دونالد ترامب وثمن الأخطاء الاستراتيجية

بقلم د ادريس الفينة
بعد شهرين من عودته إلى البيت الأبيض، يبدو أن دونالد ترامب لم يعد فقط بصفته الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، بل عاد هذه المرة بعباءة جديدة: عباءة المنتصر الذي يسعى لتصحيح ما يعتبره “أخطاء النظام” و”تشوهات الدولة العميقة”. لقد منحه الشعب الأمريكي فرصة ثانية، مدفوعة بقناعة راسخة لدى شريحة واسعة من الناخبين أن الرجل، رغم الجدل، يمثل الأمل الوحيد لإعادة أمريكا إلى مسار “العظمة”.ترامب، بقاعدته الانتخابية الصلبة والمتحمسة، جاء ببرنامج طموح يُعيد صياغة العلاقة بين الحكومة والسوق، ويعزز من مفهوم السيادة الاقتصادية، ويعيد ترتيب الأولويات على الساحة الدولية. لكن بعد شهرين فقط من الحكم، بدأت مؤشرات مقلقة في الظهور: الطريقة التي يقدم بها الرئيس أفكاره، والمقاربات الاتصالية التي يستخدمها، غالباً ما تعطي نتائج عكسية، على الرغم من أهمية الأفكار ذاتها.ففي ملفات حساسة كالهجرة، الضرائب، سياسة المناخ، أو العلاقات مع الصين، يطرح ترامب توجهات جريئة، بل ضرورية في نظر بعض الخبراء، إلا أن تقديمها يتم بطريقة تصادمية تثير مخاوف حتى داخل معسكره. هذا الأسلوب لا يخدم التنفيذ الذكي للبرنامج، بل يعمّق الاستقطاب، ويعطي معارضيه فرصة ذهبية لتعبئة الرأي العام ضده.في هذا السياق، يبدو جلياً أن الرئيس ترامب في حاجة ماسة إلى فريق نخبوي من الخبراء في إدارة تنفيذ الاستراتيجيات الكبرى، تحديداً خبراء في مجال PMO (مكاتب إدارة المشاريع)، القادرين على تحويل الرؤية السياسية إلى برامج قابلة للتنفيذ بدقة، وبأقل تكلفة سياسية ممكنة. فإدارة الولايات المتحدة، بثقلها المحلي والدولي، لا تحتمل التسرع ولا العشوائية في التنزيل.الأخطاء الاستراتيجية، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، قد تُحدث أثراً تراكميًا خطيراً في البيئة المعقدة التي يتحرك فيها ترامب. فالخصوم يترقبون، والمؤسسات تراقب، والرأي العام يختبر كل خطوة. وأي زلة سياسية أو قرار غير مدروس قد يتحول إلى بداية كرة ثلج تتدحرج بسرعة خارجة عن السيطرة، تؤسس لمعارضة أكثر شراسة، داخل وخارج أمريكا.وما يزيد من حجم التحدي أن البيئة الدولية نفسها لم تعد كما كانت خلال ولايته الأولى: الصين أكثر اندفاعاً، أوروبا أكثر بروداً، والحرب في أوكرانيا أكثر تعقيداً، أما الشرق الأوسط، فيعيش على وقع تحولات جيواستراتيجية كبرى. وفي مثل هذا السياق، لا يكفي أن تكون للرئيس أجندة قوية، بل يجب أن تكون محصنة بخطاب دقيق، وقرارات محسوبة، وتحالفات متجددة.على ترامب، في هذه المرحلة، أن يُدرك أن القوة لا تكمن فقط في اتخاذ القرار، بل في طريقة اتخاذه، وذكاء توقيته، وفعالية آلياته التنفيذية. فالمشهد السياسي الأمريكي لا يُدار بمزاجية، بل بحسابات دقيقة، تتطلب الانفتاح على النخبة، وتوسيع دائرة التشاور، والتخلي تدريجياً عن أسلوب الصدمة كوسيلة دائمة للسيطرة.بعد عودته إلى الحكم، ترامب أمام فرصة تاريخية لإثبات أنه ليس فقط زعيم حركة سياسية صاخبة، بل رئيس دولة يُحسن تدبير التعقيد، ويعرف كيف يُنزل مشروعه الوطني بحنكة ومهنية. وإذا لم يُحسن إدارة هذه المرحلة، فإن الأخطاء الاستراتيجية قد تكون هذه المرة مكلفة، ليس فقط له، بل لمستقبل التجربة الأمريكية نفسها.