اقواس

بالأحمر: السر الدفين … صندوق الباشا

عبد العزيز بنصالح كاتب و فاعل مدني

انا رحال ، رحال المسكيني ، العمر 75سنة ، رجل اعمال : مقاول وصاحب شركات ووكالات اسفار ، املاك عقارية واراضي لا حصر لها . عضو في البرلمان على مدى ثلاثة عقود … دائرتي الانتخابية كأنها جزء من املاكي… لا احد ينافسني فيها … الحاج رحال . الكل يهتف باسمي صغيرا وكبيرا … صبيان ،شبابا وشيبا . انا ملك متوج بدون امارة… انا الحاج رحال، حكايتي ابتدأت نهاية الستينيات .
الفصل فصل شتاء كانت سماء العاصمة تفرغ امطارها الغزيرة غير المنقطعة تغسل ادران التاريخ القريب… زمنئذ كنت طالبا بكلية الحقوق قادما اليها من مدرسة الاعيان فرنسي اللسان … فجر الاستقلال كان قد انبلج … في الحي الاوروبي كان والدي قد اكترى لي شقة انيقة ، كانت فيما سبق يسكنها المسيو جيروم المعمر صاحب حانات العاصمة … من وراء زجاج النافذة كان يظهر المحيط الاطلسي غاضبا بأمواجه العاتية وخيوط المطر متصلة ومتواصلة… سماء الرباط تبلدها الغيوم الداكنة التى تشي بمزيد من الغيث المدرار… وسط الصالة المدفأة تلتهم الحطب وترسل دفئها في الفضاء … كلثوم ، آه كلثوم ابنة الكوميسير الدباغ … كانت منكمشة في بنوارها القطني كقطة اليفة… كانت خارجة لتوها من الحمام ، رشيقة كالنعامة ، صدرها البارز في اعتدال كان يثيرني الى حد الجنون… الصافي الدباغ من رجالات الامن في فجر الاستقلال معروف عنه قسوته وبطشه بالمعارضين السياسيين…
كلثوم كانت زميلتي في كلية الحقوق … نشأت بيننا دون ترتيب علاقة حب … كانت مجازفة مني ان اقيم علاقة مع ابنة الكوميسير السفاح… انما الحب لا منطق له ولا حسابات . افرغت كلثوم ما تبقى من زجاجة النبيذ الأحمر وهي تتطوح ذات اليمين وذات الشمال… كان لهيب المدفأة قد اوقدها شهوة ونارا وقادة… فتحت الخزانة السرية وسحبت زجاجة نبيد أخرى … فغرت فمها بأندهاش ، وقالت : اولد لحرام ، عندك كنز ؟ كلمة كنر اعادتني الى رشدي … فتحت القنيقة المعتقة وملأت كأسينا… احتضنتها … دفنت رأسها في صدري … في لحظة انتشاء امتدت يدي الي نهديها العاريتان… استسلمت كلثوم واستكانت … قلت لها فعلا انا عندي كنر ، ليس كنز النبيد . انما كنز من الذهب والياقوت والمرجان … انتفظت كلثوم واستقامت … حدجتني باستغراب وقالت : واش سكرتي المسكيني؟ انا عارفا : نتموا بني مسكين عندكم نصف عقيل. قلت لها بشموخ وكبرياء نحن اصحاب عقول من ذهب . كلثوم كانت تسحرني بقوامها الرشيق وجمالها الأخاذ … نعم في بيتنا كنز لا اعرف كنهه… رمتني كلثوم بسهام عيونها ونومتني مغناطيسيا … وحكيت …

جذبتها الى احضاني اعتصرتها … اخذت قنينة النبيذ ملأت الكأسين اوقدت سيجارة … زفرت دخانها في وجهي ، وقالت : عاودلي على هاد الكنز؟
اكلت شفتيها الرقيقتين عجنت نهديها … وحكيت بلا قيود:
تسمعين ولا شك عن عياد المسكيني ، جدي . وتسمعين عن الباشا موحا العلاوي ، باشا الحوز وسوس . العلاوي كان مقاوما فذا في عشرنيات القرن ، قاد عدة عمليات جهادية ضد المستعمر الى ان انكسرت المقاومة وتمكن المستعمر ، المستعمر كان ذكيا ورأى انه لكي يخضع البلاد لنفوذه ارتأى تجنيد زعماء المقاومة لخدمته فعينهم قواد وباشوات على مناطقهم . كان العلاوي واحدا منهم عينه المقيم العام على الحوز وسوس. انقلب العلاوي من مجاهد يذود عن حوزة الوطن الى عميل للاستعمار وخائن في نظر الأهالي. تكبر وتجبر وسطا على املاك المنطة واهاليها من اراضي وعقارات وصار ملكا متوجا بلا شعب . جدي ، عياد المسكيني ، كان حاجب الباشا العلاوي وكاتم اسراره . جدي كان مخلصا للباشا صاحب أمانة عز نظيرها. كان الباشا يكلفه بالاشراف على عملياته القذرة . منها اغتيال الوطنيين وسلب اراضي وممتلكات الاهالي وتوثيقها باسم الباشا . جدي كان عبدا مأمورا لتنفيذ جرائم الباشا، لكن ابدا لم يقتل نفسا ، وان كان شاهد على القتل. جدي استفاذ من نفوذ الباشا وحاز لنفسه بعض الاراضي والجنان والعقارات في عاصمة الحوز. الباشا كان يعلم ويغض عنه النظر مادام كلبا مخلصا مطيعا لأوامر الباشا وأفعاله الاجرامية.
في الاربعينيات اشدت ضربات المقاومة على المستعمر الذي انكهته الحرب العالمية الثانية ودخلت النازية عقر داره . وكما استهدفت المقاومة المسلحة المستعمر استهدفت عملاءه من القواد والباشوات الخونة . بدأت سطوة الباشا العلاوي تتراخى ونفوذه يتقلص ، وانقلب عليه مؤيدوه ماعدا جدي ظل وفيا للباشا ملاصقا له. منتصف الخمسينيات هل فجر الاستقلال ووجد الباشا نفسه عاريا من حماية المستعمر له. المستعمر لم ينس بعض عملائه النافذين، عرض على الباشا النفي المؤقت الى حين ان ينجلي المغرب الجديد. ذات ليل مقمر استدعى الباشا جدي على عجل اودعه صندوقا خشبيا كبيرا ، وقال له هذه أمانة احتفظ بها الى ان ينجلي هذا الليل البهيم . هرب الباشا وأبناؤه الى ميناء أنفا ومنها الى ديار المستعمر. جدي الامين ظل يحافظ على الوديعة ، الامانة التى أاتمن عليها ضاربا عليها نوعا من السرية التامة. جرت السنون وتبدلت الاحوال والمصالح ونسي المستعمر خدامه والمنفى المؤقت الذي كان يأمله الباشا صار منفى ابدي …. جدي لم بحظ بنسل من الذكور غير والدي واربعة بنات… فبل ان يدركه الموت سلم الوديعة لوالدي واوصاه باعادتها لأصحابها حين يسألون. مات جدي وآلت املاكه لوالدي … كنا من اغنياء ايام السيبة … جدي كان حريصا على تعليمي وبنفوذه سجلت في احدى مدارس الاعيان. والدي حرص بدوره على استكمال تعليمي لذلك ارسلني الى جامعة العاصمة مغدقا علي بالاموال والحياة الرغيدة، ولعل ما اسقط كلثوم في حبال حبي مظاهر الثراء التى كانت بادية علي… توقفت عن الحكي … اشعلت سيجارة وابتلعت كمية من الدخان زفرتها دفعة واحدة مكونة غمامة كالغيمة التى تلبد السماء البادية من وراء زجاج النافذة … كان المطر قد خف واستحال الى رذاذ خفيف… انتفضت كلثوم واندفع نهديها من خارج البرنص قائلة : والصندوق ؟ والباشا وولادو؟ قلت بعدما افرغت في جوفي بقايا كأس النبيذ: الصندوق مازال في حراسة والدي من وراء سبعة ابواب . جدي ووالدي اغبياء يعتقدان انهما يعهدان أمانة أأتمنا عليها بالوراثة . انما الحقيقة انهما يحرسان مسروقا لسارق ، اثخن في سرقة املاك العباد وخائن لله والوطن. الباشا واراه تراب المنفى البارد واولاده الخمسة ذكورا واناثا تفرقوا في اصقاع اوروبا ، ويبدو ان الباشا مات عاى حين غرة دون ان يعلمهم بالوديعة… استقامت كلثوم في اندهاش وهاجمتني تفترسني في شهوانية لم اعهدها منها…مرت أيام وتداولت، كانت احضان كلثوم والمدفأة يدفئاني من برد شتاء 1969…
تغيرت احوال كلثوم وصارت اكثر التصاقا بي ، لكنها كانت شاردة مشغولة مهمومة البال… لم يكن يشغلني من شرودها غير حضنها الدافئ الملتهب.كلثوم كانت فتاة متحررة على غير فتيات جيلها ، ربما يعود ذلك الى اختلاطها بالفرنسيات فوالدها كان يشغل ضابطا في الجيش الفرنسي . ذات مساء فأجأتني كلثوم انها ستقضي الليل معي وان ابواها سافرا في عطلة نهاية الاسبوع الى مدينة جبلية في الاطلس المتوسط مسقط راس والدها. لم يسبق لها ان قضت الليل في احضاني… في داخلي لم اكن مرتاحا لهذا الاقتراح وان هاجسا هاجمني… لم اكن انوي التورط مع كلثوم حتى يرتبط مصيري بمصيرها … كنت اعلم ان والدها صاحب سطوة ونفوذ بامكانه ان يخفيني وراء الشمس…
كاد الليل ان ينتصف وأنا انهش لحم كلثوم الطري … طرق الباب ، طرق بعنف… لملمت شتاتي وارتديت برنصا بلا ملابس اتجهت صوب الباب… كان صوتا حازما صارما … افتح … بوليس …بوليس .انكمشت كلثوم في مكانها وسترت نفسها بقميص النوم القطني … وبسبابتها كانت تشير علي ان لا افتح… احتد الصوت الآمر … افتح … افتح ، وبدأ الطرق على الباب بشكل هستيتري خلته سينخلع… في استسلام فتحت الباب . اندفع ثلاثة رجال شداد غلاض الى الداخل، تسمرت في مكاني ، تجمدت اطرافي وصرت ارتعد من فرط الرعب كأني خارج لتوي من تحت تلة الثلج… وقف الرجال الثلاثة متفرقين في زوايا البيت كأنهم اصنام لا حركة ولا سكون ولا كلام…
فجأة دخل رجل فاره الطول بشارب كث كأنه قوس الهلال… اشار بعينيه للرجال الثلاثة بالانسحاب اغلق الباب من ورائهم … اقدمت كلثوم وهي في حالة صدمة او هكذا خيل لي… جلس الرجل على الكنبة وافرد رجلية ، اشعل سيجارة ، نفث دخانها بعنف، وقال : سأمنحك ثلاثة ايام … يوم كذا انتظر والديك. أمر كلثوم وغادرا معا…. حيرني تصرف الكوميسير وتركني فريسة اسئلة محيرة. كان بأمكانه ان يقتلني دفاعا عن شرف ابنته او يزج بي في السجن بأية تهمة لن يعدمها وهو صاحب النفوذ والجبروت…. لم يكن امامي غير الانصياع …. في اليوم المعلوم ذهبت ووالدي الى فيلا الكوميسير… استقبل والدي بحفاوة مبالغ فيها … كنت مرعوبا خائفا من المصير الذي يهيؤه لي الكوميسير… بعد ضيافة بالشاي والحلويات اختلى والدي والكوميسير لوقت غير قصير… كلثوم مختفية لم اراها …. مر علي وقت اختلاء والدي بالكوميسير كأنه دهر… وأنا غارق في تكهناتي لمحت والدي والكوميسير وهما يخرجان من صالة فسيحة ضاحكان متوددان… في الباب ودعنا والد كلثوم بعناق حار مصطنع … ضاع تفكيري وانكمشت هواجسي الى حد ما… بادرني والدي في الثناء والاطراء على الكوميسير وأنه مكسب للنسب…
بدهاء من الكوميسير اجبرت على الزواج من كلثوم…. تداولت الايام وتوطدت العلاقة بين والدي وصهري . والدي استفاد من سلطة الكوميسير صار له ظهر يحميه ويحمي مصالحه.
ذات مساء قالت كلثوم ان والدها يريدني في أمر هام وحساس… استصافنا صهري ببذخ ظاهر ولأول مرة يعرض علي كأس نببذ فاخر … الكأس الاولى اسقطت كل الحواجز بيني وبينه فجرت وراءها كؤوس الى ان ذهب نصف وعي … استدعاني صهري الى مكتبه … اغلق الباب واخرج من خزانة زجاجية قنينية ويسكي، صب كأسين وناولني احداها … اوقد سيجارا غليضا ومال بجسمه الى الوراء … تأملني ، ثم عاد بجسمه الى الامام ، وقال: اسمع ارحال ما سأقوله لك هو سر أمني وعليك الاحتفاض به لنفسك ولا تبوح به حتى لكلثوم . عب كأس الويسكي ، وتابع : الدولة تحقق في اموال الخونة وممتلكاتهم وأن المعلومات الامنية تفيد ان جزء من هذه الثروة لم تخرج من البلاد . وأن من العائلات المتورطة في التستر على اموال الخونة عائلتكم وا المعلومات تؤكد صراحة ان جدك الذي كان حاجبا للباشا العلاوي اخفى وديعة بثروة الباشا. وبما أننا اصهار وأنت تعرف موقعي في الدولة لا بد من معالجة هذه القضية دون اثارة الغبار حول العائلة… اذهلني الكوميسير … وادركت الخديعة التى خطط لها باستعمال ابنته، كلثوم ، التى بحت لها في لحظة انشاء خمرجنسية بسر العائلة … وادركت ان ليلة القبض علينا متلبسين بجرم الزنا كان جزءا من المؤامرة…
بعدها بأيام اقتحم الكوميسير بمعية رجاله وخارج نطاق القانون بيت والدي وصادر الصندوق الوديعة بعد ان طمأن والدي انه لن يذكر اسمه في قضية المصادرة …
استولى الكوميسير على صندوق الذهب والمجوهرات والاحجار الكريمة التى كانت لها قيمة تاريخية ومادية…
الكوميسير الاخطبوط كانت له علاقات مشبوهة ومتشعبة مع الفرنسيين ، وكان من بينهم مسيو برينو تاجر المجوهرات ومهرب آثار بقلب العاصمة.
بيعت المجوهرات لمسيو برينو بملايين الفرنكات… اختفى مسيو برينو بعد أن هرب تلك الثروة التاريخية بمساعدة الكوميسير صاحب النفوذ .
الكوميسير كان كريما معي اعطاني جزءا من تلك الثروة على شرط ان تكون كلثوم شريكا فيها . ادركنا قانون المغربة كانت الفرصة مواتية لشراء شركات الاجانب الذين قرروا مغادرة البلاد .
توفي والدي وآلت ثروته الي بأعتباري ابنه الذكر من بين ثلاث اخوات. انهى انقلاب مطلع السبعينات نفوذ الكوميسير وسطوته ومصادرة املاكه … بعد عامين مات بحسرته … كانت كلثوم عاقر لم تنجب ربما لحسن حظي …. كما تأمرت علي تآمرت عليها وسلبتها كل نصيبها من الثروة المغتصبة … طلقتها ونسيت أمرها… كانت حقبة السبعينات مشرعة لاصحاب الاموال ان يغتنوا ويثروا بسرعة البرق….. انا اليوم على شفى النهاية واردت ان اتطهر من درن الدنيا . وان كنتم تسألونني : من اين لك هذا ؟ فتلكم هي الحكاية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube