صحتك

طبيب الحياة…والموت


الدكتور سليم رشيد المغرب

بسبب مرض كورونا وكثرة الحالات التي تستدعي الانعاش الطبي وصل الأمر بالطبيب في بعض البلدان للتقرير في حياة المرضى. يُحيي ويُميت. يختار بين مرضى تتم مساعدتهم ويُمنحون فرصة الحياة، وبين مرضى يتم التخلي عنهم بحرمانهم من أجهزة التنفس ليحكم عليهم بالموت في ضرب صارخ للحق في الحياة.

قد يبدو للبعض الأمر مستجد غريب ومستهجن. بالنسبة لي وبحكم عملي لا جديد تحت الشمس. لم أعد أذكر عدد المرضى الذين فحصتهم كتبت لهم وصفة الدواء وفي الأخير سألوني: ولكنني لا أملك ثمن الدواء؟ أليس من حقي أن أتعالج؟ أليس من حقي أن أعيش؟

في الأول كان يمزقني السؤال. وكان يصل بي الأمر لشراء الدواء لهذا أو ذاك. لكن ولكثرة تكرار الأمر صار مع الوقت جزءا من الواقع اليومي الروتيني. لم يعد لدي الوقت لمناقشة هذا السؤال الوجودي كل يوم، فهناك مرضى وهناك حالات مستعجلة تنتظرني.

أنا إنسان. وككل البشر لي قدرة على التحمل. والله لا يكلف نفسا إلا وسعها…كثيرون يرددون هذه الآية. ولكن: ماذا بعد أن تتجاوز وسعك؟ ماذا يحصل؟ الذي يحصل أنك تصبح كائن غير أخلاقي…لا تهتم لمحنة الآخرين ولضائقتهم…تصبح معاناة الآخر شيء طبيعي وعادي لا يحرك فيك شعرة. ربما قد تنجح في تجاوز قدرتك وحدودك الذهنية والعاطفية لمرات قليلة. لكن إذا تكرر الأمر كثيرا، فإن الذات تعمل على إحداث فعل التعود phénomène de tolérance. وما كان يهز كيانك بالأمس من مآسي الآخرين تتقبله الذات وتتعود عليه ليصير أمرا لا يثير الانتباه. وهذا من عبثية الحياة وعدميتها. أن تصير مصائب الناس عادية…

ليس من السهل أن تدرك أن المشاعر قد تصير عدما دون قيمة. أنك يوما ما قد تشتكي ولا تجد في القلب الذي أمامك إلا صحراء من الرمال الميتة تقلبها حبة حبة فتجدها كلها ميتة جامدة. وفوق ذلك لا تستطيع أن تدينه أو تعتب عليه.

المستعجلات امتحان صعب لحدود الإنسان الذهنية والعاطفية. بعضهم يستنزف ويتخلى ويفر. بعضهم يتعود ويتأقلم لدرجة أنه يحيط نفسه بقشرة قاسية لا إنسانية. لكن الحل المتوازن هو أن تجد الدافع للعمل ليس من خلال كثرة التعاطف التي تستنزفك، بل من خلال مفهوم الواجب le devoir كما قال كانط. ولكن مفهوم الواجب يحتاج لتشجيع وتحفيز وتقدير وكلها بهارات غائبة…


المهم نعود لسؤالنا. أليس لكل هؤلاء المرضى الحق في الحياة؟ لقد كان جوابي على سؤالهم الملح المستمر بسيطا: وماذا تريد مني أن أفعل لك؟ إن عملي هو أن أفحصك وأصف لك الدواء فقط لا غير…هذا الجواب الصريح والمباشر كافي لإجهاض الحوار واسترسال الأسئلة. لكن الحوار استمر في دواخلي بين أخذ رد يحفر طريقه نحو الجواب…

سألتهم: ممن تطلبون أو تطالبون بالحق في الصحة والحياة؟

مني أنا؟ لست من يقرر.

من الله؟ إذن عليكم التوجه إليه بالدعاء.

مِنَ الطبيعة؟ الطبيعة تعتبر الحقوق مجرد أوهام اختلقها الضعفاء ليخفوا بها ضعفهم. الطبيعة ترغب بالموت وتحتفي به…فهي من يٌسلط الأمراض والأوبئة والعِلل على الإنسان. وهي من برمجت الكائنات على الشيخوخة والهرم والفناء
فإن كان الله يختبر الإنسان في الخير والشر فالطبيعة تختبره في القوة والضعف…الطبيعة تمقت الضعفاء وتنبذهم وتعتبرهم عالة عليها يجب التخلص منهم…ولا مجال هنا للتفاوض معها أو استجداؤها، فلغة القوة هي اللغة الوحيدة التي تعرف.

مِمَّن إذن؟ من الدولة؟

قديما كان العلاج بسيطا يعتمد على بعض الأعشاب والمراهم…إلخ. فكان متاحا للجميع. ولكنه لم يكن يغير من واقع الأمر شيئا. فالعليل عليل والسليم سليم. اليوم تقدم الطب كثيرا سواء من ناحية تقنيات الكشف Scanner IRMأو وسائل العلاج الدوائية والجراحية (علاج السيدا والتهاب الكبد الفيروسي وتصفية الكلى والعلاجات الهرمونية وصولا بزراعة الأعضاء كالكبد والقلب …إلخ). وكلها وسائل مكلفة. تعطي الأمل للناس في حياة أفضل. فصار الكل يرغب في الاستفادة منها، سواء كان له مدخول أم لم يكن له مدخول. فالأمل والرغبة في الحياة هو مطمح إنساني، وكل شخص حينما يصاب أو يمرض يرى أن الحياة نفيسة ولا تقدر بثمن. ومع ذلك فالإمكانيات محدودة ولا يمكن أن تسمح للجميع بالولوج إلى أجود الخدمات الصحية الممكنة.

لحل هذه المعضلة انقسمت البلدان اتجاهين:
اتجاه يكرس مبدأ التنافس الطبيعي. فالحق في الصحة لا يمكن أن يوزع بين الناس بطريقة متساوية، الفرد المنتج يحظى بتأمين صحي جيد، أما الفرد غير المنتج فلا يحظى بتغطية صحية بنفس الجودة أو قد لا يحظى البتة بالحق في العلاج والحياة، وبالتالي فهو لا يرقى إلى مستوى الإنسانية إلا بقدر ما يملك.

اتجاه يسعى للانتقال من مستوى التنافس الطبيعي الصرف إلى مستوى الثقافي الإنساني. فأرسى بالتالي نظام رعاية اجتماعي صحي تكافلي بحيث أن من يملك أموال أكثر، يمول المنظومة التي يستفيد منها الجميع بمن فيهم من لا يملك. لكن ما حدث في بعض البلدان أن الأثرياء لا يساهمون في هذه المنظومة بطريقة متناسبة مع ثراءهم، بالمقابل نسبة الضعفاء والفقراء والمتملصين والمتهربين من الأداء كثيرون. كل ذلك يولد ضغطا على الطبقة المتوسطة التي تمول منظومة صحية مهترئة ينهش من لحمها الجميع. وبالتالي التكافل في الصحة يتحول إلى التكافل في عدم الصحة. والمساوة تتحول إلى مساواة بين الجميع في اللاصحة.

بين هذا الاتجاه وذاك. وبين هذه المحاولة وتلك، هناك لحظات نجح فيها الإنسان في إضفاء صبغته ولمسته الإنسانية على الوجود. بالمقابل هناك لحظات بشعة يفشل فيها الإنسان في ذلك، لتنكشف فيها واقعية الطبيعة المتوحشة العدمية التي لا ترحم ولا تعترف بأي قيمة للإنسان…في مثل هذه اللحظات لا أملك أجوبة تشفي غليل المرضى. أعلم فقط أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ولا حقوق.





اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube