ترامب والمحافظون الأوروبيون: تحالف يعيد رسم مستقبل القارة

بقلم د ادريس الفينة
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، شرعت إدارته على الفور في تعزيز علاقاتها مع الحركات المحافظة واليمينية في أوروبا، في محاولة لإعادة صياغة المشهد السياسي للقارة وفقًا لرؤيته القومية. لم يعد هذا التقارب مجرد تواصل عابر للأطلسي، بل أصبح مشروعًا سياسيًا ممنهجًا يهدف إلى تفكيك النظام الليبرالي الأوروبي، والحد من نفوذ المؤسسات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ودعم القوى القومية التي تتبنى سياسات حمائية ومتشددة تجاه الهجرة والاقتصاد العالمي. في ظل هذا التحالف المتنامي، تجد أوروبا نفسها أمام أسئلة جوهرية: هل سيدفع دعم ترامب إلى انتخابات مبكرة في دول مثل فرنسا؟ هل ستشهد ألمانيا تحولًا محافظًا لا رجعة فيه؟ وما هي التداعيات المحتملة لمثل هذا التحالف على استقرار الاتحاد الأوروبي؟لم يخفِ ترامب إعجابه بقادة اليمين المحافظ في أوروبا، مثل مارين لوبان في فرنسا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا، وقيادات حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD). يتبنى هؤلاء القادة خطابًا سياسيًا مشابهًا لترامب يركز على السيطرة على الهجرة، والسيادة الوطنية، والتشكيك في فاعلية الأطر متعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي والناتو. يسعى ترامب إلى تعزيز زخمهم السياسي من خلال وسائل متعددة، منها الدعم الدبلوماسي العلني، والتأييد الإعلامي عبر منصات مثل “إكس”، والتأثير غير المباشر عبر مراكز الفكر المحافظة وشبكات الضغط العابرة للأطلسي. الهدف النهائي لهذا التحالف يتجاوز مجرد كسب شركاء سياسيين في أوروبا؛ فهو يسعى إلى إعادة تعريف العلاقات الأميركية-الأوروبية بحيث تتحول من شراكة قائمة على المؤسسات متعددة الأطراف إلى تحالفات ثنائية مبنية على العلاقات المباشرة بين واشنطن والعواصم المحافظة. وبهذا، يعمل ترامب على إضعاف بروكسل كمركز قرار، ودفع الدول الأوروبية إلى تبني سياسات أكثر استقلالية تتماشى مع رؤيته القومية.تبدو فرنسا الساحة الأكثر ترجيحًا لاختبار مدى تأثير ترامب على السياسة الأوروبية، حيث يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون أزمة حكم مع تراجع شعبيته، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، وتزايد الغضب الشعبي بسبب الأزمات الاقتصادية، وأزمة البطالة، وتحديات الهجرة. في ظل هذا الوضع، تمكنت مارين لوبان من استغلال هذه التوترات لتعزيز نفوذ حزبها، التجمع الوطني، الذي يقدم نفسه كبديل وطني قادر على استعادة فرنسا من قبضة النخب الليبرالية. قد يؤدي دعم ترامب، سواء عبر تصريحات مباشرة أو عبر حملات إعلامية غير مباشرة، إلى تعزيز موقف لوبان، مما يزيد من الضغوط الداخلية لإجراء انتخابات مبكرة. في حال تحقق هذا السيناريو، يمكن أن تجد فرنسا نفسها في خضم انتخابات رئاسية استثنائية بحلول 2026، ما قد يمهد الطريق لوصول لوبان إلى السلطة، الأمر الذي سيؤدي إلى تغييرات جوهرية في موقف باريس من الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، والسياسات الاقتصادية والهجرية. تحول فرنسا نحو نهج قومي أكثر تشددًا قد يسرّع تفكك النظام الليبرالي الأوروبي، ويمنح ترامب حليفًا قويًا في القارة.في ألمانيا، تتجه الأمور نحو تحول سياسي أكثر بطئًا ولكن بنفس الدرجة من الأهمية. يتراجع نفوذ المستشار أولاف شولتس بفعل الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار الطاقة وتحديات البيئة والهجرة، مما دفع حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) إلى تحقيق مكاسب متزايدة، خصوصًا في الولايات الشرقية، حيث يزداد السخط الشعبي على السياسات الليبرالية. ورغم أن AfD لا يزال منبوذًا سياسيًا من قبل الأحزاب الرئيسية، إلا أن صعوده المتواصل يجعله لاعبًا رئيسيًا في الانتخابات المقبلة. إذا شهدت انتخابات 2025 الفيدرالية تقدمًا للمحافظين، فقد تجد ألمانيا نفسها أمام حكومة أكثر يمينية، بقيادة تحالف بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU/CSU) وقوى يمينية أخرى، مما قد يؤدي إلى إعادة توجيه السياسات الألمانية بشكل جذري.إذا تحقق هذا السيناريو، فمن المحتمل أن يعيد ترامب صياغة العلاقات الثنائية مع برلين بعيدًا عن الأطر الأوروبية، ما قد يؤدي إلى تراجع التزامات ألمانيا بأهداف المناخ الأوروبية، وتبني سياسات أكثر صرامة تجاه الهجرة، وتعزيز التحالف مع الحركات القومية الأخرى في أوروبا. مثل هذه التغيرات قد تؤدي إلى انقسام أعمق داخل الاتحاد الأوروبي، وتضعف قدرة بروكسل على فرض سياساتها الموحدة. في الوقت ذاته، قد يشكل صعود الحكومات المحافظة في أوروبا تحديًا مباشرًا لمفهوم التضامن الأوروبي، حيث ستزداد النزعات القومية وستتجه الدول نحو إعطاء الأولوية لمصالحها الوطنية على حساب السياسات الجماعية.إذا نجح ترامب في تعزيز التحالف مع المحافظين الأوروبيين، فقد تواجه القارة تحولًا سياسيًا غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة. من المرجح أن نشهد ظهور كتلة جديدة من الدول القومية التي تفضل التعامل مع الولايات المتحدة على أساس ثنائي، مما قد يقلل من فاعلية الاتحاد الأوروبي كمؤسسة جامعة. تداعيات هذه التحولات قد تكون بعيدة المدى، حيث يمكن أن نشهد تغيرات في السياسات الاقتصادية والتجارية، مع اتجاه أوروبا نحو تبني نهج حمائي شبيه بسياسات “أمريكا أولًا”، وتزايد التوترات مع الصين وروسيا، حيث قد تتبنى الحكومات المحافظة مواقف أكثر عدائية تجاه بكين وموسكو، ما قد يزيد من حدة الاستقطاب العالمي.مع احتدام هذه التحولات، تجد أوروبا نفسها أمام صراع أيديولوجي حاد. في مواجهة صعود المحافظين ودعم ترامب لهم، تسعى القوى الليبرالية بقيادة ماكرون وشولتس للحفاظ على نموذج الاتحاد الأوروبي كنظام وحدوي يدعم التعددية الاقتصادية والسياسية. لكن مع تصاعد نفوذ اليمين القومي وتزايد الدعم الأميركي له، يصبح الحفاظ على هذا النموذج أكثر صعوبة. السؤال الأهم الآن هو: هل يستطيع التحالف الترامبي-الأوروبي إعادة رسم المشهد السياسي للقارة، أم أن قوى المقاومة التقليدية ستنجح في الحفاظ على النظام القائم؟ ما هو مؤكد أن السنوات القادمة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل أوروبا، حيث تتأرجح القارة بين نهضة قومية يقودها ترامب وحلفاؤه، وحلم الوحدة الأوروبية الذي يواجه أصعب اختبار له في تاريخه الحديث.
