اقواسمستجدات

        قعر الزجاجة.《 1》\2

      

أحمد بن العربي الونزاني

دائما أتساءل متى نطلع من عنق الزجاجة؟هكذا كان يردد العم خليفة، و هو يحس بالغبن من أحوال هذا البلد التي لا تتغير ظروفه و يصبح ك تلك البلدان المتقدمة، اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا و حقوقيا. يقول العم خليفة، منذ ولدت و الفقر يتبعني ك ظلي ، اعمل بكد و اجتهاد منذ نعومة اظافري و لا احصل إلا على فتات، اعيش عيشة الذبانة في البطانة، كنت أتمنى أن أملك منزلا و سيارة، لكن اليد قصيرة و العين بصيرة، عيش لا تموت، ما اكتسبناه نهارا لا يكفينا حتى لسد الرمق في الليل. كان الشاف، موحا يقول بأننا سنخرج من عنق الزجاجة في خمسينيات القرن الماضي، مع بزوغ فجر الاستقلال، الآن الفرنسيس خرجوا من البلاد، و الامور ستكون في احسن حال، و كان يردد  شعاره  الدائم  : إلى خيابت دبا تزيان .فعلا كانت الآمال معقودة على تحسن أحوال الناس و ظروفهم الاجتماعية و المادية، لكن الله غالب، ربما تعقد المشهد السياسي يكون من بين الأسباب التي أدت إلى حالة الجمود هذه و دخول البلاد في متاهات الحسابات الضيقة، الأسباب كثيرة و معقدة و تحتمل عدة قراءات  و تفسيرات و التاريخ وحده كفيل بكشف حقائق حقبة تاريخية ك  هاته . كان العم خليفة يشتغل في أحد المصانع المختصة في التصبير و كان معظم العمال من الضواحي الهامشية للمدينة الحمراء، و لهذا السبب ف الشركة وضعت شاحنة كبيرة لنقل هؤلاء العمال كل صباح عند نقطة التقاء معلومة ثم  إعادتهم لنفس النقطة عند  كل مساء. فيما كان العمال القاطنين بالمدينة يستعملون وسائل النقل العام أو الخاص بهم من دراجات نارية و عادية. كان لدى الشاف موحا دراجة نارية من نوع موبيليت بيضاء،فيما كان العم خليفة يستقل دراجته العادية من نوع بوجو. عادة يبدأ العمال مع الساعة السابعة صباحا حتى الواحدة زوالا، ثم يستأنف العمل بعد وجبة الغداء سريعا عند الثانية زوالا و تستمر الوردية إلى حدود العاشرة مساء، إلا أنه في مواسم معلومة قد تدوم الوردية حتى منتصف الليل أو أكثر. لا أحد يجرؤ على التذمر لأن هذا حال كل المصانع والشركات، و كما يقول الشاف موحا :الذي لا يعجبه الحال الباب أكبر من كتفيه، الباب أ الاحباب. كانت لهمسات بعض العمال و خصوصا الموسميين ردة فعل قوية من الشاف موحا و حتى الحارس السيد بوشعيب. كانت ساعات العمل طويلة و مضنية، لكن كانت تتخللها ومضات فكاهية تخرجنا من ذلك  الروتين اليومي الممل، كما كانت ساعة استراحة الغذاء تعيد إلينا بسمة الحياة  و نقاشات  ساخنة بين العمال حول ظروف الحياة و مآلات مرحلة ما بعد الاستقلال و العمل النقابي و الانتماءات السياسية. كان مستوى الحس الوطني عاليا، و الانتظارات كذلك كانت مرتفعة. كان الشاف موحا يحب كثيرا العم خليفة لذلك فهو غالبا ما ينصحه بعدم التنقب و عدم تزعم اي حركة عمالية داخل المصنع، لأن ذلك سوف يعرضه لعواقب وخيمة. كانت علامات عدم  الرضى واضحة على وجه العم خليفة، فهو يرى تناقضات كبيرة بين المأمول و احلام ما بعد الاستقلال و واقع الحال المر الذي يعيش عليه معظم الناس. كان يحز في نفسه نظرات الخيبة التي يراها في عيون الشباب مع صعوبات الحياة المريرة، شباب فقد الأمل في حضن ذلك الوطن المنشود، وطن يعطي بسخاء للمتزلفين و الوصوليين و الغرباء ،وطن تحول إلى أكبر غرفة انتظار، انتظار لتلك  الفرص التي قد لا تأتي. بين التمني بحدوث الإصلاح الشامل، لتصلح أحوال البلاد والعباد و الإنتظار و وعود الساسة و السياسيين ،كان العم خليفة متشبتا بحلم التغيير المنشود، حلم لا طالما راوده و هو في ريعان شبابه ، أثناء خروجه في مظاهرات ضد السلطة الاستعمارية، حلم الدولة المستقلة و دولة المواطنة الحقة و دولة تكافؤ الفرص، حيث التعليم للجميع و الرعاية الصحية المجانية للجميع و حلم الحرية و الانعتاق .كانت الأحلام كبيرة و الوعود كثيرة، و لذلك كان العم خليفة يتساءل عما حدث لنقف في مكاننا كل هذا الوقت، لم نتحرك أو نتقدم قيد أنملة. غير  ان الفوارق الاجتماعية بدأت في الظهور، و يبدو ان مجتمعا طبقيا قيد التشكيل، طبقية من نوع آخر حيث الفروق صادمة بين من يملك كل شيء و من لا حظ له أو لا حق له في الحياة. كان الشاف موحا، أحد هؤلاء المتسلقين في الهرم المجتمعي، فقد أصبح مديرا تجاريا للمصنع بحكم تجربته و احتكاكه بالوكلاء التجاريين و الفلاحين و سوق الاستيراد والتصدير  و فوق هذا الثقة العمياء للباطرون فيه، من حيث ضبط الأمور داخل المصنع. أصبح لدى الشاف موحا سيارة خاصة، بل و سائق خاص تحت أمره . بدى أن الشاف موحا قد أخذ حظه من حياة الرفاه و زخرفها و صار لديه مكتب خاص به، لاستقبال الطلبيات و الاستعلام عن الحاجيات. كل شيء تغير في حياة الشاف موحا، الهندام و طريقة التحدث مع العمال و عادات العمل داخل المصنع و خارجه، حتى طريقة مشيته و نظرته تغيرت كثيرا، فقد سار سيرة علية القوم. كان العم خليفة يلاحظ تلك التغييرات الكبيرة التي طرأت على حياة الشاف موحا بتلك السرعة !.

قعر الزجاجة .《2》

فيما كان الشاف موحا يرتقي في السلم الاجتماعي و يتحول إلى برجوازي من الدرجة الثانية ، كان العم خليفة، ذلك العامل البسيط المتفاني في عمله يصبح الشاف الجديد داخل المصنع، لكنه كان بمواصفات أكثر إنسانية عن سابقه الشاف موحا، بحيث كانت له مميزات الإنسان الخلوق و أكثر إلحاحا في تحسين ظروف العمل للعمال اولا و الربط بين الكفاءة المهنية و المردودية و الأجر داخل المصنع. كان العم خليفة ملحا في أن يتمتع العمال بكل حقوقهم المشروعة القانونية و الاجتماعية، لأنه كلما احس العامل بالتحفيز و القيمة الاعتبارية إلا و كان المردود عاليا، و عاد ذلك بالخير على الشركة و ساعد على تزايد رأسمالها المادي و المعنوي.
بين الترقي و الإرتقاء في السلم الاجتماعي بسرعة البرق ، وبين النضال المستميت لنيل فتات يضمن بعضا من الكرامة الإنسانية في الصراع البروليتاري و الطبقي. عاش كل من الشاف موحا و العم خليفة الحياة بآمالها العريضة و بانكساراتها المفاجئة، و بلحظاتها السعيدة و تلك التي كانت بطعم المرارة.
كانت الآمال كبيرة في تحسن الظروف الاجتماعية للطبقة العاملة، بالنظر إلى أن البلاد كانت ورشة مفتوحة و الفرص الاستثمارية بها كثيرة. لكن الجدية و المعقول و العطاء للوطن، دون حسابات ضيقة غاب عن المشهد السياسي و الاقتصادي و الثقافي في البلاد. الريع و الزبونية و المحسوبية و الوصولية طغوا أكثر و كان التقهقر فظيعا في كل المجالات.
يقول العم خليفة، بأن لغة المصالح الشخصية و الفئوية طغت على الساحة السياسية، مما أدى إلى تأخرنا أشواط و سنوات ضوئية عن خيار التنمية المستدامة و النهضة الشاملة في كل القطاعات. التسويف و التأجيل و بيع الأوهام و الركوب على إخفاقات الحكومات المتعاقبة، كان عنوان عقود طويلة من الزمن المهدور لهذا الوطن والمواطنين. الانتظارات و الأحلام و الآمال أصبحت في خبر كان. لكن الشيء المحزن و المخزي هو تلك الفوارق الصارخة بين مكونات المجتمع الواحد. طبقية مقيتة ، طبقية انتهازية في أبشع صورها. استغلال سياسي و اقتصادي و اجتماعي و ثقافي .
في خضم كل هذا كان الشاف موحا ، يبني جدارا عازلا بينه وبين العمال في المصنع و يتحدث بلغة خشبية مع الناس، بل أصبح يتكلم اللغة الفرنسية ك نوع من البرستيج و التميز الفئوي و بسبب تضخم الآنا لديه، و هذا حال الطبقة البرجوازية على حد سواء.
لم يتغير كثيرا حال العم خليفة، فقد حافظ على حسن تواصله مع العمال داخل المصنع و مع عامة الناس، بالرغم من مسؤولياته الجديدة داخل المصنع. حافظ العم خليفة على عاداته و خلقه الرفيع و دفاعه المستميت على حقوق العمال و التي هي أيضا كانت تمنح بنسب معينة لا ترتقي إلى ما هو مطلوب أو مفروض أن تكون عليه ك حد يضمن العيش الكريم للطبقات الدنيا و المتوسطة في الهرم الاجتماعي.
يقول العم خليفة، بأن أحلام أجيال تبخرت في الهواء من جراء سوء الحكامة و المناكفة السياسية و انشطار الحركة الوطنية منذ سنوات الاستقلال الأولى، و بروز أحزاب سياسية موسمية (دكاكين حزبية )حسب المناسبات الانتخابية و الأهداف و حسب المرحلة التي تمر بها البلاد.
اختلط الحابل بالنابل و كذلك المشهد السياسي بين أحزاب إدارية و أخرى معارضة أو كما تقول أحزاب وطنية، لكن قولة العم خليفة : ليس في القنافذ املس. تعطينا صورة واضحة عن حقيقة المشهد السياسي و الذي كان اقرب الى الصورية منه إلى تفاعل حقيقي و منافسة سياسية تصب في مصلحة الوطن والمواطنين.
اخفقنا الموعد مع كل الرهانات الكبرى، رهان التنمية و رهان بناء الإنسان و الأوطان. لم نستطع الخروج من عباءة التبعية المذلة للمعمر و لم نستطع تحقيق ذواتنا ، بالرغم من توفر كل شروط النهوض، لكن غياب الإرادة السياسية الفعالة و سوء الحكامة و التدبير و احتكار المشهد السياسي من جهات تعتمد الخطاب العدمي و الاحقية التاريخية، و تعتمد الخطاب الاقصائي و الأيديولوجي، زاد المشهد السياسي سوءا و جنينا الإخفاق تلو الإخفاق. يقول العم خليفة، قراءة اللحظة واجب على عقلاء هذا الوطن ، إذ كفى من هدر زمننا و زمن هذا الوطن . عاصر العم خليفة الفترة الاستعمارية و فترة الاستقلال، لكنه خرج ب تقاعد هزيل لا يكفي لسد احتياجاته الضرورية، إلا بشق الأنفس مع تزايد المتطلبات و كذلك الاستهلاك الشخصي للأسرة. يتذكر العم خليفة الفترة الاستعمارية و مشاركاته من غير علم منه نظرا لصغر سنه في إخفاء المجاهدين و اطعامهم و تزويدهم بالذخيرة و السلاح، و كيف كان يكابد المشاق و الصعاب في ذلك العمل البطولي، يتذكر و يحكي قصة شباب نذروا أنفسهم فداء للإسلام و الوطن. لكن الخيبات ما جنى الإنسان و الوطن. لم نستطع ابدا ان نتحرك قيد أنملة من ذلك القعر السحيق : قعر الزجاجة. و قد كان العم خليفة يردد قولة الشاعر الكبير بابلو نوريدا ليعطينا صورة واضحة عن واقع مر لازلنا متقوقعين فيه : منذ ولدت و الفقر يتبعني ،يطل علي من الشرفات و يناديني من أعماق الأمطار الساقطة في شوارع الوطن.

أحمد بن العربي
الونزاني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube