ديانات وعقائدمقالات الرأي

جيهان خليفة تكتب:قراءة فى كتاب “سيرة الله ” لجاك مايلز

العقل عندما يخلع “القداسة”  

جيهان خليفة -حرة بريس

هل يمكن أن نكتب سيرة الله ؟ وهل يحق لنا النظر إليه كشخصية أدبية مفعمة بالدرما المليئة بالأحداث ؟

تساؤلات قد تبدو للوهلة الأولى صدمة على أذهان البعض ، ولكن جاك مايلز فى رائعته “سيرة الله ” ترجمة ثائر الديب ، يضعنا أمام هذه الشخصية العميقة جدا، والمتناقضة جدا ، ليبدو لنا الإله ، وكأننا نراه للمرة الأولى .

لقد إعتدنا على قراءة الكتب المقدسة عموما و”التوراة ” خصوصا قراءة تنظر للنص بشكل كلى ،  حيث نرى كل جملة فيه على أنها شرح لأى جملة أخرى ، وكل قول يصح على الله فى موضع ، يصح عليه فى كل المواضع ، ولكن بعيدا عن هذه القراءة يأتى لنا مايلز ليفند النص التوراتى ، بحرفية أديب فنان واسع الإطلاع والمعرفة ، فبقلمه المتجاوز اللامحدود ، يأخذنا فى رحلة ممتعة إلى الأعماق السرية للعقل “الإلهى” متنقلا بنا من سفر إلى أخرفى العهد القديم ، لنكتشف أننا أمام دراما حقيقية تتصاعد أحداثها فترة ، وتخفو فترة ، ثم تعاود لتتصاعد وتتأزم ، لنجد أنفسنا أخيرا أمام شخصية الله بكل ما فيها من غنى، وخصوبة ، وقسوة ، وتعقد ،  بل وتردد ، فالإله المتردد الحائر، يحاول أن يجد نفسه فينا ربما كان ذلك سبب خلقه لنا 00!!

الإله يخلق الإنسان على صورته

يقول مايلز : فى المعتقد الدينى خلق الله الإنسان على صورته ، سواء ذكر أو أنثى ، ولقد أجتهد أجدادنا قرون طويلة كى يبلغوا الكمال على صورة إلاههم ، فمحاكاة الله ، مقولة أساسية فى الإيمان اليهودى مثل محاكاة المسيح أوالإله ، الذى تجسد بهيئة البشرالمقولة الأساسية فى الإيمان المسيحى .

من أين جاءت فكرة الله الرصينة فى أذهان الجميع ؟

تساؤل يطرحه مايلز ليأتيه الجواب من الكتب المقدسة ، وبعبارة أدق من أولئك الذين كتبوا الكتاب المقدس ، فالمؤمنون لا يرون الكتاب المقدس مجرد كلمات عن الله بل أيضا يمثل لهم كلمة الله ، فالإله هو “مؤلفه”، فضلا عن كونه شخصيته الرئيسية وسواء كان الأقدمون الذين كتبوا الكتاب المقدس قد أبدعوا الله ، أو إكتفوا بتدوين وحيه ، فإن عملهم هذا حقق نجاحا باهرا ، فمنذ آلاف السنيين وهو يتلى جهارا كل إسبوع على جمهور يتلقاه بكل جدية ، فمن الصعب أن نجد للكتاب المقدس ، نظيرا فى الأدب الغربى ،  أوفى الآداب الأخرى .

هنا قد يتبادر إلى الذهن تساؤل أين القرآن من طرح مايلز ؟

يقول مايلز : ” لم نشير للقرآن لأن المسلمين لا يعتبرون القرآن أدبا ، بل يحتل لديهم منزلة ميتافيزيقية خاصة تماما ،أما اليهود والمسيحيين ففى الوقت الذى يجلون فيه الكتاب المقدس ، فإنهم لا ينكرون أنه عمل أدبى أيضا  ، لذلك من الممكن تناوله من هذه الناحية دون الوقوع فى المعصية ” على حد قول مايلز .

الله كما يحاول مايلز أن يظهره هو مزيج من شخصيات عديدة فى خلق واحد، والتوتر القائم بين هذه الشخصيات جميعا ، يجعل من الله أمر عسيرا يصعب التوصل إليه .

 مايلزينظر للكتاب المقدس على أنه أحد كلاسيكيات الأدب العالمى ، وبما أن الله أو الرب الإله هو الشخصية الرئيسية فى هذا الكتاب يقول مايلز: ” لايعنينى الكتابة مع أو ضد الرب الإله بوصفه واقعا لايطاله الأدب ”  فهو يتحدث عن الله بإعتباره شخصية أدبية .

يشير مايلز قائلا : ” السرد الذى يمثله الكتاب المقدس العبرانى ، ليس سردا واحدا مستقلا، فقبل منتصف النص مباسرة ينقطع السرد ، والتالى يكون كلمات أو خطب ألقاها الله ، وثانيا كلمات أوخطب ألقيت له أو عنه بصورة من الصور ، وثالثا صمت مديد ثم أخيرا ذلك الإستئناف المقتضب للسرد قبل القفلة الختامية ، وهكذا فالتشويق السردى من سفر التكوين إلى سفر الملوك الثانى ، يعقبه بعد ذلك نوع أخر من التشويق أشبه بالتشويق الذى يشعر به المحلفون فى المحكمة  .

فبعد أن يخلى الفعل مكانه للقول فى الكتاب المقدس ،  فإن القول يخلى مكانه للصمت ، فكلمات الرب الأخيرة هى تلك التى قالها لأيوب الكائن البشرى ، الذى تجاسر على تحدي قوته الأخلاقية لا قوته المادية ، وعلى الرغم من أن رد الله الساحق والحاسم ، يبدو وكأنه يسكت أيوب ، فإننا نجد بعد هذا السفرأن أيوب هو الذى يسكت الله بصورة من الصور،  فالله لن يتكلم مرة أخرى بعد ذلك ، وإنما سيزداد الكلام عليه ، وحتى فى سفر إستير حيث يواجه شعبه عدوا يحاول إبادته ، فإننا نكاد لا نجد له أى ذكر ، ونرى اليهود يتغلبون على هذا الخطر من دونه

تنقلنا هذه النقلة من الفعل إلى القول ثم إلى الصمت ما يمكن أن نسميه سيرة لاهوتية ، فقراءة الكتاب المقدس بطريقة متسلسلة دقيقة تكشف لنا التعاقب والتطور فى شخصيته الرئيسية ألا وهى “الرب الإله ”  .

توجد فكرة لا يكف كتاب الكتاب المقدس عن ترددها ” أننا لا نستطيع أن نكون مفهوما عن الله بتعابير بشرية”  لكن “مايلز” يرى أن إزاحة التركيزعن الفاعلين البشر وتسليطه على الفاعل “الإلهى “هى النقلة المنهجية الأساسية فى إعادة قراءتنا هذه وهى السبب الذى يدعونا إلى إعتباره نوعا من السيرة ، فلابد أن تظهر شخصية الفاعل الإله ،عبر مجموعة من الأسئلة النقدية الأكثر إلتصاقا بذاته ،والمختلفة عن أسئلة البحث التاريخى ، فلماذا خلق الله العالم ؟ لماذا سارع إلى تدميره إبان خلقه ؟ لماذا تحول فجأه إلى محارب على الرغم أنه لم يبدى أى إهتمام بالحرب لفترة طويلة ؟ ما العوامل التى لاحت له حين بدا عهده مع بنى إسرائيل على وشك الإنتهاء ؟ كيف عاش حياته ككائن من غير أب أو أم أوزوجة أو بنيين ؟ لا يطرح البحث التاريخى مثل هذه الأسئلة ولا حتى يحاول الإجابة عنها أم النقد فيفعل على حد تعبير مايلز  .

لتكن البداية مع سفر التكوين لنرى ما سيروى لنا الإله عن ذاته ، إ نه يكلم نفسه الآن فالكائنات الحية لم تخلق بعد كى تسمعه ,أما الكائنات السماوية الآخرى ، فلا يكاد يأبه لها ، ولن يخاطبها إلا نادرا ، وبصورة عابرة وهى تأخذ دور المتفرج ، فى أفضل الأحوال لا دور المساهمة .

فهناك على وجه الغمر ظلام ، وروح الله يرف على وجه الماء ، وقال ” ليكن ماء ” فكان ماء ، أول أمر إلهى ، ولا أدرى لماذا صيغة الأمرهنا ، فليس هناك من يأمر نفسه ، ثم تتوالى أوامر الخلق فى أيامه السته .

الإله يكلم نفسه ، لا يتكلم عنها ،  فهو لا يقول من هو أوما الذى هو عازم عليه ، العبارات التى يتفوه بها قاطعة ، لا يراد لها أن تنقل شيئا لأحد ،  أو أن تفسر شيئا ، إنما أن تتحقق وحسب ، وخاصة أولى عباراته “ليكن نور” كأن هذا المشهد لا يحتاج لسارد .

نحن هنا نرى عمل جارى ، وما يستوقفنا فى الفاعل هوأنه يتكلم دون أدنى تردد ، مع أنه لا يكلم سوى نفسه فهو لا يتسلى ، يوجد شىء ما واضح فى ذهنه ، وكل مرحلة من مراحل مشروعه ، تؤدى إلى الأخرى ،  دون إبطاء بل بأشد ما يكون السرعة ، فالنور أولا، ومن ثم قبة السماء، والماء من فوقها ، ومن تحتها بعد ذلك فصل الماء السفلى ، كى تظهر اليابسة ، ثم إنبات اليابسة ، التى إنحسرعنها الماء حديثا ، ثم الشمس ،القمر ، النجوم ، المخلوقات الحية ، ووحوش الأرض الآن وبعد أن أصبح كل شىءجاهزصدرت ذبذبة ، كلمة  شارحة تفسر لماذا كل ما سبق إنها “صورة ” فالإله يريد صورة له ” لنصنع الإنسان على صورتنا ” إذن الخالق يخلق عالما لأنه يريد إنسانا ، وهويريد إنسان لأنه يرغب بصورة ، لا شك بواعث أخرى كان يمكن لها أن تدفع إلى هذا الخلق ، كأن يرغب الإله بخادم شأن كل آلهة الشرق الآدنى القديمة ، يقول مايلز 

وكان يمكن له أن يرغب بمحب ،أو يرغب بمن يعبده ،إلا أنه حتى الآن لم يكن يريد الحب أو العبادة أو أى شىء أخر بل يريد صورة ، أما سبب ذلك مازال فى مجال التخمين .

يقول مايلز : يوجد حذروإحتراس فما الذى يخفيه الله ؟ الله يبدو وحيدا تماما دون زوجة ، أخ ، صديق ، خادم ، أو حتى وحش أسطورى ، فأية حياه هذه التى تختلف تماما عن حياة الإنسان هنا يمكن لنا أن نخمن وحسب .

يستطرد مايلزقائلا  : يوجد تناقض وتجاذب بشأن اليوم السادس من أيام الخلق الستة , فالإله يأمر الذكر والأنثى الذين فرغ حالا من خلقهما” أن إنمواوأكثروا وإملأوا الأرض وأخضعوها ”  مشيرا أن النص يقول “كان ذلك ” لكنه لم يكن كذلك فالذكر والأنثى لم يكونا فى تلك اللحظة قد كشفاعن نمائهما أو خصوبتهما بعد ، كما أنه كان بعد كل عملية خلق يستطرد قائلا “ورأى الله ذلك أنه حسن ”  إلا أنه لم يقل ذلك حين يتعلق الأمر بالإنسان ، فبعد ستة أيام يستريح الخالق فجأة ، ففى هذه اللحظة الأولى من تاريخه معنا ، هو مزيج من القوة والضغف ومن العزم والندم .

بعد أن إستوى كل شىء ثمة أوامر معينة وهناك محظورات لأول مرة وهى تبدو لخير الإنسان ومصلحته لكن يأتى السؤال إذا كان ينبغى على الإنسان أن يخضع الأرض كما فى رواية الخلق فلماذا إذن لا يسمح له بمعرفة الخير والشر ؟

 إنه تساؤل سنجيب عنه فى قراءاتنا القادمة . 

كاتبة مصرية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube