سياسةمقالات الرأي

المقالة الثّالثة: المواجهة المباشرة بين الدّولة والشّارع 

بقلم: محمد بلعيش

إنّ مهامّ الأحزاب السّيّاسيّة هي: تأطير المواطنين، وتكوينهم سيّاسيّا، مع تعزيز انخراطهم في الحياة الوطنيّة وتدبير الشّأن العام. والمفروض أنّ هذه الواجبات الدّستوريّة كما نصّ عليها الفصل السّابع من الدّستور، هي مسوّغات الاستفادة من دعم الدّولة. ولأنّ المناسبة شرط، فقد خصّصت حكومة السّيّد سعد الدّين العثماني مبلغ 36 مليار سنتيم لتمويل الحملات الانتخابيّة للأحزاب والنّقابات برسم استحقاقات 8 شتنبر 2021. لكن على الرّغم من كلّ هذا الاهتمام الظّاهر الذّي توليه الدّولة للأحزاب السّيّاسيّة أو النّقابات، فإنّ الواقع يقول أنّنا أمام أحزاب سيّاسيّة فاقدة للمصداقيّة. 

• الحركات الاحتجاجيّة بديلا عن الأحزاب السّيّاسيّة:

ظهرت في العقد الأخير الكثير من الحركات الاحتجاجيّة بمطالب اجتماعيّة واقتصاديّة وسيّاسيّة لا يستهان بها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حركة 20 فبراير، وحراك الرّيف، وجرادة والفنيدق. وإذا استثنينا حركة 20 فبراير الّتي جاءت في سياق تحوّلات إقليميّة -الرّبيع العربي- فإنّ الاحتجاجات الأخرى ظهرت نتيجة انسداد الأفق الاقتصادي في المناطق الحدوديّة للمملكة. لأنّ سكّان هذه المناطق كانوا يعتمدون كثيرا على التّهريب في لقمة عيشهم. وعندما تصدّت الدّولة لهذه الظّاهرة دون أن تطرح بدائل اقتصاديّة، كان طبيعيّا أن يتسبّب ذلك في الاحتقان الاجتماعي ويخلق أزمة كبيرة. بل كاد ذلك أن يضع السّلم الاجتماعي على كفّ عفريت. فحراك الرّيف استمرّ لأزيد من سبعة أشهر، بدأ بمقتل تاجر السّمك محسن فكري رحمه الله في شاحنة للنّفايات، وانتهى باعتقال قادة الحراك والحكم عليهم بأحكام وصلت ل 20 سنة نافذة. وحراك جرادة بدأ بوفاة الشّقيقين نجدوان والحسين الدعيوي بعد انهيار منجم مهجور للفحم، واستمرّ لأكثر من أربعة أشهر.

إنّ المشترك بين الحراكين (الحسيمة وجرادة)، هو أن أنّهما اندلعا بسبب وفاة مواطنين بسطاء يسعون إلى لقمة العيش ليس إلّا. وأنّ السّلطات المعنيّة تعاملت بتعالي نوعا ما مع الحادثتان في البداية. فإذا كان تأخر اسعاف الشّابين في جرادة هو السّبب، فإن عبارة “طحن مو” هي الّتي أشعلت الشّرارة في الحسيمة. بمعنى آخر فإنّ الاختناق الاقتصادي كان قد بلغ ذروته، وأنّ الوفاة كانت هي القشّة الّتي قصمت ظهر البعير كما يقال. وهذا ما يفسّر التّضامن الشّعبي مع الحراكين على المستوى الوطني ككلّ. 

الملاحظ هو أنّ كلّ هذه الأشكال النّضاليّة، لم تسمح للأحزاب السّيّاسيّة بتأطيرها، أو الحديث باسمها، أو القيّام بدور الوساطة بينها وبين الحكومة. بل اعتبرتها جزء من الأزمة وليس الحلّ. وكان واضحا ارتباك الأحزاب السّيّاسيّة بكيفيّة التّعامل مع هذا الوضع المحرج. وأحيانا انزلقت لتدخل في صدام مباشر مع هذه الاحتجاجات كما هو الحال بالنّسبة لحراك الرّيف الذّي التهمته أحزاب الاتلاف الحكومي بالانفصال.

• التّنسيقيّات بديلا عن النّقابات:

سيرا على نهج الأحزاب السّيّاسيّة، لم تستطع النّقابات مسايرة إيقاع التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي يعرفها المغرب. وباتت عاجزة، ليس فقط عن طرح حلول للإشكاليّات، بل أيضا عن أخذ مسافة فاصلة بينها وبين الأحزاب السّيّاسيّة الّتي تمثّلها. وهذا أضرّ بقدرتها التّفاوضّية مع السّلطة من جهة، وبمصداقيّتها مع المجتمع من جهة أخرى. هذا التّيه النّقابي، فتح الباب على مصراعيه أمام ظهور نضالات فئويّة اتخذت شكل تنسيقيّات للدّفاع عن مطالبها بعيدا عن النّقابات. كانت البداية بالجمعيّة الوطنيّة لحملة الشّهادات المعطّلين بالمغرب، في القرن الماضي، لكن خلال العشريّة الأخيرة، امتدّت إلى مجالات أخرى كالتّعليم، والصّحة مثلا. فظهرت تنسيقيّة طلبة الطّب، والأساتذة المتعاقدون، وموظفو وزارة التّربية الوطنيّة حاملي الشّهادات إلخ. هذه الأشكال النضاليّة الجديدة تجاوزت الركود الّنقابي بل وحتّى السّيّاسي، وصارت “تيرمومتر” حقيقي لقياس الاحتقان الاجتماعي. 

• السّيبة مرّة أخرى:

سنة 2020 وجد المغاربة أنفسهم أمام مشهد مرعب من الحي الحسني بمدينة الدّار البيضاء، حيث هجم المواطنون على بائعي المواشي، وسرقوا كلّ ما وصلوا إليه من الأغنام من أجل شعيرة عيد الأضحى. نفس المشهد سيتكرّر في السّوق الأسبوعي للخضروات بمدينة القنيطرة سنة 2022. والضّحيّة في كلتا الحالتين كان هو الفلّاح البسيط. إنّ هذا السّلوك المرشّح للتّكرار يسائل منظومة القيم أوّلا ثمّ الوعي السّيّاسي ثانيّا ببلادنا. فالمغاربة سبق أن مرّوا بأزمات خانقة سواء بسبب الاختيارات السّيّاسيّة والاقتصاديّة للحكومات المتعاقبة أو بسبب التقلّبات المناخيّة، ولم يسجّل عنهم التّاريخ أنّهم قاموا بالاعتداء على ممتلكات الغير تحت ذريعة غلاء المعيشة.

سيبة الأسواق هاته، تقابلها سيبة من نوع آخر، ألا وهي سوء التّصرّف في المال العمومي، دون تفعيل المبدأ الدستوري” ربط المسؤوليّة بالمحاسبة”. هناك تقارير سنويّة ينجزها المجلس الأعلى للحسابات كهيئة عليا لمراقبة الماليّة العموميّة، لا ترى النّور إلى ردهات المحاكم. ويكون المصير النّهائي لكلّ تلك التّقارير الّتي تكلّف خزينة الدّولة الملايين سنويّا هو الأرشيف فقط. ممّا يشجّع السّيّاسيّين على الاستمرار في هذا العبث، الّذي يسائل جدّيّة المؤسّسات في محاربة الفساد.

إنّ فقدان الشّعب للثّقة في مؤسّسات الوساطة، سواء أكانت أحزابا سيّاسيّة أو نقابات، بالإضافة إلى التّساهل مع سوء تدبير المال العمومي، كلّها عوامل ستزيد في منسوب الاحتقان الاجتماعي، وتزرع اليأس في جدوى الممارسة السّيّاسيّة أساسا. ومهما رفعت الدّولة من شعارات، ووضعت من استراتيجيّات، فإنّ جيلا قادما بدأ في التّشكل، سيطرح سؤالان لا ثالثة لهما: هل الدّولة مطبّعة مع الفساد؟ أم أنّها عاجزة على مواجهته؟ وكلا السّؤالين لن يخدما الاستقرار السّيّاسي أو الانتقال الدّيمقراطي للدّولة. بمعنى آخر ستصبح الدّولة في مواجهة مباشرة مع الشّارع. وقد علّمنا التّاريخ أنّ المواجهة المباشرة للّشّعب مع الدّولة، تكون تكلفتها باهضة دائما. 

 محمد بلعيش

بركان في 14 مارس 2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube