اقواس

        فرنسا في قلب الزوبعة.

        فرنسا في قلب الزوبعة.

 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و انتصار الحلفاء على النازية ،  دخل العالم مرحلة جديدة ، جعلت من الاستقطاب الأيديولوجي أداة لتقسيم العالم إلى تكتلات كبرى ، كتلة  شرقية و أخرى غربية، فيما اختارت دول أخرى عدم الانحياز للحفاظ على علاقات متوازنة مع الشرق والغرب في آن واحد. 
كانت لخطة مارشال الدور الكبير في إعادة الحياة لأوروبا بشكل سريع و نقلها من آثار حرب مدمرة إلى دينامية جديدة، أعادت الحياة إلى مفاصلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية  و تولدت  رؤية سياسية لمصير أوروبا المشترك و أنتجت نخبة سياسية  وحدوية النظرة و التصور. و تمخض عن هذه النظرة السوق الأوروبية المشتركة و التي توسع إطارها ليشمل فيما بعد كل دول غرب أوروبا و بعد انهيار جدار برلين بعضا من  دول شرق أوروبا . أصبح الاتحاد الأوروبي إطارا سياسيا و قوة  اقتصادية كبرى بعد توحيد العملة بها، و مخاطبا قويا  في ما يتعلق ب مصالحه الحيوية و الاستراتيجية و شراكاته مع دول العالم الثالث بالخصوص و باقي دول العالم.
و قد لعبت الهيكلة السياسية دورا فعالا في تثبيت أركان الاتحاد الأوروبي و جعله منافسا قويا على كل الأصعدة . و قد تمت الاستفادة من هذه الهيكلة للتمكن من استخدامها في فرض شراكات مذلة مع جل شركاء العالم الثالث و على الأخص كل المستعمرات القديمة، بل تعدى ذلك لحد الابتزاز السياسي و التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، لتسليك المصالح بشكل بشع و فرض أجندتها الاستغلالية على شعوب تعاني اصلا من القهر السياسي و الاجتماعي.
فرنسا، صاحبة الشراكة بالخبزة مع مستعمراتها القديمة، و المستفيد الأكبر من ثروات افريقيا الطبيعية و البشرية ، استشعرت خطرا وجوديا يهدد مصالحها الحيوية و الاستراتيجية مع بروز تيارات مناهضة للوجود الفرنسي في تلك الدول، و التي تطالب بشراكة أكثر عدالة  مع الأقطاب الاقتصادية الكبرى في العالم و تنويعها لضمان حقوق الشعوب فيها.
كما ان صعود موجة التيارات اليمينية في أوروبا، زاد الطينة بلة  ، بحيث تصاعدت حدة العنصرية بشكل غير مسبوق و الكراهية للعنصر الأجنبي و بالخصوص العرب و الأفارقة.
و اعتقد ان التيارات السياسية في فرنسا، لم تستطع ان تتخلى عن عباءة الكبرياء و النظرة الدونية للآخر و لم تعط لمسألة الإدماج الأولوية و تتعامل معه في بعده الإنساني، حتى تتفادى الشرخ المجتمعي الذي يهدد الوحدة الوطنية لفرنسا.
و لعل الأحداث الأخيرة تنبئ بذلك، بحيث بدأت تتسع الهوة بين مكونات المجتمع الفرنسي و تزداد حدة  ، فأين عقل فرنسا و عقلاؤها و أين فرنسا من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، بل أين فرنسا من شعار ثورتها التاريخية. (Liberté -Égalité – Fraternité  )
إن ازدواجية الخطاب السياسي في الغرب عموما، جعل من النخبة السياسية أداة هدم بدلا من ان تكون أداة بناء لأوروبا موحدة، لغياب الرؤية المستقبلية و غياب الإرادة السياسية لدى معظم الأحزاب السياسية في أوروبا و ضيق الأفق السياسي لديها. و ما خروج ابريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا مؤشر عن بداية تفكك لاوصال هذا التجمع السياسي و الاقتصادي والاجتماعي و السوق الكبرى،  و خصوصا بعد صعود نجم التيارات اليمينية و الوطنية في معظم دول أوروبا و وصول بعضها للحكم.
موجة الكراهية و العنصرية ضد الآخر أو ظاهرة الاسلاموفوبيا ،عرفت تصاعدا تدريجي و خطير بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 و قد وصل مداها القمة في السنوات الأخيرة و لم تعد شماعة اليمين المتطرف فقط، بل سلوكا متبنيا من قبل اليمين و اليسار و كل الأحزاب السياسية في فرنسا و شماعة بعضا من النخبة المثقفة أيضا. و هذا في حد ذاته يشكل خطرا و خروجا عن فلسفة الأنوار التي نادت بالحرية والعدالة والمساواة، و  أصلت للمبادئ العامة لحقوق الإنسان.
فرنسا، تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يؤطر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و يعطي الأولوية لقضية الإدماج الاجتماعي، لتضييق الهوة بين مكونات المجتمع الفرنسي و أفراده و جعل الكفاءة عنوانا في الترقي الاجتماعي بدل الانتماء العرقي أو الطبقي أو السياسي أو الديني. كما أن إعادة تأهيل المنظومة التربوية والتعليمية لتساير التغيرات داخل المجتمع الفرنسي ،أصبح أولوية قصوى لتغليب منطق الوطن للكل بدل الانتماءات الضيقة أيديولوجية كانت أو عرقية أو غير ذلك.
فرنسا بنخبها و مثقفيها و سياسييها فشلت في ترسيخ أفكار التنوير داخل التركيبة المجتمعية و خلقت فجوة بين طبقات المجتمع الفرنسي، خلقت طبقية من نوع مختلف، جدار بين مكونات المجتمع الفرنسي  ،فواصل عرقية و اثنية و دينية، و بهذا ازدادت حدة التوتر بين هذه المكونات المجتمعية، و ما زاد من تأزم الوضع صعود التيارات اليمينية المتطرفة و بعثها إشارات إلى باقي مكونات المجتمع الفرنسي و خصوصا المهاجرين ، إشارات سلبية و عدائية، تساعد على تغذية العنصرية بأشكالها المقيتة.
فرنسا تعيش مخاضا سياسيا واجتماعيا عصيبا.

أحمد الونزاني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube