مقالات الرأي

كتبت رفيقتي لطيفة البوحسيني، تدوينة قصيرة تقول (( بعد الفضيحة إياها التي أكدت طبيعة النسق ومعضلة الفساد البنيوي الذي يمس الجميع، لم يعد خيار لكل التيارات إلا التلاقى في جبهة عريضة ))

دددد

د. غندور

وتوضيحا لهذا الخيار الذي قد يرى فيه البعص وهما غير قابل للتحقق، ونرى فيه تجديدا للأحلام والآمال المجهضة، والتي أشارك المناضلة لطيفة وغيرها من الوفيات والأوفياء في الحلم بمغرب آخر أرى أن الأمة المغربية تمر في منعطف من أخطر منعطفات تاريخها الحديث، تشبه فيه مركباً يعبر عاصفة هوجاء، تتهدّده أمواج متلاطمة من الأزمات العميقة. وأن فضيحة الفيديوهات الأخيرة، وما شابهها من فضائح، كفضائح الصفقات المعلومة، وتدبير مالية المغرب في مكاتب الشركات القابضة، والصناديق السوداء البعيدة عن كل مراقبة، قد دمرت آخر رواسب الثقة في المؤسسات، ولم تترك هذه العاصفة مؤسسة إلا ونجّستها، من التشريعية إلى التنفيذية إلى القضائية، وامتدّت يدها الباطشة لتشلّ فاعلية التنظيمات السياسية والنقابية والجمعوية، ومسحت من الوعي الجمعي فكرة أن الخلل في فرد أو مؤسسة، لتكشف أن النظام برمّته يعاني من فساد بنيوي متغلغل، أصبح سمة لصيقة بالنسق القائم، يمسّ الدولة والمجتمع معاً، كالسرطان الذي ينخر الجسد حتى يعجز عن المقاومة.في هذا المشهد الكابوسي، حيث استنفدت النخب كل خياراتها، وجرّبت كل الوصفات الجاهزة، من المشاركة في اللعبة السياسية التقليدية إلى المقاطعة، ومن المواجهة المباشرة إلى الانكفاء على الذات، لم تعد هناك سوى مساحة واحدة لم تُجرّب، مساحة تبدو للكثيرين وكأنها حلم مستحيل، ولكنّها في الواقع الخيار الوحيد الذي لم يُختبر بعد، وهو الخيار الذي يقتلع جذور المشكلة من أساسها. لم يعد الأمر يحتاج إلى إصلاحات ترقيعية أو تغييرات سطحية، بل إلى مقاربة ثورية في التفكير والعمل.الحلّ الوحيد الذي يبقى أمام الوطنيين والمتنورين والإصلاحيين، من كلّ الأطياف، هو تجاوز ذلك الحلم القديم بالوحدة الذي ظلّ يراوح مكانه بسبب العقلية القبلية والانتماءات الضيقة. لم يعد مقبولاً ذلك التشرنق داخل هويات سياسية أو إيديولوجية متحجّرة، اليسار المتعصب لليسارية، والإسلامي المتعصب لإسلاميته، والليبرالي المتعصب لليبراليته. لقد أثبتت التجربة أن هذه التخندقات لم تنتج سوى مزيد من التفتيت، ومزيد من العجز، ومزيد من الهزائم أمام نسق فاسد يزداد قوة وتغولا كلما تفرقت السبل بأهل الإصلاح.إنّ المخرج يكمن في بناء جبهة عريضة، لا تقوم على أساس إيديولوجي ضيق، بل على أساس مشروع وطني جامع. جبهة تجمع كل التيارات الوطنية والديمقراطية والتقدمية والإسلامية واليسارية، ليس على أساس تذويب الخصوصيات، بل على أساس تجميد عناصر الاختلاف مؤقتاً، والبناء على عناصر التلاقي. إنها جبهة لا تطلب من الاشتراكي أن يتخلى عن اشتراكيته، ولا من الإسلامي أن يتخلى عن إسلاميته، بل تدعو الجميع إلى وضع قضية إنقاذ الوطن فوق كل اعتبار، والاتفاق على حد أدنى مشترك من المبادئ والأهداف.هذا الحد الأدنى لا بدّ أن يكون مشروعاً مجتمعياً جديداً، يتجاوز الأطروحات الجزئية التي أثبتت فشلها. مشروعاً يضع نصب عينيه بناء دولة ديمقراطية حقيقية، لا ديمقراطية الصورة والشكل، بل ديمقراطية المضمون والجوهر، حيث تكون السيادة للشعب، ويُحترم فيه الفصل الحقيقي بين السلطات، وتكون العدالة مستقلةً نزيهة. مشروعاً يضمن الحد المعقول من الحريات الفردية والعامة، لا حرية الفساد والإفساد، بل حرية الفكر والإبداع والمبادرة. مشروعاً يحقق العدالة الاجتماعية، لا بمعنى التوزيع العادل للفقر، بل بمعنى خلق ثروة حقيقية وتوزيعها بعدل، وتوفير الكرامة للإنسان المغربي في صحته، وتعليمه، وعمله، وسكنه.ولا يمكن لهذا المشروع أن يرى النور إلا من رحم حوار وطني صادق وشامل، ليس حوار النخب في الصالونات المغلقة، بل حوار القواعد في كل مدينة وقرية، حوار يسمع صوت الشباب المحبط، والمرأة المهمشة، والعامل المحروم، والفلاح المنسي. حوار لا يبحث عن انتصار تيار على آخر، بل يبحث عن نقطة الالتقاء التي تجمع كل الوطنيين على كلمة سواء.هذه الجبهة الواسعة، وهذا المشروع المجتمعي الجامع، هما وحدهما القادران على تعبئة الطاقات الشابة الهائلة المغيبة، والقوى الحية في المجتمع المغربي التي أنهكها اليأس. إنهما يمثلان الأمل الوحيد للدخول في جيل جديد من النضال، ليس نضال التصارع والتناحر، بل نضال البناء والتشييد. إنه الطريق لانتشال المغرب من النفق المظلم الذي يعيش فيه، نحو فجر جديد، يُعيد للوطن اعتباره، وللمواطن كرامته، وللجماعة الوطنية وحدتها وغايتها المشتركة. إنه الخيار الأخير، ولكنه الخيار الوحيد الذي يحمل في طياته بذور الأمل والنجاة والخلاص.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID