الأزمات وتغيير النظام العالمي .. التخطيط والسلطة مفتاح التحول التاريخي
فورين بوليسيشيري بيرمان (*) ترجمة: عبد العزيز كوكاس
هل ستؤدي الأزمة الحالية ومختلف الاستجابات لها إلى تغيير جذري في الاقتصادات والحكومات والمجتمعات والعلاقة فيما بينها؟ هل العالم، كما يعتقد أو يأمل الكثيرون، عند نقطة تحول في التاريخ؟ هل تشكل جائحة كوفيد 19 فرصة لإحداث تغيير جوهري في مسار اتجاه العالم، المقال الذي اخترنا ترجمته عن المجلة الأمريكية المتخصصة “فورين بوليسي”، يسلط الضوء على الفيصل بين الحلم والواقع في التغييرات التي بشر العديدون بحدوثها بسبب ما عرّته جائحة كورونا لا على مستوى الأنظمة المحلية أو على المستوى الدولي..
الأزمات لا تؤدي حتما إلى التغيير .. التخطيط والسلطة مفتاح التحول التاريخي
قلب وباء فيروس كورونا الاقتصادات الغربية رأسا على عقب، حيث يواجه الكثير منها الآن أخطر أزماتها منذ الكساد الكبير لعام 2008. لمواجهة ذلك، تتخذ الحكومات تدابير غير مسبوقة.
أفرزت الأزمة، في الولايات المتحدة، توسعًا في البرامج الحكومية الكبيرة لا مثيل له في زمن السلم: تدابير تحفيز ضخمة، توسع تاريخي في إعانات البطالة، رصد دخل أساسي مؤقت للعديد من المواطنين، مليارات الدولارات لتمويل تدابير الصحة العامة، قروض منخفضة أو بدون فوائد للشركات والمزيد من الإجراءات غير المسبوقة… بالإضافة إلى ذلك، ينخرط الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تجريب النظرية النقدية الحديثة- التي كان يُنظر إليها سابقًا على أنها “اقتصاديات الشعوذة” voodoo economics*، من قبل الاقتصاديين السائدين- واعدة بضخ مبالغ غير محدودة من المال في الاقتصاد.
اقتصاديّات الشعوذة: مفهوم اقتصادي عرّفه الاقتصادي جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل في كتابه “التسعينيات الهادرة” بأن تعتقد الحكومة بشكل أو بآخر بأنها بخفض الضرائب تستطيع أن تزيد عائدات الضرائب. “المترجم”).
في أوروبا، نفذت الحكومات تدابير أكثر دراماتيكية، حيث حثها الاقتصاديون مثل مارتن ساندبو على “إلقاء الحذر مع أدراج الريح والإنفاق بشكل كبير”. تخلت ألمانيا عن هوسها بالميزانيات المتوازنة.. في فرنسا، علق الرئيس إيمانويل ماكرون العديد من الضرائب والإيجارات والفواتير المنزلية ووعد بعدم السماح لأي شركة بالانهيار.. وقامت الدول الاسكندينافية والمملكة المتحدة بتأميم كشوف الرواتب بشكل أساسي، ووعدت بتغطية أجور العمال الذين كان من الممكن تسريحهم لولا ذلك.
أصبح الافتراض بأن الأزمة والإجراءات الجذرية المتخذة لمواجهتها ستشكل العالم لسنوات قادمة وتغير النظام العالمي إلى الأبد، كما قال يوفال نوح هراري وهنري كيسنجر على التوالي، أمرًا شائعًا كما توضح الكتابات الأخرى في هذا الصدد، يأمل الكثيرون- أو يعتقدون- أن الأزمة ومواجهتها ستمكّن الحكومات من التعامل مع العديد من المشاكل طويلة الأمد، من تغير المناخ إلى عدم المساواة.
يبدو أن العديد من التقدميين على وجه الخصوص يعتقدون أن العالم في فجر حقبة جديدة، وربما أكثر الآن بعد أن أضيفت الاحتجاجات ضد الظلم العنصري إلى الاضطرابات التي سببها الوباء. أعلن الصحافي جاميل بوي Jamelle Bouie في عموده في صحيفة نيويورك تايمز أن “عهد الحكومة الصغيرة قد انتهى” بعد فيروس كورونا، وذهبت زميلته ميشيل غولدبرغ Michelle Goldberg في “التايمز” إلى القول: “إن الأفكار التقدمية الطموحة التي بدت ذات يوم غير قابلة للتصديق.. أصبحت تدريجيا أكثر قابلية للتخيل”. فيما أكد المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق بيرني ساندرز Bernie Sanders أنه يجب علينا إعادة التفكير في “الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها نظام القيم الأمريكي”.
لقد تميز اليسار الأوروبي بدوره بالإيمان بحتمية التغيير التاريخي أو على الأقل بضرورة حدوثه، تبدو الأزمة ك”غوتيردامرونغ”* Götterdämmerung النيو ليبرالية الجديدة، التي تم الترويج لها في عناوين الصحف الألمانية اليسارية الرائدة، في إشارة إلى الدمار النهائي والتجديد اللاحق للعالم الذي تم تصويره بشكل مشهور في أوبرا ريتشارد فاغنر حول معركة نهاية العالم، لكن التحول الجذري لم يكن مقدرا أبدا.
غوتيردامرونغ”* Götterdämmerung هو العمل الأوبرالي الأخير في دورة ريتشارد فاغنر المؤلفة من أربع مسرحيات درامية موسيقية بعنوان Der Ring des Nibelungen”الخاتم” عرضت لأول مرة في “بايرويت” في 17 غشت 1876، كجزء من أول أداء كامل للأوبرا الدرامية، أصبحت الكلمة تعبر عن انهيار مجتمع أو نظام يتسم بالعنف والاضطراب الكارثي. “المترجم”).
الأزمات شائعة، التحولات الجوهرية نادرة
هل ستؤدي الأزمة الحالية وخطط مواجهتها إلى تغيير جذري في الاقتصادات والحكومات والمجتمعات والعلاقة فيما بينها؟ هل العالم، كما يعتقد أو يأمل الكثيرون، عند نقطة تحول مفصلي في التاريخ؟
تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة التمييز بين الأزمات والتحول. من السهل الافتراض أن الأزمات تؤدي إلى انهيار نظام قائم واستبداله بنظام جديد، لكن هذا الرأي معيب على نحو جوهري، لأنه لا يتناسب مع الوقائع التاريخية. الأزمات موجودة وشائعة إلى حد ما، لكن التحولات الجوهرية نادرة.
وكما كتب ليون تروتسكي، أحد أعظم ثوار التاريخ، في عام 1932: “إن مجرد وجود الحرمان لا يكفي لإحداث ثورة. لو كان الأمر كذلك، لكانت الجماهير دائمًا في حالة تمرد”. وبدلاً من ذلك، قال: “من الضروري أن إفلاس النظام الاجتماعي، الذي يتم الكشف عنه بشكل قاطع، يجب أن يجعل هذا الحرمان لا يطاق”. وعند هذه النقطة فقط، كما أكد، يمكن أن “تفتح الظروف الجديدة والأفكار الجديدة.. آفاق مخرج ثوري”.
أدرك تروتسكي، مثل كل الثوريين، أن بعض الأزمات تؤدي إلى تحول دائم على عكس أزمات أخرى. ويقدم التاريخ دروساً لأولئك الذين يعتقدون أو يأملون أن تكون هذه الأزمة واحدة من تلك الأزمات.. يتمثل الدرس الأول في أنه خلال فترات التغيير السريع وغير المؤكد يكون الانقياد لمسار الأحداث أيسر من توجيهها- وإثارة السخط ضد نظام قديم أسهل من حشد الإجماع حول نظام جديد. هذا يعني، بشكل ملموس، أن مفتاح المحددات الرئيسية لكي تؤدي الأزمات وعدم الرضا إلى التغيير، هو سياسي: فالتخطيط والسلطة ضروريان.. بدون خطط متفق عليها بشأن أي نوع من النظام الجديد يجب أن يحل محل النظام القديم، تنهار حركات المعارضة بسهولة بسبب الصراع الداخلي، وغالبًا ما يتلاشى السخط. وإذا لم يتم دعم مثل هذه الخطط من قبل قوة سياسية لديها القدرة على تنفيذها، فيمكن أن تظل الأفكار الجيدة هوامش في التاريخ، ويمكن أن يتعثر الوضع القائم.
1848 نقطة التغيير التي فشل التاريخ في التحول إليها
خذ مثلا عام 1848، عندما انفجرت الانتفاضات التي أجّجها السخط الهائل ضد الديكتاتوريات القائمة في جميع أنحاء أوروبا وأجزاء أخرى من العالم. كما لاحظ المؤرخ “إريك هوبسباوم”، مثل القليل من الثورات في التاريخ “انتشرت بسرعة أكبر وعلى نطاق واسع، مثل حرائق الغابات عبر الحدود والبلدان وحتى المحيطات”. في غضون بضعة أشهر، انهارت عمليا الديكتاتوريات التي بدت آمنة تحت هجمة التعبئة الشعبية الضخمة.
ولكن بمجرد أن بدأت الديكتاتوريات في الانهيار، طفت على السطح الانقسامات بين الساخطين. أراد الليبراليون من الطبقة الوسطى تحريرًا سياسيًا واقتصاديًا، لكنهم عارضوا حق الاقتراع الجماعي وأي شيء يشوب الاشتراكية، بينما طالب العمال وغيرهم من اليسار بالديمقراطية الكاملة والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية.. وبعد أن تحررت من أغلال الديكتاتورية، طالبت مجموعات عرقية مختلفة بحق تقرير مصيرها والسيطرة على أراضيها
ولكنها كانت في الأغلب الأعم غير مستعدة للاعتراف بحقوق المجموعات الأخرى في أن تفعل الشيء نفسه.
باختصار، بمجرد أن بدأ النظام القديم في الانهيار، أدى عدم وجود خطط متفق عليها لما يجب أن يحل محله إلى بدء الاقتتال فيما بين الجماعات الثورية، مما مكّن مؤيدي النظام القديم من شراء بعضها وسحق الباقي.. وسرعان ما عادت الديكتاتوريات إلى كل مكان اختفت منه. وفقًا لذلك، يشير المؤرخون غالبًا إلى عام 1848 على أنه “نقطة التغيير التي فشل التاريخ في التحول إليها”.
لعنة الدور المزدوج: طبيب ووريث
بين عامي 1918 و1939، ظهر نمط آخر من هذا القبيل في أوروبا. ومع ذلك، فإن توقع أن الأزمة ستُحدث حتماً التحول الجذري في كل مكان كان ساذجًا- وقد تبددت آمال اليساريين في التغيير الثوري وفقًا لشروطهم مرة أخرى. في بعض البلدان، لم تؤد أزمات ما بين الحربين العالميتين إلى تغيير التاريخ. في حالات أخرى، فعلت ذلك- ولكن في اتجاهات مختلفة بشكل كبير اعتمادًا على السياسيين والأحزاب التي كانت لديها الخطط والسلطة لتحقيق ذلك.
قتلت الحرب العالمية الأولى الملايين من الناس، وأنهت حقبة من النمو والعولمة، وجلبت في أعقابها وباء الأنفلونزا، البطالة الهائلة والتضخم المفرط. قبل أن تتمكن الدول من التعافي، ضرب الكساد الكبير، مما تسبب في انفجار الغضب والسخط على الرأسمالية والوضع القائم بشكل عام.
ومع ذلك، ففي معظم البلدان، لم يكن اليسار قادرًا على التوحد حول خطة استجابة للكساد. أراد الشيوعيون استغلال الأزمة لدفن الرأسمالية والديمقراطية. اعتبر الاشتراكيون التقليديون، المتأثرون بالماركسية، أنه يستحيل إصلاح الرأسمالية بشكل أساسي ولم يفعلوا أي شيء. وحدهم الديمقراطيون الاشتراكيون الذين اعتقدوا أن الأزمة وفرت فرصة مثالية لتحويل العلاقة بين الحكومات والاقتصادات والمجتمعات.
في فرنسا، لم يكن اليسار فحسب، بل اليمين أيضًا، غير قادرين على الاتحاد حول خطط للتغيير لمواجهة الكساد والاستياء العام الذي ساد المجتمع الفرنسي. وكانت النتيجة استمرار الانجراف السياسي والاستقطاب وترك البلد ضعيفا وعرضة للهجوم النازي.
في أماكن قليلة، مثل الولايات المتحدة والسويد، دافعت الأحزاب اليسارية عن إستراتيجية ديمقراطية اجتماعية لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية تقدمية. في بلدان أخرى، سهّل الاقتتال الداخلي بين اليسار وتقاعسه قدرة الفاشيين على استغلال الكساد، وحدثت تحولات اقتصادية وسياسية رجعية بدلاً من ذلك.
أوضح مثال على ذلك وأهمه.. ألمانيا، كثّف الشيوعيون خلال فترة الكساد الكبير، من هجماتهم على الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، وهو أكبر حزب يساري وحصن الديمقراطية الألمانية، وانضموا إلى النازيين في الإضرابات والانتفاضات والمناورات السياسية المصممة لتسريع زوال جمهورية فايمار.
فيما ظل الحزب الاشتراكي الديمقراطي في أقصى الهامش، برغم مطالبة أنصاره وبقية المجتمع الألماني برد حيوي على الكارثة التي حلت بهم، رفض قادته الخطط التي طرحها الإصلاحيون الديمقراطيون الاجتماعيون من أجل استجابة من النوع الكينزي للكساد، والتي دعت إلى الإنفاق الحكومي والبرامج الأخرى لمحاربة الانكماش الاقتصادي بشكل عام والبطالة بشكل خاص.
وضع الماركسيون عقبة، حيث ظلوا يصرون على أن أي إصلاح للرأسمالية لا طائل من ورائه، اعتقدت قيادة الحزب، كما قال منظرها الاقتصادي الرئيسي رودولف هيلفردينغ، أن “السياسة الاقتصادية الهجومية” لن تكون فعالة لأن الحَكَم النهائي للتطورات كان “منطق الرأسمالية”.. لخص الزعيم النقابي المحبط “فريتز تارنو” معضلات موقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي على النحو التالي: “هل نقف على سرير الرأسمالية فقط كأطباء يريدون حقيقة علاج المريض، أم أيضًا كورثة محتملين لا يستطيعون الانتظار حتى النهاية وسيسعدون بهذه العملية مع وضع القليل من السم؟… نحن ملعونون، كما أعتقد، لأن نكون أطباء يريدون العلاج بجدية، ومع ذلك علينا الحفاظ على الشعور بأننا ورثة نرغب في الحصول على إرث النظام الرأسمالي بأكمله اليوم وليس غدًا.. هذا الدور المزدوج، طبيب ووريث، مهمة صعبة للغاية”.
بالرغم من وجود العديد من الأسباب التي أدت إلى نجاح الفاشية في ألمانيا وأجزاء أخرى من أوروبا، غير أن قدرة النازيين على الاستفادة من الأزمة، وعدم قدرة اليسار على فعل ذلك، كانت حاسمة.. من ناحية أخرى، لم يكن لدى النازيين وقت لمعالجة النظام القديم المحتضر. لقد أدركوا الفرصة التي أتاحتها الأزمة: فرصة وراثة السلطة. استجاب أدولف هتلر بقوة للكساد، حيث هاجم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ودعاة الديمقراطية الليبرالية بشكل عام بسبب سلبيتهم وعدم قدرتهم على مواجهة المعاناة الواسعة النطاق.
في انتخابات عام 1928، قبل الأزمة المالية العالمية، حصل حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني على 2.6٪ فقط من الأصوات. بعد أربع سنوات، في الحملة التي سبقت الانتخابات الحاسمة في يوليوز 1932، ركض الحزب النازي على منصة اقتصادية وعدت بـ”حل مشكلة البطالة” والتغلب على الكساد، وإعادة هيكلة الاقتصاد لخدمة “الشعب”. جعلت الانتخابات النازيين أكبر حزب في ألمانيا. في غضون ستة أشهر، قاموا بدفن جمهورية فايمار.
لقد فهم النيوليبراليون ما لم يستوعبه اليسار
على عكس عام 1918، حدث تحول تدريجي بعد عام 1945 عبر أوروبا الغربية. أدت مأساة سنوات ما بين الحربين والأزمة الاقتصادية العالمية إلى إيمان موحد على جانبي المحيط الأطلسي بأن نظامًا جديدًا قادرًا على ضمان الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي ضروري لنجاح الديمقراطية في أوروبا. أدى هذا الإجماع إلى جهود غير عادية لتغيير الديناميكيات السياسية والاقتصادية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.
ساعدت الولايات المتحدة في بناء أنظمة أمنية واقتصادية دولية جديدة لتعزيز السلام والازدهار الضروريين للنجاح الديمقراطي بعد الحرب. على المستوى الإقليمي، بدأت عملية التكامل الأوروبي، مدفوعة بالاعتراف بأن النجاح الديمقراطي يتطلب التغلب على تحديات أكبر من أن تتحقق من خلال الجهود غير المنسقة للحكومات الوطنية التي تعمل بمفردها. وعلى المستوى المحلي، اتفقت أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط الأوروبية على الحاجة إلى نظام جديد وعقد اجتماعي بين الحكومات والمواطنين، مع التزام الأول بتعزيز النمو وحماية الأخير من سلبيات الرأسمالية.. أدرك اليسار واليمين السائدان أن مثل هذا التحول سيكون ضروريًا لتجنب الأزمات الاقتصادية والتطرف السياسي الذي قضى على الديمقراطية خلال فترة ما بين الحربين.
نجح هذا النظام بشكل ملحوظ حتى سبعينيات القرن الماضي، عندما خلق مزيج من التضخم المتزايد والبطالة المتزايدة والنمو البطيء فرصة لتحول آخر.. خلال العقود اللاحقة، كان الليبراليون الجدد في مجموعات مثل “مجتمع مونت بيليرين”*( منظمة دولية نيوليبرالية تتألف من الاقتصاديين والفلاسفة والمؤرخين والمفكرين ورجال الأعمال تأسست بسويسرا كمجمع للتفكير عام 1947 وترأسها جون تايلور “المترجم”)، ومدارس شيكاغو وفيرجينيا للاقتصاد والاقتصاد السياسي يفكرون فيما بدا لهم سلبيات نظام ما بعد الحرب وما الذي يجب أن يحل محله. عندما برزت المشاكل وانتشر الاستياء في سبعينيات القرن الماضي، كانوا مستعدين لسرد إخفاقات النظام القديم بالإضافة إلى وضع خطط لنظام جديد.
وكما قال ميلتون فريدمان، العرّاب والأب الروحي الفكري لهذه الحركة، وحدها الأزمة، سواء أكانت الواقعة أم المنظورة، هي التي تُحدث التغيير الحقيقي. فعند حدوث الأزمة تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة. وهنا تأتي على حد اعتقادي وظيفتنا الأساسية: وهي أن نطور بدائل للسياسات الموجودة وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى حين يصبح المستحيل حتمية سياسية”. لقد فهم فريدمان ما لم يستوعبه اليسار: تم تنزيل الأفكار النيوليبرالية لأنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من مهنة الاقتصاد ومراكز الفكر والمنظمات الدولية، فضلاً عن دعمها من قبل القادة السياسيين الأقوياء مثل رونالد ريغان ومارغريت تاتشر.
اليسار يحول ثورته من الاقتصاد إلى الثقافة
من المثير للاهتمام، أنه عندما واجه هذا النظام الليبرالي الجديد أزمته الخاصة عام 2008، لم يحدث أي تحول اقتصادي كبير، على الرغم من الافتراض الأولي الواسع الانتشار، حتى من قبل المحافظين مثل الرئيس الفرنسي آنذاك، نيكولا ساركوزي، بأن عصر النيوليبرالية قد انتهى. لم تؤد تلك المشاكل والاستياء المرافق لها إلى نهاية نظام قديم وميلاد نظام جديد، ويعود ذلك جزئيًا على الأقل، كما وصفته مجلة “الإيكونوميست”، إلى عجز اليسار “عن الاستفادة من أزمة اقتصادية مصممة خصيصًا لنقاد السوق الحرة “.
كانت أحد الأسباب الرئيسية لعدم قدرة اليسار على القيام بذلك، وبالتالي لعب نفس الدور التحويلي الذي لعبه أسلافهم النيوليبراليين قبل بضعة عقود، هو أنه كان منقسمًا وغير مستعد. خلال العقود الماضية، أصبحت بعض أجزاء اليسار- التي يجسدها حزب العمال البريطاني بزعامة توني بلير، والحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة جيرهارد شرودر، وديمقراطيي بيل كلينتون- راضين على الإدارة التكنوقراطية للرأسمالية، متناسين أنها تتطور باستمرار وبخطورتها المتأصلة.. توقف الآخرون في اليسار عن التركيز على الرأسمالية بالكامل خلال أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ووجهوا اهتمامهم بدلاً من ذلك إلى التيارات الفكرية مثل ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية والنسوية وما بعد الاستعمار… والتي كانت بطبيعتها ثقافية وليست اقتصادية. وهكذا عندما اندلعت الأزمة في عام 2008، فافتقر اليسار إلى تصور متماسك لمشاكل النظام الحالي، فضلاً عن خطط مقنعة لتغييره.
نفس المشكلة- عدم القدرة على الاستفادة من الأزمة- يمكن أن تظهر مرة أخرى اليوم ما لم يعتبر أولئك الملتزمون بإقامة مجتمع أكثر عدلاً ومساواة بدروس الماضي.. إن معرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغنية على أعتاب تحول جذري لاقتصاداتها وحكوماتها ومجتمعاتها والعلاقات فيما بينها، تتطلب النظر إلى ما هو أبعد من وطأة الأزمة الحالية والإجراءات غير المسبوقة التي تم اتخاذها بالفعل استجابة لها. كما يوضح التاريخ، تخلق الأزمات فرصًا للتغيير ولكن لا يتم اغتنام جميع الفرص.
ما إذا كان يسار اليوم سينتهز الفرصة الحالية وتصبح هذه الفترة نقطة تحول تاريخية في اتجاه تقدمي- بدلاً من حالة أخرى لنظام قديم متحلل يتم ترقيعه والتأرجح عليه- سيعتمد على ما إذا كان أولئك الذين يوثرون التغيير قادرين على تجنب الأخطاء المرتكبة من قبل أسلافهم في 1848 و1930 و2008 وهم قادرون على الاتفاق حول انتقادات مقنعة للنظام القديم وابتكار خطط لنظام جديد وكذلك تحويل السخط العام إلى تحالف قوي لصالح التغيير الجذري.
بالنسبة للتقدميين، هناك إشارات إيجابية محتملة. هناك أفكار حول التحول الجذري مفيدة أكثر مما كانت عليه قبل عقد من الزمان. في مجال التفكير الاقتصادي، على سبيل المثال، برز علماء مثل توماس بيكيتي، وإيمانويل سايز، وغابرييل زوكمان، وماريانا مازوكاتو، وآدم تووز، وآن كيس، وأنجوس ديتون في طليعة النقاش على مدار السنوات الماضية، مما يسلط الضوء على المشاكل القائمة في النظام الاقتصادي السائد وكذلك تطوير الحلول الممكنة لها.
في ذات الآن، تشتغل مراكز الفكر التقدمية مثل معهد روزفلت ومركز واشنطن للنمو العادل على تطوير ونشر خطط للتغيير الهيكلي طويل الأجل. حتى قبل التدفق الملحوظ للاحتجاجات التي أثارها مقتل جورج فلويد، كانت هناك زيادة في التعبئة الجماهيرية على مدى العقد الماضي. كما وثقت عالمة السياسة إيريكا تشينويث وزملاؤها، فإن الفترة من 2010 إلى 2019 “شهدت حركات جماهيرية تطالب بتغيير جذري حول العالم” أكثر من أي فترة منذ الحرب العالمية الثانية.
تعبئة السخط ضروري لكنها لا يكفي للتحول
يعلمنا التاريخ أن الأفكار الجديدة وتعبئة السخط ضرورية ولكنها ليست كافية لإحداث التحول.. يجب صياغة الأفكار في شكل انتقادات متماسكة للنظام القديم بالإضافة إلى خطط جذابة وقابلة للتطبيق لنظام جديد، ويتعين على دعاة التغيير أن يتحدوا حول مثل هذه الخطط للمساعدة في الحماية من الاقتتال الداخلي وتبديد الاستياء وصد المدافعين عن وضعية الستاتيكو، عندها فقط يمكنهم اكتساب القوة اللازمة والحفاظ عليها لتنفيذ خطط التغيير على المدى الطويل.
لقد استوعب اليمين هذا الدرس أفضل من اليسار على مدى العقود الماضية. نجح النيوليبراليون مثل فريدمان في تغيير مفاهيم العلاقة العملية بين الأسواق والحكومات والمجتمعات خلال أواخر القرن العشرين، لأنهم امتلكوا إحساسًا واضحًا بالنظام الجديد الذي أرادوا إنشاؤه ونجحوا في أن يتبنى أفكارهم المثقفون وصانعو السياسات، والسياسيون الذين يمكنهم تنفيذها.
حتى بعد الأزمة المالية، التي نُسبت على نطاق واسع إلى إخفاقات النيوليبرالية، كان مؤيدو وضع الستاتيكو قادرين على إحباط التغيير الأساسي. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم يكن العديد من مستشاري الرئيس باراك أوباما الرئيسيين مهتمين بالتغيير الجذري وظلوا منشغلين بإصلاح النظام القديم، وبالعودة إلى القياس الألماني الذي استخدمه تارنوف من الحزب الاشتراكي الديمقراطي أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية، كانوا مهتمين في المقام الأول بأن يكونوا “أطباء” بدلاً من أن يكونوا “ورثة”.
وحتى الجوانب المفترض أن تكون تقدمية في حزمة أزمة الإدارة كانت محدودة النطاق والمدة من قبل المحافظين، الذين نشروا رواية حولت إنقاذ أوباما للاقتصاد إلى قصة إهدار الحكومة وعمليات إنقاذ النخبة. في غضون ذلك، حولت حركة “حفل الشاي” الحزب الجمهوري إلى قوة موحدة مكرسة لمحاربة التغيير التدريجي وإقناع المواطنين بأن الحكومة هي العدو.
أزمة كورونا والتبشير بالتغيير الجذري
بالرغم من الطبيعة الاستثنائية للأزمة الحالية والقبول المبدئي الواسع النطاق بسياسات استثنائية لمواجهتها، فقد بدأ عمليا رد فعل مماثل من قبل مؤيدي الحفاظ على وضع الستاتيكو. في الولايات المتحدة، يتراجع الجمهوريون عن نقاط حديثهم القديمة- معربين عن قلقهم بشأن مخاطر عجز الميزانية، وعمليات الإنقاذ الفيدرالية لحكومات الولايات والحكومات المحلية، وما يسمى بالخطر الأخلاقي* moral hazard المرتبط بالمساعدات الحكومية غير المشروطة التي قد تحفز الناس على البقاء في المنزل بدل الذهاب إلى العمل.( الخطر الأخلاقي أو الخطر المعنوي مفهوم اقتصادي يرتبط أساسا بمجال التأمين وهو الموقف الذي يتورط فيه أحد الأطراف في حدث محفوف بالمخاطر وهو مؤمن وسيتحمل الطرف الآخر تكلفة هذه المخاطر.. ويعني في مجال الأسواق المالية، وجود خطر في أن ينخرط شخص مقترض في أنشطة غير مرغوب فيها من وجهة نظر المُقرض لأنها تجعله أقل قدرة على سداد القرض. “المترجم”). بموازاة ذلك، شرع النشطاء الشعبيون، في كثير من الحالات، بدعم من نفس الجهات المانحة والجماعات التي ساعدت في إطلاق “حفل الشاي” (حركة الشاي أو حركة حفل الشاي أو حركة حزب الشاي هي حركة أمريكية سياسيّة اقتصاديّة محافظة، ضمن الحزب الجمهوري. طالب أعضاء هذه الحركة بخفض الضرائب وتقليل الديون القوميّة الأمريكيّة وعجز الموازنة الفيدراليّة خلال تقليص الإنفاق الحكوميّ. تدعم الحركة مبدأ الحكومة الصغيرة وتعارض التأمين الصحي الشامل المموَّل من طرف الحكومة. “المترجم”)، في الاحتجاج على عمليات الإغلاق، وشجب “الحكومة الكبيرة” و”تهديدات” الحرية الفردية- وقد شجعهم على ذلك دونالد ترامب وقادة جمهوريون آخرون. كما صرحت جيني بيث مارتن Jenny Beth Martin، المشاركة المؤسسة لحزب Tea Party Patriots، (منظمة سياسية أمريكية يمينية. تشكل جزءا من حركة “حفلة الشاي”- المترجم). أنها وزملاؤها مستعدون للتعبئة لضمان أنه عند انتهاء الوباء، تظل الولايات المتحدة “دولة رأسمالية” لا دولة اشتراكية.. ولمواجهة ذلك، يجب على التقدميين أن يتذكروا أن الأزمة والتدابير غير العادية التي اتخذت بالفعل لمواجهتها ليست كافية لضمان التغيير الجذري. ما إذا كانت هذه ستكون “لحظة روزفلت” FDR moment- كما يعتقد سناتور ماساتشوستس إدوارد ماركي المؤلف المشارك لـ”السياسية الخضراء الجديدة”*Green New Deal، وغيره من التقدميين- يعتمد على ضمان توفر الظروف السياسية السليمة: لقد كانت قدرة فرانكلين دي روزفلت على حشد الناخبين وحزبه وراء خطط إعادة تشكيل العلاقة بشكل كبير بين الاقتصاد والحكومة والمواطنين بقدر انتشار المعاناة والاستياء من الرأسمالية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية العالمية الذي جعل السياسة الاقتصادية الجديدة ممكنة.
*( السياسة الخضراء الجديدة GND هي حزمة مقترحات من تشريعات الولايات المتحدة تهدف إلى معالجة تغير المناخ وعدم المساواة الاقتصادية. يشير الاسم إلى الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ومشاريع الأشغال العامة التي نفذها الرئيس فرانكلين روزفلت استجابة للكساد الكبير، المعروفة بالسياسة الاقتصادية الجديدة.”المترجم”)
لترجمة هذا إلى الواقع اليوم، سيحتاج الديمقراطيون إلى شن هجوم ناجح على الفلسفة المناهضة للحكومة التي دافع عنها الجمهوريون لفترة طويلة وأصبحت مؤقتا موضع تساؤل بسبب الأزمة، والتوحد وراء خطط التغيير الجذري وإقناع المواطنين بأن هذه الخطط تقدم رؤية أفضل للمستقبل من نسخة مصححة للوضع القائم/ الستاتيكو. تخضع المطالب بإصلاحات هيكلية كبرى لمكافحة الظلم العنصري في الولايات المتحدة وأماكن أخرى لديناميكية مماثلة. إضفاء الطابع المؤسسي على الإصلاحات الهيكلية الرئيسية في هذا المجال، كما في أي مجال آخر، يستلزم الفوز في الانتخابات والإمساك بالسلطة السياسية. ويجب تجنب أي شيء يمكّن معارضي التغيير من تحويل الانتباه بعيدًا عن المشاكل التي تحتاج إلى معالجة، أو تقويض الدعم الواسع ولكن الهش للإصلاح الموجود حاليًا أو يقسم التحالف الديمقراطي.
ربما يكون من المدهش أن يكون “جو بايدن” محوريًا بشكل كبير في هذا الصدد، من رسالة الاستمرارية والإدارة المختصة إلى رسالة تدافع عن الإصلاح الهيكلي العميق في الرعاية الصحية والبيئة والبنية التحتية والتعليم والقضايا المتعلقة بالعدالة العرقية وغير ذلك. بطبيعة الحال، من أجل سن مثل هذه التغييرات، يجب على المرشح الديمقراطي أن يفوز في الانتخابات في نونبر، وربما بتأثير الاقتراع السفلي * coattails(تأثير coattail مفهوم انتخابي أمريكي، يعني تأثير الاقتراع السفلي، أي ميل زعيم حزب سياسي شعبي لجذب أصوات لمرشحين آخرين من الحزب نفسه في الانتخابات “المترجم” ) بما يكفي لاكتساحه مجلسي النواب والشيوخ.
للقيام بذلك، يجب أن يكون لديه أكثر من رسالة سلبية تركز على أخطاء وفساد وعجز الإدارة الحالية. بل يتعين على بايدن إقناع الناخبين بأن التغيير “التحولي” ممكن ومرغوب فيه. وعلى مستوى السلطة، يتعين عليه وعلى الديمقراطيين أن يتذكروا أن التغيير طويل الأمد يتطلب تحولات سياسية.
خلال أواخر القرن العشرين، شكل الجمهوريون ائتلافًا من الأثرياء، وقادة الأعمال والمحافظين الدينيين والبيض الساخطين من ذوي التعليم المحدود- ولو لأسباب مختلفة- حول وعد بتقليص دور الحكومة. مكّن هذا التحالف الجمهوريين من إجراء تغييرات مهمة على المستويات المحلية والولائية والوطنية. سيتعين على الديمقراطيين القيام بعمل مماثل، وتوحيد تحالفهم المتباين حول رسالة تغيير جذري، والتقليل من أهمية المجالات التي تتباعد فيها مصالح جمهورهم بدلاً من التقارب.
إذا لم يتمكن الديمقراطيون والتقدميون في أماكن أخرى من القيام بذلك، فقد يستمر التاريخ في التحول ولكن في اتجاه مختلف. كما أوضح الكساد الكبير وأحداث أوائل الثلاثينيات في ألمانيا.. يمكن للاستياء العام أن تعزز مكانة القوميين والعنصريين والرجعيين بشكل أيسر من دفع التقدميين. لقد فهم روزفلت ذلك- وتم تصميم السياسة الاقتصادية الجديدة لتقويض جاذبية أعداء الديمقراطية بقدر ما كانت تهدف إلى إصلاح الرأسمالية. بعد كل هذا، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ظهر عدد مذهل من المواطنين والسياسيين الأمريكيين، ضمنهم هنري فورد وتشارلز ليندبيرغ والقس تشارلز كوغلين، أثنوا علانية على هتلر وأعربوا عن إعجابهم بالديكتاتوريات التي نشأت في العديد من البلدان الأوروبية.
بدأ الشعبويون والمتطرفون اليمينيون بالفعل في الترويج لرواية تلقي باللوم في الأزمة على الأجانب- وخاصة الصين والمهاجرين- ويقدمون رؤية لعالم ما بعد الوباء حيث تكون العولمة والتعددية والتجارة الحرة والهجرة محدودة؛ التشدد على الحدود، تمكين الحكومات لحماية الناس من الخطر؛ ومرة أخرى يتم دفع العدالة الاجتماعية وعدم المساواة إلى الخلف. في الماضي، لم تكن نقاط التحول التاريخي نتيجة الأزمات وحدها بل نتيجة استفادة الثوار من تحقيقه وكيفية القيام بذلك.
(*) باحثة وأستاذة العلوم السياسية في كلية برنارد جامعة كولومبيا. وتندرج اهتماماتها البحثية والتدريسية في مجال “تطور الديمقراطية والديكتاتورية والسياسة الأوروبية والتاريخ والعولمة والشعبوية والفاشية وتاريخ اليسار”