مقالات الرأي

قراءة فى كتاب الفتوحات الإسلامية كما رآها المغلوبون

بقلم :جيهان خليفة / حرة بريس

يقول “وول ديورانت” فى كتابة “قصة الحضارة”  : “معظم التاريخ ظن وبقيته من إملاء الهوى” لعل ذلك ينطبق علي ما برمج به عقلنا الجمعى المسلوب منذ الصغر والمفتون بما تسمى ظلما فتوحات إسلامية وهى بعيدة كل البعد عن الإسلام وكما قال عنها الداعية “نشأت ذارع ” فهى فتوحات سياسية مثلها تماما مثل الحملات الصليبية وبمقاييس حقوق الإنسان حاليا تعتبر مجازر ضد الإنسانية فصيحات السيوف التى ملأت كتب تاريخنا الأشبه بحكايات وأقاصيص الجدات والبعيدة كل البعد عن الكتابات العلمية النقدية الرصينة الأمر الذى  جعل الكثير من المستشرقين الغرب يعذفون عنها وعن إعتمادها كمصدر موثوق به لتدوين الأحداث التاريخية لأنها لا تتماشى مع الرواية العلمية والنقدية للأحداث التى تتبناها مناهج البحث الحديث .

ولكن ومع ظهور كتابات جادة إعتمدت هذه المناهج تكشف لنا الكثير والكثير من المغالطات والتهويل بل والتزييف للعديد من هذه الفتوحات التى ملأت الأرض شرقا وغربا ولعل كتاب حسام عيتانى ” الفتوحات العربية فى روايات المغلوبين ” أحد هذه الكتابات الجادة ، حيث يحاول الكاتب سرد قصص الفتوحات العربية ، كما رآها ثم رواها إخباريو بيزنطية وفارس ومصر والصين والأندلس والسريان وغيرهم .

ومن خلال سرد ممتع يرى “عيتانى ” أن مؤلفات الكتاب العرب الذين تناولوا الفتوحات نموذج للوقوع فى أسر الخطاب الصادرعن الذات والموجه إليها ، رغم أن الفتوحات إستهدفت بلاد الآخر وأراضيه ، وسعت إلى تغير عقيدته ، وضمه إلى الدين الجديد ، وسط حملات عسكرية ودعوية واضحة وصريحة ، ولم تتوقف هذه الفتوحات إلا وكان العرب كما الشعوب الأخرى ، قد إنتقلوا من حال إلى حال . 

المشكلة التى يحاول هذا الكتاب فى تظهيرها وطرحها للنقاش العام لا تتعلق بصواب أو خطأ ما قاله “ثيوفانس “أو “سوفرونيوس” أو “الفردوسى”  عن العرب والمسلمين ولا فى تسويد أو تبيض صورة هذه الفتوحات عند القارىء المعاصر، بل تكمن فى نقل كلام هؤلاء إلى حيز الوعى “النقدى” العربى عن أنفسهم قديما فى سبيل فهم ما عن الصورة التى يكونها العالم عنهم حديثا .

يقول “عيتانى”:” إن تحديد بلاد العرب الأصلية التى إنطلقوا منها فى فتوحاتهم يبدو غامض فى المصادر، بالرغم من أن العديد منها يرجح مجيئهم من البوادى العربية ، إلا أن بعض المؤرخين الأقرب زمنيا إلى زمن الفتوحات ومنهم “سيبيوس ” ينقلون عن شهود قولهم إن أبناء إسماعيل جاءوا من شبه جزيرة سيناء ، فى حين يرى أخرون أن السراسنة “أى العرب” جاءوا من منطقة القوقاز والمناطق المحيطة ببحر قزوين وذلك من أمثال فريد غار . 

ويشير الباحث إلى أن مسألة أصل الغزاه الفاتحين عبر التاريخ لم تشغل بال الشعوب والدول المصابة بالغزوات ، فالبلاد التى أصابتها الغزوات ، نظرت للعرب الفاتحين على أنهم كارثة حلت عليهم ، ولم تبدى إهتمام بالتقرب إلى معتقداتهم وأفكارهم ، وطرق معيشتهم ، وبناهم الإجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، إلا عندما إستقر العرب فى بلاد العراق وإسبانيا وبلاد الشام .

ويوضح عيتانى أن العلماء الغربيون عندما حاولو إعادة إكتشاف العرب منذ القرن السابع عشر وجدوا أن ما يمكن الخروج به من النصوص العربية التاريخية والدينية لا تساعد على وضع رواية “متماسكة” و”متسلسة” منطقيا لعلاقة العرب كشعب موجود فى الواقع،  بالعرب الذين تحدثت عنهم التوراة ، ولفكرة إنتقال الدين الإبراهيمى إليهم ، وتبرز كلمة لطالما أثارت إهتمام العلماء من دون أن يعثروا لها على تفسير وتعليل يتخطى الإقتراحات وهى كلمة “حنيف” وجمعها “أحناف ” التى يمكن إعتبارها مفتاحا فى شرح إنتقال الإيمان الإبراهيمى إلى العرب مشيرا إلى أن هذه الكلمة وردت فى القرآن فى عبارة “مله إبراهيم حنيفا ” والتى تكررت فى خمس سور فى القرآن وهى البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والأنعام ، والنحل ، .. فكلمة “ملة ” تعنى بالعبرية “العضو الذكرى ”  وبما أن الختان من أصول الدين اليهودى فقد أشار الناموس الدينى إلى كل من إختتن على أنه قد دخل فى ذمه وعهد إبراهيم الخليل ومن هنا أطلق على كل من أختتن تعبير “مله إبراهيم” لكن الختان لا يؤدى وحده إلى الإيمان باليهودية لأن هناك شروط أخرى لابد من توافرها، كإعلان الدخول فى الديانة التوحيدية الإسرائيلة ، وإتباع ما تأمر به التوراة ،وإجتناب ما تنهى عنه ، لذلك أطلق اليهود على كل من يختتن من دون أن يعتنق اليهودية إسم حنيف ، أى غير الصالح ، فالختان هنا غير وافى الشروط اليهودية ،  ويشير الباحث أنه فى لسان العرب ما يشير إلى هذا المعنى ، ففى أحد المصادر “الحنيف ” هو “المائل من الخير الى الشر ومن الشر إلى الخير” ولكن هذا التفسير ينهار سريعا كما يؤكد الباحث مع إفتراض “ثيودورنولدكة ” بأن مله الواردة فى القرآن ، مستعارة من الغة الآرامية وتعنى “كلمة “وأنها ترد فى النص الإسلامى (دين ) .

ممن تكونت جيوش الفتح العربية ؟

يقول عيتانى : “جانب أخر تشير إليه المصادر الغربية ويهمله المؤرخون العرب المعاصرون هو ذلك المتعلق بتركيبة جيوش الفتح العربية من الناحية البشرية ، فالمصادر توضح إنضمام عدد من العرب ، الذين لا يعلمون من الإسلام غير إسمه فقد ضمت الجيوش إلى جانب حديثى الإسلام ،خلائط من البدو ، والحضر،  والعرب ، والمسيحيين ، بل من مذاهب كنسية عده ، وذلك بحسب ما يفهم من أقوال الأسقف “يوحنا من فنك” أشارإلى أنه كان بينهم عدد كبير من المسحيين المهرطقين “المونوفيزيين “و”النساطرة ” ” 00هذه الملاحظة تفتح بابا واسعا من النقاش لم يأخذ الإهتمام الكافى من الباحثيين ، ممن تكونت جيوش الفتح العربى سواء على المستوى العرقى أو الدينى وبالرغم من أن المصادر العربية تبدو شحيحة فى المعلومات ، عن الإنتماءات الدينية للمشاركين العرب فى الموجة الأولى من الفتوحات ، فقد كان عدد كبير من القبائل العربية ، يدين بالمسيحية على إختلاف كنائسها ، فقبائل تغلب ولخم وجذام وأياد وغيرها من القبائل التى كانت على تخوم مملكتى الغساسنة واللخميين فى الحيرة والشام من القبائل التى إنتشرت فيها المسيحية ،  فقد هاجرت قبيلة أياد إلى عمق الأراضى البيزنطية رافضة الإسلام فى حين أن قبيلة تغلب الأكثرعددا شاركت فى الفتوحات .

وعن التاريخ المتفق عليه إصطلاحيا لبدء الفتوحات يرى عيتانى أن عام 634م هو التاريخ المتفق عليه أى بعد عامين من وفاه الرسول ،  وبعد قمع حركات الردة ، خلال هذه الأثناء ألمت بالأمبراطورية الرومانية أزمة فى القرن الثالث ، أدت إلى ظهور مملكتين مستقليتين عمليا فى الغرب وفى الشرق ، هدد ذلك بإنهيار الإمبراطوربة ذاتها ، وحفزت على تولى العسكريين شؤون الحكم ووضع الجيش فى مقدمة أدواته ، ووصل ذلك إلى ذروته مع تولى “ديوقليتيانوس”  الذى أعاد الحكم المركزى بالقوه ، وقمع الإنتفاضة الفلاحية فى مصر، فى خطوه سيكون لها صدى عميق فى تاريخ العلاقات بين الرومان والكنيسة القبطبة ، ومنع السكان المحللين من إمتلاك أسلحة مما سيكون له أثره بعد ذلك ، ناهيك عن الحروب المستمرة بين الإمبراطوريتين الساسانية والرومانية التى أنهكت كلا الدولتيين . وبشبه إجماع إعتبرت الشعوب المغلوبه الفتوحات عقاب من الله على ذنوب سابقة ، تعود الى الخلافات الداخلية بين الكنائس المختلفة ، فقد توقع كتاب “الحوليات”  و”الكهنه ” حدوث الفتوحات ، وجاءت فى أكثر من مصدر قديم عن سيوف من شهب ظهرت فى سماء سوريا ،وبلاد مابين النهرين، قبل أعوام أوأشهر من بدايتها . 

ما أسباب الفتوحات العربية ؟

يرى عيتانى أن الإدانه الشديدة للغارات العربية فى كلام “سوفرونيوس ” لا توضح سبب الغارات العربية مشيرا إلى وجود دلالة جاءت من مصدر قريب زمنيا من الفتوحات وهو المؤرخ “سيبيوس” حيث كتب أن رجلا من العرب ظهر وأعاد الإعتبار إلى صلة النسب التى تربطهم بإسماعيل وقرر دفع بنى قومه إلى إستعادة الأرض الموعودة فى فلسطين ويرى “وليام موبير” أن التزايد السكانى فى شبه الجزيرة العربية كان السبب وذلك يرفضه “ليوتى كاتيانى “موضحا أن أعداد العرب كانت قليلة ولكنه لم ينفى وجود مشكلة إقتصادية جراء القحط دفع العرب الى الهجرة أما “هنرى لامنس ” فيرجعها إلى طبيعة العرب الميالة للقتال والغزو بينما يرجح “موريس كانورد ” وجود قادة أكفاء فى الجانب العربى ،وضعف الجانب الفارسى والبيزنطى،  بالإضافة إلى الأسباب الإقتصادية والدينية ، ويوجد بلاشك وبحسب “دونر” وعدد من المشتسرقيين دوافع سياسية وإستراتيجية ، وضعت سوريا فى رأس أولويات النبى “محمد” و”الخلفاء” ، فبعد حروب الردة أصبح واضحا أن بقاء الدولة والدين الجديدين يتحتم ضم القبائل الرحل فى الأجزاء الشمالية القريبة من الحجاز فى المقام الأول ، والمدن والبلدان التى يقطنها الحضر . 

مما سبق يتضح لنا أن الخطوط العريضة لفهم مؤرخى ومستشرقى القرنيين التاسع عشر والعشرين الأوربيين والأمريكيين ظاهرة الفتوحات كانت بعيدة ، عن تصورات كتاب الحوليات من البيزنطيين والفرس ، أومن مسحيين المشرق فى القرن السابع والثامن الميلادى الذين ربطوا الفتوحات بمعطيات الغيب ، فقد كانت المعطيات المعرفية لديهم لم تتجاوز الأدبيات الدينية واللاهوتية التى سادت ، بعد انحسار الحضارة الهلينة العقلانية بعد صراع مرير مع الوعى الدينى آن ذاك . 

ويرى عيتانى أنه إذا وضع الدين فى مقام الإيدولوجيا لعصور ما قبل الحداثة فإن التطور المرحلى للإسلام ذاته ، لم يكن بعيدا عن التفاعلات الحضارية والسياسية العميقة ، التى عاشها مسيحيو المشرق فى الشام بالدرجة الأولى ، وفى العراق ومصر ثانيا  ، و يشير ما سبق إلى أن الإسلام بنشأته دينا وبإقامته دولة لم يكن بمنأى عن الحركات السياسية والدينية التى كانت الإمبراطوريتين تشهدهما منذ القرن الثالث الميلادى على أقل تقدير، ويرمى الكاتب إلى أن مسائل مثل إنتشار المسيحية فى شبه الجزيرة العربية ، وإنتماءات عدد ممن تعرف عليهم النبى محمد عن قرب ، وتعرف على إعتقاداتهم الدينية ، لا تزال من الموضوعات التى تتطلب بحثا فى تاريخ الإسلام وعلاقته بالأديان السابقة عليه .

*كاتبة مصرية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube