مستجداتمقالات الرأي

ماذا لو عاش سبينوزا في دمنات

حرة بريس -بقلم :جواد كوفي 

       محنة الرجال في التاريخ البشري هي في الأصل تجلي من تجليات محنة العقل . محنة كل من يسعى الى الانفلات من روابط الضرورة الحيوية لعصر او لجماعة معينة، والمحنة رغم تعدد صورها إلا أن المشترك فيها هو مواجهة بين نمطين من التفكير(جديد  قديم) أو رؤية مغايرة للكون وفهم مخالف للجماعة، قد يجد الفيلسوف أو رجل الدين أو العالم نفسه وجها لوجه أمام قوة وطائفة تحرس الثورات بسلطة رمزية وبعنف مادي أصعب ما فيها (القداسة) فيكون للمكان والزمن الحسم في نجاح أو فشل مهمة الرجل.

    ماذا لو عاش باروخ  سبينوزا في دمنات حيث تمتزج الثقافات و تتكامل، يذوب بعضها في بعض دون خلفية أيدولوجية أو مراقبة تخنق و تسيج العقل  بفكرة (المفاضلة ) وإثارة النعرات أو قرصنة إرادة الاشتراك باختراق فطرة الإنسان الاولى (التعارف)، كانت الجماعة التي تسكن مدينة دمنات متطبعة بطبيعة المكان  سمتها التسامح و التعايش، المسجد قرب الكنيسة و الدير. مقابر المسلمين مجاورة لمقابر اليهود و النصارى، لا تزال هذه المعالم التي أضحت أثر بعد عين، شهادة على غلبة العقل المرن التواق الى التوحد والتجاوز المشترك  لأجل بناء جنة على الأرض كغاية ضمنية، ربما لم يكن يعي عمقها العامة في تلك الأرض، لكن الأكيد أنه كانت الخاصة منهم تدفع بالمجموعة الى ذلك الرهان واستحالة الانسان من كائن يحيى كباقي الكائنات الى التميز واستحقاق العيش الكريم .

 بهذا  المعنى يمكن القول  أن مدينة دمنات العريقة  كانت تؤمن بإله سبينوزا الاله الذي لا يعرف الغضب إله الحب  والسعادة والسكينة ، باعتبار تعدد الديانات و المتكلمين بإسم السماء مجرد  تائهين في مجرى التاريخ وكل اختلاف بينهم دليل يؤكد عبادتهم لإله الوهم لا يصنعه  إلا الخوف و الأنانية و حب السيطرة ، في نقد ضمني من -سبينوزا و حال العيش في المدينة-  لهذه الأديان التي تقتل في الإنسان الحياة بدل ان تفتح أمامهم امكانات متعددة للحياة .

إن سير الخاصة. أو النوابت كما يصفهم ابن باجة  كان قدم بقدم مع سير العامة ، لكن حين يتوقف مسيرة هذه الأخيرة ويسكن وعيهم لتفسير معين  لا يتوقف الخاصة على طلب الحقيقة ،هذا الطريق المشترك للعقل هو قدر البشرية الذي لا يفرقهم  فيه الا الخوف من المجهول او الجرأة على الحقيقة و مسألة كل شيء حتى الموت نفسه ، اليقين الوحيد الذي يلفه الغموض و لا يقهره إلا الإيمان . عالم موقوف على علم الإله محفوف بالخوف والقداسة  مما يجعل البعض يتسربل برداء المقدس و ينصب نفسه متكلم باسم السماء و خليفة الله على الأرض محتكرا فهم التشريع و من خلاله الفهم المختزل و العقيم للحياة . 

فكر سبينوزا  للأسف لم ينشأ في تربة أرض كدمنات لتمنحه القوة  وتضمن له الاستمرارية و الحياة و للأسف كذلك لم تتوفر المدينة على عقل رجل  مشرق يضمن سرمدية نور الوعي بالمدينة .

 إذن  أشرق فكر الرجل  في اوروبا الظلام و الخوف حيث المراقبة والعقاب  في كل مكان ، كلما حاول العقل الخروج عن المألوف  أو الهرطقة بما يعتقد ، متحررا من ضرورات الزمن كلما اصطدم  بجدار المعتقد القروسطي الصلب ، الذي ستحدث فيه ضربات سبينوزا ومن سار على دربه تصدعات هدمته بعد زمن (الأنوار).

لم تكن مدينة دمنات العريقة  عبر تاريخها إلا أرض لتسامح و التعايش و نموذج المدينة المثالية التي يتطلع الى تأسيسها الفلاسفة و المفكرين كإمكان للاشتراك  الوجود الأصيل بين البشر من جميع المعتقدات و الديانات حيث تكون الأرض للجميع و الدين لله ،وهو حال المدينة الذي كرسته طبيعتها الهادئة و موقعها الاستراتيجي   ككمر تجاري و كمنطقة هادئة للاستقرار و للأمن الروحي و المادي على السواء ، حيث حرية الاعتقاد و الفكر مضمونة بين السكان الأصليين او الوافدين .

 اذ يشهد تاريخ دمنات على سيادة وعي  جمعي مستنير تحركه المنفعة العامة ، وعي  حر أصيل يحرك أهل تلك الأرض الفاضلة حيث التعايش و التسامح و المؤاخاة.

في عصر كانت تعيش فيه أوروبا الانحطاط  و الجهل وتهميش مقصود للعقل المحكوم عليه  بالقصور والعجز ، فقد وضعته الكنيسة تحت حجر الدين، فسار تابعا للمعرفة التي يعتقد انها من الفوق المقدس ، مكرسة  عجزه القصري ليقدف به الى الجمهور منزوعا من كل إمكانياته و ممكناته التي أودعها فيه الخالق حيث اضحت الحقيقة ثابتة  تسكن الكتاب و ما على البشر إلا العودة اليها و التبرك بها . هناك بدأت سيطرت الدين و تغولت الكنيسة …

هذا الوضع سيحرك العقل الأوروبي متوسلا بالإرث الإنساني عامة و العقل الإسلامي ” الشكاك –النقدي- المنطقي ” خاصة حيث كانت الأسبقية دائما للعقل الخالص .

 في هذه المرحلة  كان سبينوزا يعيش قلق الوجود  متسائلا عن طبيعة الإيمان الصحيح  يغالبه العقل و يدفعه نحو الشك في كل شيء غايته الحقيقة ومطلبه الوحيد هو الوعي بالحرية داخل الطبيعة مراهنا بلا هوادة على العقل و متوسلا بالشك في كل المجالات دون استثناء وقد وضع بهذا المنهج  قدمه الأولى داخل جحيم الفكر وقلق الوجود . قبل ان يدفعه إلي نارها رجال الدين و يصبون عليه كل اللعنات . .

لقد كان سبينوزا مسيح الفلاسفة وهادم اوثان اللاهوت في عصره  بمنظوره الفريد الى مفهوم الله كجوهر كلي مطلق لا متناهي ولا يقبل القسمة ، واحد ازلي سرمدي يلبس الطبيعة وتلبسه ، منظور لم يستسغه رجال الدين،  خاصة و أنه من رجل كان يعول عليه أن يكون حجة للديانة اليهودية كعقل ظهرت نباهته مند الطفولة .

هناك في الجهة المقابلة  بمدينة دمنات كانت السكينة  عنوان الجماعة فقد أغفل السجال و النعرات العصبية و الدينية بين السكان ، كما عرف ( بفتح العين )رجال الدين في المنطقة  بالانفتاح و تغليب العقل و المنطق على الغلو و التعصب .

 تنوعت اللهجات و اختلطت مع بعضها (تمازيغت -تشلحيت –العربية-العبرية ) جراء اختلاط  أهل دمنات بالقبائل العربية المجاورة وكذا هجرة اليهود و استقرارهم بالمنطقة مند قرون  اذ ساهم كل هذا في الإزهار الاقتصادي ، بتنمية الصناعة و الحرف والتجارة . كما سيلعب للموقع الجغرافي في تلك المرحلة الفصل في امتزاج الثقافات ، مما سيخلق شخصية فريدة  تميز بها اهل المدينة .

لا يزال التأثير و التأثر الثقافي يتمظهر في عدة تجليات بالمنطقة  اهمها الفن والمعمار وبعض الطقوس و المعتقدات التي تلبس لباسا دينيا وتتلون بالمقدس حينا وبالفلكلور حينا اخر. إنها ضرورة  المجتمع المتسامح و طبيعة العقل الإنساني الذي يراهن على الحياة الواقعية هنا قبل الوصول الى الحياة المفترضة هناك.

كل هذا التنوع جعل المدينة  أرض خصبة قابلة لزرع بذور الفكر الحر الذي يتجاوز ذاته و يؤكد السيرورة  التراكمية للفكر الانساني المتنور معلنا قبول كل جديد لا مقدس إلا الانسان نفسه. 

طبيعة  العقل هي  السفر في الزمن  كملكة ازلية لا يصيبها الفناء و لا الفساد(  محايث للتاريخ )في سيرورة و تغير لا ينتهي ، لهذا كانت كل وعود الموت و الترهيب عنده سواء لا يقلقه الا الصمت و الثبات .

هكذا ستبدأ المعاناة المزدوجة للبشر مرتين ، حين قدف في العالم  مصطدما بغرابة الوجود ، تم عند محاولة فهم ما وراء العالم، لأجل إضفاء المعنى وكشف الغاية من العيش فيه  .

ليست الغاية هنا هي الوقوف على تاريخ المدينة بكل تفاصيله و لا التوغل في فكر فيلسوف عظيم  يصعب التوقف اللحظي على افكاره و تقديمها بشكل يليق بما يقصده الرجل . وانما نبتغي الإشارة و التذكير بالعيش المشترك  بين الانسان و اخيه الانسان بغض النظر عن اللون و الجنس و المعتقد او اللغة الذي كانت بعض المدن شاهدة عليه و نحن اليوم يستهلكنا خطاب الشعبوية و العصبية و يقدف بنا الى الفردانية و الشعور بالخوف على الماضي من الحاضر في حين واقع التاريخ  ينبهنا الى أن المشترك الانساني هو الحياة الإصيلة و التعاون لأجل بناء فردوس على الارض . 

المفترض  إذن ان يكون العقل -السحر الذي زود به الله  خليفته – نورا يشرق على الطبيعة فيمنح الوضوح للغامض و البساطة للمعقد و الأجوبة  لكل الأسئلة. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube