخصوم، ومع النظام والفاسدين، صراع من أجل الطبقات الشعبية الفقيرة.” غير أن هذا الصراع لم ينكفئ على نفسه، بل انتقل إلى الداخل بغية “التدافع نحو تحقيق أكبر حجم ممكن من المصالح.”
غاب أغلب قياديي الحزب عن احتفالية الرباط في أكتوبر الماضي، وتردّد صدى أقوال بعض العقلاء منهم بين قلة الحاضرين. فقد وقف محمد اليازغي ذات يوم يوجّه حديثه إلى إدريس لشكر والحبيب المالكي رئيس اللجنة الإدارية للحزب بنبرة صارمة: “لا مصالحة إلاّ بعد أن تقولوا للاتّحاديين وللمغاربة الذين بهدلتموني أمامهم. لماذا انقلبتم عليّ؟ من أَمَرَك بذلك؟ ماذا جنى الحزب من وراء ذلك؟ ألم تُدخلو الحزب في نفق مظلم منذ ذلك الوقت.” هي ثلاثية الحسم: “لا مصالحة؟… من أَمَرَك؟… ماذا جَنَى الحزب؟” من رجل واجه السّجن والطّرود الملغومة، قالها في ساعة الإصرار على الحقيقة. هكذا رمى الزعيم البرغماتي السابق للحزب الكرة ملتهبة في الحِجْرِ الأخلاقي والسياسي لرجليْن قرّرا تحويل قاطرة الحزب من “المنهجية الثورية” و”المنهجية الديمقراطية” نحو “المنهجية المنفعية”. وخلف تلك الثلاثية “اليازيغية”، يزداد السخط والإحباط بين الاتّحاديين من المحصلة النهائية سياسيا وثقافيا ومجتمعيا. وقد ترقى المفارقة المثيرة إلى انفصام شخصية الحزب بين حيوية شابّ يافع ونافع كان في أيام عنفوانه وتعاسة شيخ منهك يقبل الأمر الواقع دون مشاكسة أو تحفّظ.
الهوية السوسيولوجية لاتحاديّي الموالاة
جسّدت السبعينات والثمانينات فترة الذروة في تأثير الاتحاد الاشتراكي داخل المجتمع المغربي أكثر من السياسة. وتأرجح عدد المقاعد التي كان يحصل عليها في مجلس النواب نزولا وهبوطا عبر عدة محطات انتخابية. وشكّلت النخبة المتعلّمة بمن فيهم الأساتذة وطلاّب الجامعات والمعاهد العليا الأغلبية بين صفوف قياداته ومناصريه. كان الحزب يستقطب الأطر وأغلب نواة الطبقة المتوسطة، فضلا عن لُباب النخبة المتعلّمة وسائر الفئات التي لمست في خطابه وبرامجه الانتخابية روح الالتزام الفكري ونظافة اليد السياسية. فكان مدرسة فكرية قبل أن تكون سياسية. وقف عبد الرحيم بوعبيد في مؤتمر الحزب عام 1978 يقول “إنّنا مناضلون ثوريون حقّا، ولكنّنا لسنا محترفين سياسيين، ولسنا مغامرين ولا متاجرين في الشّعارات.”
ثمة قرينة بين حيوية الحزب والجمع في عضويته ودائرة مناصريه بين فئتين اجتماعيتين رئيسيتين: أبناء الطبقة المتوسطة بمن فيهم أساتذة وطلاب الجامعات، وأبناء الطبقة العاملة من عمال وحرفيين، فيما واجه منافسة مع حزب الاستقلال في استقطاب تأييد الفلاحين وأرباب الضيعات الزراعية. وشدّد عمر بن جلون في تقديمه التقرير الإيديولوجي خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاستثنائي للحزب في العاشر من يناير 1975 في الدار البيضاء على أنّه “حركة يحضر مؤتمرها الفلاح الذي قاوم توغل جيوش الاحتلال في الربع الأول من القرن (العشرين)، والعامل الذي حمل السلاح للإطاحة بنظام الحماية، والشباب الذي يناضل الآن من أجل التحرير والبناء الاشتراكي.” واختزل ما كان يتعطش له شباب المغرب وقتها من أجل الانسجام الفكري “إما نحو نماذج اشتراكية مجرّدة وتقليد تجارب الشباب الأوربي الثائر، وذلك باسم الماركسية اللينينية. وإما نحو البحث عن نموذج المدينة الفاضلة في عهد عمر بن الخطاب والانغماس في الطرقية والصوفية التي يصرف فيها يأسه وطاقته. وإمّا نحو اللامبالاة وموقف المتفرج اليائس.”
اكتسب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يساريَ التوجّه وحداثيَ الخطاب مكانةً متميزةً في المخيال السياسي العام، ومثّل للكثير من المغاربة رمزية النضال اليساري، أو نموذجا مبدئيا prototype، للصفوة الفكرية والسياسية التي كان يرنو إليه أغلب شباب المرحلة. فكانت السياسة امتدادا للمعرفة لدى شخصيات جمع أغلبها بين البعد الأكاديمي والحماسة لتغيير سلوك السلطة. وغدت أدبيات الحزب وخطابه العام بمثابة تقليعة أو “موضا” العصر. فكان طلاب الجامعات وسائر المثقفين يميلون إلى استخدام مفردات وعبارات قريبة من لغة خطباء الحزب وقاموس الجابري، لكي تنمّ أحاديثهم عن أنهم يَسَاريون ويُسَايرون منطق العصر. وكانت الأجهزة الأمنية تتعقّب من يتداول “الكتب الحمراء” كناية عن مؤلفات الماركسية اللينينية، فيما شكل اقتناء صحيفة التحرير، وبعدها المحرّر، أمَارَةً على تصنيف الشخص ضمن خانة “خلايا يسارية”.
كان فكر الاتحاد مرادفا لتطلّعات أغلبية الجيل آنذاك بموازاة ما تنبّه إليه الجابري من تقابل سوسيولوجي وفكري بين “بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “حديثة” تجد تعبيرها الأيديولوجي في فكر النخبة العصرية وطموحاتها” وبين “بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية “تقليدية” تجد هي الأخرى تعبيرها الإيديولوجي في فكر النخبة التقليدية ومخايلها.” وظل الاستقلاليون متأرجحين بين الأصالة والحداثة. كان أغلب الاتحاديين على وعي بضرورة تغليب الحداثة على التقليدانية دون التفريط فيها. فشدّد الجابري على أنّ “أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابها الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، “العصرية” منها و”التقليدية”، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد… صفوف المصلين.”
كان النّبض الاتّحادي قويّا في القلب المغربي سياسيا وثقافيا خاصة في حقبة السبعينات. وامتدّ هذا النَّفَسُ النقدي إلى عمق التراث من أجل تجديده بما يعزّز الهوية المغربية في زمن العنفوان. وشهدت الجامعات والمعاهد العليا، وحتى الثانويات، زخم الفكر اليساري الوطني. كان الاتحاد الاشتراكي بمثابة ناس غيوان السياسة، وظهر أكثر من “ناس غيوان”، وأكثر من حرّاز، وأكثر من قمر أحمر في سائر الفنون والآداب والأشكال التعبيرية الأخرى، وفي تمثّلات ملايين الشباب وقتها لما هو مغربي خالصٌ أصيلٌ ومعاصر. كان الطيب الصديقي مثلا يتملّس طريقه في المسرح نحو إيجاد مغزى ما قصده الجابري بسؤال “كيف نستعيد مجد حضارتنا؟ و كيف نحيي تراثتا؟”، وكيف “الخروج من القراءة السلفية للتراث”، وكيف تتوافق أطروحة نحن والتراث مع الدعوة إلى القطيعة الإبستمولوجية. هكذا حقق الاتحاد الاشتراكي ذاته بتقديم وقود الابتكار الثقافي والإبداعي والمجتمعي.
شكّلت الرّؤية النقدية التي نادى بها المهدي بن بركة وعلال الفاسي منطلقا تنظيريا تنويريا تشبّع به أيضا محمد الفاسي الذي تولّى رئاسة الجامعة المغربية من 1958 إلى 1978. وكان أيضا أوّل وزير تعليم في مغرب الاستقلال ورئيس المجلس التنفيذي في اليونسكو بين عامي 1958 و1968. ويتذكّر محمد بلبشير الحسني الذي تولّى المديرية العامة للتعليم عام 1962، العبارة الشهيرة لعلال الفاسي “عرّبنا القضاء، وسنبدأ إن شاء الله في تعريب التعليم”. وساهمت رؤية الانفتاح العلمي في نشاط شعبتي الفلسفة وعلم الاجتماع التي تدفق حضور الطلاب إليهما في مدرجات الكليات في الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش وغيرها. غير أن هذه التخصصات التي تنم عن معرفة نقدية للبنيات والمؤسسات والسلطة، ويكثر فيها الأساتذة من أعضاء الاتحاد الاشتراكي مثل الجابري وجسوس، كانت مثار إزعاج لأجهزة الدولة المركزية.
نحو معادلة النبوغ المغربي
كان لمثقفي الاتحاد الاشتراكي صوتٌ جهورٌ داخل اتحاد كتاب المغرب، الذي كان يجسد المنصة الإبداعية الأكبر عند تقاطع الأدب والفكر والسياسة. ورغم التنافس مع مثقفي “الاستقلال” على قيادة هذا الاتحاد الأدبي، كانوا جميعا ضمن كوكبة أحزاب المعارضة “صاحبة المصلحة الحقيقية في دعم المثقفين والمبدعين ومساندتهم لها في معاركها السياسية المحتدمة مع النظام، مستثمرة القوة الرمزية لحملة الأقلام ومنتجي الأفكار وصناع المعرفة، في بيئة سياسية لم تكن ناضجة وواضحة بالكامل خلال سنوات البناء الوطني الأولى”، كما يتذكّر الصحافي المتجوّل بين حلقات الأدباء وجلسات السّاسة محمد بوخزار.
هي جدلية مثيرة بين توهّج الاتحاد الاشتراكي ومبدئية السياسة وإشعاع الثقافة. غير أن هذه الحصيلة الهيغيلية تراجعت للأسف في العقدين الأخيرين بعد أن غلب منطقُ السياسة على الولاء للمجتمع. ولا غرابة أن تنحدر الأمور إلى صراعات القيادة عند غياب الزعامة. فجسّد المؤتمر الذي عقده اتحاد كتاب المغرب في طنجة عام 2018 أفول نجمه وفتور إصداراته نتيجة ما يعتبره الأديب أبو يوسف طه “دُنُوَّهُ من السلطة، واستئثارا بيّنا بالمنافع، إسوة بما عليه وضعية الهيئات الحزبية والمنظمات الثقافية التي توالدت بشكل مطرد. الآن، أصبح الاتحاد يتحرك في إطار التلاؤم والمواءمة، على حساب تاريخ من المعارضة ظل يمارسها مستظلاً بالحماية التي تآكلت على نحو متدرج.” هكذا تتجسد القرينة العضوية بين حيوية السياسة وحيوية الفكر والإبداع من عدمهما حسب وفرة أو شحّ وقود الابتكار الثقافي. وتكشف المحصلة القرينة العضوية بين تراجع الأحزاب وتراجع اتحاد كتاب المغرب بعد أن “انتقل من الخضوع للأحزاب إلى الخضوع للسلطة. فتحوّل إلى مسخ ثقافي في بلد يتزايد فيه الطلب على دور المثقفين بسبب الأزمات وغياب الرؤية السياسية والثقافية للإصلاح والتغيير”، كما يلاحظ ادريس الگنبوري.
انعكس الزّخم الفكري لدى الاتّحاديين والاستقلاليين أيضا في حركة النشر. وكانت المجلات الرصينة منها #أنفاس التي أصدرها من اعتبروا أنفسهم “فدائيين لغويين” عام 1966، وأقلام التي أسّسها عبد الرحمن السطاتي وابراهيم بوعلو عام 1972، و#تكامل_المعرفة التي بدأها محمد عزيز الحبابي عام 1967 ثم حوّلها إلى دراسات فلسفية وأدبية عام 1976 باسم جمعية الفلسفة في المغرب، وكذلك الملحقات الثقافية الرصينة في المحرّر و العلم” تستقطب فئات واسعة من القرّاء داخل المغرب وخارجه. وكانت الافتتاحيات النقدية في الصحف اليومية توحي بطبيعة النبض السياسي في المغرب سواء بأسماء حقيقية أو حركية لمثقفي المرحلة. لكن زخم تلك الكتابات تراجع إلى حد كبير، وأصبحت صحف الأحزاب حاليا بمثابة “كنانيش صفراء”، كما يقول الصديق المقيم في بروكسيل عبد العزيز سارت الذي يحنّ دوما إلى حقبة التنوير المغربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube