احمد رباص

جوسلين صعب: مسار مخرجة سينمائية آمنت بجدوى المقاومة الثقافية

أحمد رباص

توفيت جوسلين صعب يوم السابع من يناير من العام الماضي. مخرجة أفلام وفنانة لبنانية ولدت في بيروت عام 1948، أمضت حياتها كلها ملتزمة مع أكثر الناس حرماناً، خلفت عند موتها عملاً هائلاً وأساسياً بالنسبة لتاريخ الرجال وتاريخ السينما. بعد أن كانت رائدة في “السينما اللبنانية الجديدة” في سبعينيات القرن الماضي، أنتجت أفلامها الأولى في بيروت بأسلوب وثائقي يحمل بصمتها، فاسحة مجالاً كبيراً للذاتية. بعد تغطية معظم الحروب الكبرى في الشرق الأوسط في منتصف السبعينيات، كرست اهتمامها للدمار الذي تعرضت له بلادها، لبنان، خلال الحرب الأهلية التي مزقتها لمدة خمسة عشر عاما (1975-1990).
انتقلت إلى مصر، حيث أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى فيلم خيالي، “دنيا”، الذي تسببت لها جرأته في أخطر التهديدات من لدن الأصوليين المصريين الذين قاموا بمنع عرض الفيلم في مهرجان القاهرة لعام 2006. تم فرض الرقابة عليها في مصر، على الرغم من نجاحها على الصعيد الدولي. كرست نفسها فيما بعد للفن المعاصر والتصوير الفوتوغرافي، وبعد عودة قصيرة للسينما بفيلمها الخيالي التجريبي “ما الذي يجري؟” في عام 2009، ومشاريعها الضخمة الكثيرة التي لم يكن لديها وقت لترى النور، سوف تعبر الصورة المتحركة فقط من خلال أفلام الفيديو القصيرة التي سيتم عرضها.
أحيت في 18 دجنبر 2018 حفل توقيع كتاب رئيسي، يستعيدا مجمل أعمالها من خلال بعض الصور المختارة. “مناطق حرب” كان أول كتاب فني من تأليف هذه المرأة، التي وجدت مكانها في عالم تقارير الحرب وكذلك في عالم السينما، ثم في دائرة مغلقة من الفنانين البصريين.
سبق لها أن عملت في قسم الاقتصاد في جامعة القديس يوسف في بيروت وكانت قد أكملت مشوار تعليمها العالي في جامعة السوربون. رسالتها الأولى كانت حول الصحافة، والثانية حول اقتصاد الشرق الأوسط. كانت شديدة الاهتمام بالتبادلات الاقتصادية في هذا الجزء من العالم.
اشتغلت في البداية مراسلة حرب، ثم مخرجة أفلام. الشيء الذي جذبها أكثر هو الغنى المكتسب من رحلاتها في الشرق الأوسط. سمحت لها هذه التجربة بالتعلم بشكل أفضل، وبقياس أفضل للمواقف التي واجهتها. بعد ذلك، استطاعت أن تنال استقلاليتها، تفعل ما تريد وتجد أسلوب الكتابة الخاص بها في الأفلام الوثائقية. ساعدتها هذه الفترة الأولى على بدء عملها بشكل مستقل. أرغمتها الحرب على البقاء في بيروت، لكن تحليلًا دقيقا بما يكفي أقنعها عام 1976 بأن لامناص لها من الرحيل.
لم يكن ذلك نفيا طوعيا، ولكنه سفر إلى أماكن أخرى للإلمام بأوضاع أخرى لكي تثبت لنفسها أنها قادرة على التأقلم معها، ولمواجهة حقائق أخرى، سواء في مصر أو ليبيا أو أي مكان آخر. قابلت العديد من رؤساء الدول اللذين لم يكن بينهم سوى عدد قليل من النساء في ذلك الوقت. لذلكاستأثرت كصحفية باهتمام رجال السياسة العظام. لم يعجبوها بشكل خاص، لكنهم سمحوا لها بفهم مواقف معينة بشكل أفضل. لقد كانت محظوظًة لأنها تمكنت من الأطلاع على بعض الحبكات في القصة، التي أعطتها وعيا أقوى بما يجب أن تقدمه. تلقت درسها الأول في السينما من خلال تصوير شريطها الأول عن “فرق الانتحاريين”. لقطات من هذا الفيلم أسيء تأويلها. مثلا، تم تأويل صورة يظهر فيها جنود وهم يؤدون القسم على أنها تحية من النازيين، بل إن بعض الأشخاص لووا عنق خطاب شريطها ليجعلوه حجة عليها.
حصل لديها انطباع بأن كل هذه الفترة التي عاشتها أنذرت بما يحدث اليوم، ومن لم يدرك أن الأمور سوف تزداد سوءا كانت تعوزه البصيرة. أمست على بينة من قوة تنبعث مما كانت تقوم بتصويره. حصل لديها أيضا انطباع، عند النظر في مسيرتها الفنية، بأنها كانت دائما تسبق الآخرين، بأنها كانت تحس بما هو مثير للاهتمام، وبأنها، لدى مغادرتها لفريق الصحفيين، بإمكانها أن تدرك ما كان يحدث. في عام 1976، مثلا، بينما كانت كل الأنظار متجهة إلى بيروت، ذهبت إلى جنوب لبنان على ظهر حمار، مع الشعور بأن الإسرائيليين لم يكونوا على استعداد للرحيل عن الأراضي التي احتلوها خلال عشرات السنين.
مسيرتها المهنية هي سلسلة من الاختيارات المتتابعة. اختارت البقاء في غرب بيروت عام 1982، لإعطاء كل ما عندها من الانتباه إلى الأفلام التي اقترحتها لكي لا تكذب بشأن قضية من القضايا. عندما أخرجت فيلم “الصحراء ليست للبيع” سنة 1977، لم تبد لها الصور قوية بما فيه الكفاية، فسافرت إلى المغرب لتعيد تصوير المشاهد خلال ثلاثة أشهر على نفقتها الخاصة. يبدو أنها لم تسمح لنفسها بالتحدث عن قضية (في هذه الحالة قضية الصحراويين ومقاتلي جبهة البوليساريو) دون أن تبث في الصورة عنفوان موضوعها. كثيرا ما كانت مستعدة لأن تضع نفسها في خطر لأجل خلق ومشاهدة اللحظات العظيمة من التاريخ الذي كانت تتفرج عليه. ومع ذلك، فهي تعتقد أن ما هو خاص حول مسيرتها هو أنها كانت تريد دائما أن تبقى ثابتة على مواقفها ومبادئها، وعلى استعداد دوما للقتال من أجل الدفاع عن أفكارها، لإظهار وتحليل الشرق الأوسط الذي يمور بالحركة التي تستهويها.
ومع ذلك، حل اليوم الذي شعرت فيه بالتعب، أو بالأحرى، كل فيه بصرها. لم تتمكن من رؤية أي شيء.. الكثير من الوفيات .. الكثير من المعاناة.. ثم انتقلت إلى الخيال، ابتداء من عام 1985 مع شريط “حياة معلقة”. كانت ترغب في المضي قدما، في الاشتغال على الصورة بطريقة مختلفة. هنا والآن بدأت الحقبة الثالثة من حياتها المهنية عندما أغلقت الأبواب، خاصة مع فيلم “دنيا” في مصر الذي خضع للرقابة. ثم انتقلت إلى التصوير الفوتوغرافي . طريقة جديدة للاشتغال على الصورة، وحدها، حتى تواصل المسير. وفي السنوات الأخيرة من حياتها عادت إلى الصور المتحركة والسينما والفيديو.
انتابها مرارا شعور بأنه كلما تكررت الوضعية وعاشتها، بشكل مكثف، إلا ووجب أن تتصرف، لتتصدى لهذا العنف المفرط وغير الإنساني. أمام كل ذلك ، شعرت في بعض الأحيان أن عملها كفنانة لم يعد له أي معنى، وأنه من الضروري إيجاد طرق أخرى للتواجد. هنا في لبنان، يبدو الأمر كما لو أن الفنانين يتعين عليهم أن يأخذوا مكان الساسة. ليس بمقدور الفنانين أن يصدروا تشريعات، ولكن يمكنهم أن يأتوا فعالا يعجز عنها السياسيون، كأن يعبئوا الرأي العام. التزامها يكشف عن الجهة التي تنتمي إليها، عن موقعها ككائن بشري في المدينة.

هذه هي اللحظات التي تجعل الناس ينهارون، جسديا ونفسيا. فهي ترى أن من المهم محاولة إيجاد موضوع يوحد المجتمع المدني. بإمكان هذه البادرة المواطنة أن تصبح عملاً سياسياً حقيقياً وملموساً. كانت مبادرتها هي المقاومة الثقافية، كلمتان تلخصان ما أرادت القيام به وتدعوان إلى محاربة الجمود الذي أناخ بكلكله على البلاد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube